تحت جنح الظلام، ومن دون إعلانات رسميّة مُطنطِنة، وفي غياب وزير الدفاع الذي لا يفوّت فرصة للتنويه بإنجازات ــ غير موجودة ــ له، تملّصت حكومة لبنان من القرار الشهير بتجهيز روسيا لبيروت بطائرات الميغ. والموضوع كان يمكن السكوت عنه لو أن المرّ هذا لم يُصدِح الكون بنجاحه الباهر في الحصول على طائرات الميغ. والوزير الذي اعتبر أن وصول الميغ هو من المتغيّرات الاستراتيجيّة في المنطقة العربيّة، غاب عن السمع. والإعلام اللبناني نسي الموضوع ــ ولا علاقة لذلك بإكراميّات أبي الياس وعطاءاته الشهريّة
أسعد أبو خليل *
فجأة، اكتشفنا أن طائرات الميغ التي هلّل لها لبنان وطبّل، لن تأتي. كاد العلم اللبناني أن يتزيّن بطائرات الميغ. وانتظار طائرات الميغ تحوّل على امتداد الأشهر إلى نوع من انتظار غودو. ويُسأل الوزير الياس المرّ عن الموضوع ويسارع إلى الإجابة أن الطائرات هي على وشك الوصول، وأن ما على الأفئدة والحناجر إلا الانتظار. وقد أطلّ المرّ في برنامج «كلام (بعض) الناس» قبل أسابيع فقط وتحدّث بإسهاب عن طائرات الميغ. وعزا تأخير الوصول إلى مسائل إجرائيّة وتقنيّة، وعدّد الأسباب البريئة للتأخير وذكر منها: تأخّر تأليف الحكومة، توعّك أبي الياس، الخلاف بين سمير جعجع وبيار الضاهر، أزمة معابر غزة، وكاد أن يضيف أن الحرب الأهليّة في الكونغو لعبت دوراً سلبيّاً في سرعة وصول الطائرات. طبعاً، لم يزعج مارسيل غانم ضيفَه وصديقَه (الذي كان قد استضافه في حقبة رستم غزالة للحديث عن خطر «عبدة الشيطان» المستطير، لأن الياس المرّ يرى في خطرهم ما يفوق خطر العدوّ الإسرائيلي).
لكن المساءلة واجبة في هذا الموضوع، وخصوصاً أن وزير دفاع دولة ـــــ تتعرّض للتهديد اليومي ـــــ أصبح لسنوات مهزلة المهازل في الحياة السياسيّة اللبنانيّة. وهو نتاج مدرسة نفاقيّة في السياسة اللبنانيّة: أبو الياس المرّ تحوّل بقدرة قادر من عرّاب المرحلة الإسرائيلية وتنصيب إسرائيل لأسوأ لبناني على الإطلاق رئيساً للجمهوريّة عام 1982 (وقد ساهمت إسرائيل في رشوة النوّاب آنذاك)، تحوّل إلى عرّاب للمرحلة السوريّة بكل مراحلها، وأصرّت استخبارات الدولة السوريّة على تنصيبه هو أو ابنه في مواقع حكوميّة حسّاسة. أذكر عندما رأيت سليم الحص يوم كان رئيساً للوزراء في عهد لحّود، أنني سألته عن سبب توزير المرّ في حكومة أعلنت الحرب على الفساد. شعرت قبل أن يجيبني أنه مُحرج من الجواب، واكتفى بالقول إنه لم يكن موافقاً على التوزير لكن قوى «إقليميّة» أصرّت، ثم طلب منّي تغيير الموضوع. وبلغ إلياس المرّ سن الوزارة برعاية من الاستخبارات السوريّة نفسها، وإن عاد بعد ذلك ليصول ويجول في زعم البطولة ضد النظام السوري. لكن هذا موضوع آخر.
لماذا لم يكتشف لبنان قبل اليوم عدم ملاءمة الطائرات الروسيّة لظروفه؟
الموضوع الأساسي أن وزير الدفاع اللبناني فقد كل مصداقيّة له في حرب تمّوز، إذا لم نرد أن نقول إنه فقد المصداقيّة قبل أن يجلس على كرسي الوزارة بسبب ظروف توزيره. كان إلياس المرّ يشدّد في الأيام الأولى لعدوان إسرائيل على لبنان على أن الجيش سيدافع عن لبنان، وأعلن أن الجيش «سيلقّن العدو درساً لن ينساه» لو تقدّمت قوّاته في الأراضي اللبنانيّة. وعندما تقدّمت قوات العدو (وإن ببطءٍ مُذلّ)، اختفى وزير الدفاع وترك أمر الدفاع عن لبنان لصبية من البواسل الذين لقّنوا العدو درساً لن ينساه بحق. هي معركة النصر البشري تلك. وكان يمكن لو أن لبنان دولة بحق أن تجري محاسبة ومحاكمة لأداء المرّ أثناء تعرّض لبنان لعدوان وحشي لا مثيل له في تاريخ العدوان الإسرائيلي غير المتوقّف. وعاد المرّ المرّة تلو المرّة إلى موقع الوزارة، مما أعطى صورة حقيقيّة غير جميلة عن طابع العهد الجديد. لا يمكن أن تتوقّع الحكم الفاضل في عهدة أبي الياس المرّ وابنه، الذي يتحدّث ببطء شديد لظنّه أن بطء الكلام يضفي على مُلقيه هيبة يرومها.
وذهب المرّ في تلك الرحلة الشهيرة إلى موسكو، واعتمر قبّعة سميكة إمعاناً في إظهار الجديّة في الزيارة. واصطحب معه كعادته فريقاً صحافياً عرمرمياً وكاميرات تلفزيونيّة من «إل.بي.سي» (وهو مثله مثل وزير الداخليّة، زياد بارود، الذي يفاجئ حواجز قوى الأمن في الليل بزيارات تفقديّة، مع أن كاميرات الشبكات التلفزيونيّة لا تفارقه ـــــ يبدو أنها تقع عليه، أو هو يقع عليها بالصدفة). ومن موسكو تحدّث إلياس المرّ عن إنجازه، وكيف أنه «فوجئ» بهذا السخاء الروسي، وكيف أن الطائرات من شأنها (إذا أضيفت إلى طائراتي الهوكر هونتر اللتيْن تشكلان سلاح الجو اللبنانيّ بكامله، هذا إذا لم تُحسَب سلالم بحوزة الجيش، وهي تستطيع أن تذهب بك إلى الأعلى) من شأنها أن تحصّن لبنان. وعندما سأل البعض في الصحافة الوزير المرّ عن إنجازه هذا وإذا كانت أميركا ستسمح للجيش اللبناني بالتزوّد بطائرات الميغ، قطّب المرّ حاجبيْه وخطب في موضوع سيادة لبنان وعزّته. ثم، اختفى موضوع طائرات الميغ إلى أن تحدّث المرّ عنه في البرنامج التلفزيوني المذكور.
ولكن بين إعلان حصول لبنان على طائرات الميغ (وقد أسهبت الصحافة في لبنان في التنويه بإنجاز إلياس ونشرت صوراً ملوّنة ورسوماً عن مواصفات الطائرات تلك ـــــ كادت النسوة أن يغنين عن الميغ مثلما غنّى جيل سابق لباخرة «الروزانا» التي ذهبت مثلاً) وقرار «إلغاء» الصفقة زيارةٌ من المرّ لواشنطن. أي إن في موضوع إلغاء الصفقة ما هو «أبعد من موسكو وواشنطن»، كما يقول عنوان أحد كتب ميخائيل نعيمة. وفي واشنطن ـــــ مصطحباً كعادته جيشاً من الصحافيّين وكاميرات من «إل.بي.سي» و«المستقبل الوهابي» ـــــ أعلن إلياس، مرّة أخرى، أنه «فوجئ» (وهو دائماً يُفاجأ بالسخاء الأميركي والروسي نحوه ربما لعلمهما بنظريّاته في العلم العسكري والدفاع التي تُدرّس في الكليّات العسكريّة حول العالم، مثلما أعلنت جريدة «الحياة» أن «نظريّات» خالد بن سلطان تُدرّس في الكليّات العسكريّة حول العالم) بتقديم واشنطن لقائمة من المساعدات العسكريّة للجيش. لكن أي قارئ يستطيع أن يتأكّد أن المساعدات العسكريّة الأميركيّة للبنان غايتها قمع التمرّد والشغب والثورة في داخل لبنان. أي إن برنامج المساعدات الأميركيّة للبنان (وقد تضاعف بعد اغتيال رفيق الحريري) يستهدف الدفاع عن حكومة لبنان بوجه الأعداء الداخليّين، لا الدفاع عن لبنان بوجه إسرائيل. وأي نظرة للتثبّت من زيادة المساعدات بعد تبوُّء السنيورة تكفي لكشف الأهداف الأميركيّة في حماية الحكومات المُوالية لها، لا في حماية الدولة (أية دولة عربيّة) من إسرائيل. وتحرص أميركا في المقابل على عدم حماية لبنان من عدوان إسرائيل. وإبدال الطائرات بالطوّافات يبشّر بحرب جديدة على مخيّم فلسطيني آخر آهل بالسكان.
وعاد المرّ من واشنطن وعاد بكلام دعائي تقليدي عن «طائرات»، فيما هي طائرات تُستعمل هنا لرش المبيدات فوق المزروعات. حوّلها الصحافيّون الموالون لآل المرّ إلى طائرات مقاتلة. ووفق هذا التعريف، يصبح الـ«تليفريك» طائرة مقاتلة تسمح بمواجهة إسرائيل. واللجان النيابيّة في لبنان لا تقوم بعملها. لو قامت بعملها، لعقدت لجنة الدفاع والداخليّة جلسة طارئة لكشف ملابسات ما حدث لطائرات المرّ. يجب أن يُسأل إلياس المرّ عن العلاقة ـــــ إذا وجدت ـــــ بين زيارة واشنطن (واللقاء مع عزيزهم «جيف» ـــــ الحليف الوثيق لعتاة الصهاينة وكارهي العرب والمسلمين هنا، وقد بارك أخيراً كتاباً ينضح بالعنصريّة والكراهيّة ضد العرب والإسلام لليكودي «لي سميث»، نصير ثورة «(حرّاس) الأرز») والإعلان المفاجئ عن إلغاء صفقة الطائرات. أما الكلام المُسرّب من القصر الجمهوري عن قرار محض لبناني وبناءً على تقييم عسكري لبناني بحت، فهو كلام لا يُقنع إلا الأخرق أو الرضيع. ألم يكن وزير الدفاع يصطحب وفداً عسكريّاً رفيعاً إلى موسكو عندما أعلن خبر تلقّي الطائرات؟ ولماذا لم يكتشف لبنان عدم ملاءمة الطائرات قبل اليوم، مع العلم أن المرّ وخبراءه كانوا هم أنفسهم يزهون بخبر تلقّي الطائرات؟ الأمر مشبوه على أقلّ تقدير.
وفي غمرة مهزلة طائرات الميغ أو فضيحتها، يُعلن عن التئام عقد هيئة الحوار (الطائفي، لا الوطني) والتصدّي لموضوع «الاستراتيجيا الدفاعيّة» ـــــ والعنوان، على الأقل بالنسبة لفريق «الأمير مقرن أولاً»، لا يعني إلا نزع سلاح المقاومة. وهذه اللجنة ستسمح لحلفاء إسرائيل (في السابق؟) بتقديم المشورة في ما يتعلّق بالدفاع عن لبنان بوجه عدوان... إسرائيل. وأمين الجميّل الذي اعتنق، وحاول أن يفرض، اتفاق 17 أيار الذليل، قبل أن تجبره ثورة مسلّحة على طيّه، يعود ليصبح خبيراً في موضوع الدفاع عن لبنان، وهو الذي لم يستطع أن يحمي قصره في بعبدا من إسرائيل، والذي استقبل أرييل شارون وقادة العدو بقصر العائلة في بكفيّا. لكن سمير جعجع والجميّل تغيّرا لأنهما اعتنقا «العروبة الحضاريّة» ـــــ هكذا يُسمون التحالف مع الأمير مقرن في لبنان.
لكن لبنان ليس جديّاً في مواجهة إسرائيل، ولا حتى في الدفاع عن أرضه. الخلل بدأ في صيغة الطائف التي تحدّثت عن «توحيد القوات المسلحة وإعدادها وتدريبها لتكون قادرة على تحمل مسؤولياتها الوطنيّة في مواجهة العدوان الإسرائيلي». وبين تاريخ إقرار الصيغة هذه وعدوان تموز ما يقارب العقديْن من الزمن، أو أقل بقليل، ولم يبدر من الجيش ما يشير إلى القدرة على تحمّل المسؤوليّات الوطنيّة في مواجهة عدوان إسرائيل. طبعاً، هناك من يذكّر بتغيير عقيدة الجيش (من عقيدة مُتحابة مع إسرائيل قبل الحرب الأهليّة حين كانت تتحوّل اجتماعات لجان الهدنة إلى حفلات سمر وإعلان الهويّة الفينيقيّة للوفد اللبناني ـــــ كما حصل في أول اجتماع للجنة الهدنة ـــــ إلى تسريب النأي الرسمي اللبناني عن أية مواجهة بين الجيوش العربيّة وإسرائيل)، وهناك من سيقول إن الجيش تغيّر.
وهنا نصل إلى بيت القصيد. إن تغيير عقيدة الجيش ليس، كما صوّرت قيادة الجيش منذ الطائف، عمليّة إنشائية أو أدبيّة تتعلّق ببيان أو بأمر اليوم أو الغد. يترتّب على تغيير عقيدة الجيش تغيير في التسليح والتدريب لهذا الجيش، كما أنه يترتّب على ذلك تغيير في الدبلوماسيّة والسياسة الخارجيّة للبلد المعيّن. لا تتغيّر عقيدة الجيش في لبنان ما لم يتم ذلك بالتناسق مع تغيير جذري في التدريب وفي الإعداد والتسليح. إن تغيير عقيدة الجيش يتطلّب إعداداً هائلاً في طبيعة الجيش اللبناني، وهذا الأمر لم يحدث. إن عقيدة العداء لإسرائيل وعدوانها تقتضي بناء جيش عصري حديث مؤهّل لمواجهة إسرائيل إما وفقاً لحرب تقليديّة أو وفقاً لحرب العصابات. وكلا الأمريْن لم يحدث بعد، ولم يُتطرَّق إليهما. أي إن عقيدة الجيش اللبناني لم تتغيّر فعليّاً لأن السلاح هو نفسه والدبلوماسيّة هي نفسها.
طبعاً، لن تسمح الولايات المتحدة للبنان بإعداد جيش قوي لمواجهة إسرائيل، ولكن على لبنان الإقرار بذلك أمام الرأي العام بدل فضيحة التستّر على الفيتو الأميركي الذي منع الجيش من تلقّي طائرات الميغ، وشارك في هذا التستّر ليس فقط وزير الدفاع الهزلي بل رئيس الجمهوريّة نفسه الذي صوّر قرار إلغاء صفقة الطائرات مبنياً على اعتبارات لبنانيّة تقنيّة، وفي هذا خداع ما بعده خداع. لماذا لا يُعلن رئيس الجمهوريّة السبب الحقيقي الصادر من واشنطن؟ وعنها؟
ستلتئم هيئة الحوار وستكرّر تجربة الخداع والتكاذب السابقة. لمَ لا تُعلن الأمور بصراحة؟ فريق السنيورة وتوابعه من قوّات وكتائب لا يريد مواجهة إسرائيل أو الدفاع عن لبنان بوجه عدوان إسرائيل. هؤلاء يؤمنون بضرورة الاستسلام أمام إسرائيل، ويستعملون عبارات من نوع «لا نريد لبنان ساحة مواجهة»، موحين بذلك بأن البادئ بالحروب الإسرائيليّة على لبنان هم أطراف مرتبطون بسوريا أو بإيران، وكأن لا نيّات أو دوافع عدوانيّة لدى إسرائيل حيال لبنان، قبل إنشاء الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران وقبل ولادة حزب الله وقبل وصول البعث إلى السلطة في سوريا. لكن هذا الفريق يتجاهل المعاناة التاريخيّة لأهل الجنوب على يد العدو الإسرائيلي. هذا الفريق يهرع، مثله مثل السادات، للتوصّل إلى اتفاق سلام مع إسرائيل ـــــ هذا هو المشروع الحقيقي لفقيد عائلته، رفيق الحريري. وما عدا ذلك كلام دعائي مدفوع ثمنه من العائلة.
وسائل الإعلام تتعامل مع توقيف شبكات التجسّس مثل التعامل مع اعتقال أفراد عصابة للسرقة
لو أن الدولة جادّة في تحقيق استراتيجيا دفاعيّة للبنان، لأقرّت بعدم جهوزيّتها. ورئيس الجمهوريّة يقول في حديث مع جريدة «الشرق» إنه يمكن الاستعانة بالمقاومة إذا لم ينجح الجيش في صدّ العدوان. لن نسأل رئيس الجمهوريّة عن تجارب الجيش اللبناني في صدّ العدوان، لكننا نسأل عن محاولة ـــــ فقط محاولة ـــــ الجيش اللبناني عبر تاريخه صدّ العدوان؟ متى وكيف وأين؟ لم يحصل ذلك. وميشال سليمان كان قائداً للجيش أثناء عدوان تمّوز، فلماذا لم يأمر بصدّ العدوان وترك أمر الدفاع عن لبنان لصبية من المتطوّعين الذين يتعرّضون للإهانة بصورة يوميّة في إعلام الحريري ـــــ السعودي؟ يستطيع لبنان أن يلتزم باستراتيجيا دفاعيّة جادّة فيما لو أعلن أن أميركا تمنع الجيش اللبناني من أن يكون جيشاً، وأنه سيتحوّل رسميّاً إلى ما كان عليه أثناء عهد الانتداب، أي فرقة «جندرمة»، كما يقال بالتركيّة. لكن الجيش، الذي أقنع نفسه وأقنع الشعب اللبناني بأنه يستطيع أن يثبت فحولته في قصف مخيّم فلسطيني آهل بالسكان، بينما يتنصّل من مهمة الدفاع عن أرض لبنان في وجه المعتدي الأكبر والتاريخي، غير مؤهّل. وبعد أن يُعلن الجيش أنه غير قادر على الدفاع عن لبنان، تستطيع الدولة اللبنانيّة أن تفعل ما يلي: 1) إعلان رسمي مفصّل ومُفنّد أن لبنان في حلّ من القرار 1701 والقرار 425 الذي لم يُطبّق. والإعلان أن الإخلال المتكرّر بالقرار الدولي يُثبت بالقاطع أن القوات الدولية موجودة لحماية إسرائيل من مقاومتها، وليس لحماية لبنان من إسرائيل. يكفي قراءة تقرير بان كي مون الذي يعظ لبنان، أو يأمره، بضرورة وقف تسلّح مقاومته، فيما لا يمكن تصوّر أنه سينصح ـــــ مجرّد النصح ـــــ لإسرائيل بتخفيف تسلّحها. نجح القرار 1701 المشؤوم في تحويل الجبهة اللبنانيّة ـــــ الإسرائيليّة إلى نسق آخر من جبهة الجولان، كما وصف الرفيق عزمي بشارة في مقالة أخيرة له. 2) نقض قرار الهدنة بعدما نقضته إسرائيل منذ أول توقيع. واتفاق الهدنة سمح بلقاءات مشينة بين وفد عسكري عدو ووفود عسكريّة لبنانيّة، تخلّلها في أحايين غزل شبه إباحي بين الفريقيْن. 3) أخذ فضيحة شبكات التجسّس الإسرائيليّة على محمل الجدّ، وخصوصاً تلك التي نخرت في جسم المؤسّسة العسكريّة والأجهزة الأمنيّة، وإنشاء لجنة تحقيق بإشراف قائد الجيش لمعرفة أسباب هذا التغلغل العدو ـــــ وإن طاول أفراداً. ليس ذلك بالأمر الهيّن، ووسائل الإعلام تتعامل مع توقيف شبكات التجسّس مثل التعامل مع اعتقال أفراد عصابة للسرقة. 4) الإصرار على ترك المقاومة كما هي، بإمرتها هي وبأمنها هي. أي ان لا حاجة لإصلاح ما لم ينكسر. 5) التوقّف عن استعمال عبارة «تهريب السلاح» للمقاومة. هذه العبارة مصطلح صهيوني. يجب أن تتبنّى الدولة مدّ ـــــ لا تهريب ـــــ المقاومة بالسلاح من كل حدب وصوب ووفق رؤيتها العسكريّة الخاصّة بها. ويجب دعوة كل من يريد مقاومة إسرائيل بالسلاح إلى التطوّع، على أن تتولّى الدولة ـــــ التي تنفق أكثر من 30 مليون دولار سنويّاً لمعرفة هويّة قاتل فقيد عائلة الحريري ـــــ شأن التدريب والتمويل. 6) التصدّي لأصدقاء إسرائيل في لبنان ـــــ وهم كثر اليوم، ومنهم من زارها خفية ومن زارها علانية ـــــ عندما يعيبون على المقاومة أنها تنحصر بطائفة واحدة، ومطالبة هؤلاء بالتطوّع في فرقة منفصلة يقوم الجيش بإعدادها لمساعدة المقاومة أو لإعداد الأطعمة للمقاتلين. هؤلاء الذين عابوا على المقاومة لونها الطائفي لم يتطوّعوا لمقاومة إسرائيل في 2006. تستطيع الأمانة العامة لـ14 آذار التوجّه إلى الجنوب بثياب الميدان إذا كان أعضاؤها يحرصون على التنويع الطائفي في بنية المقاومة. هم ينسون أن تلك الحرب قضت على كل ما تلاها من خطط استراتيجيّة للفريق الحاكم. 7) جعل القرار الثاني في الحرب والسلم ـــــ لأن القرار الأول هو دائماً بيد المعتدي الإسرائيلي ـــــ في اليد الحصريّة للمقاومة لأنها وحدها تدافع عن لبنان. 8) الحفاظ على السريّة التامة للمقاومة إلا إذا كان الهدف ـــــ وهو الهدف ـــــ اختراق المقاومة خدمة لإسرائيل. 9) تنفيذ عقوبات فوريّة بحق عملاء إسرائيل في لبنان. هذا التساهل في قضيّة العملاء وجزّاري جيش لحد سهّل إعادة تجربة العمالة. 10) الإقلاع عن خطاب «عدم تقديم الذريعة لإسرائيل» لأن الحجة صهيونيّة وتفترض منطقيّاً أن إسرائيل لا تعتدي إلا ردّاً على اعتداء، مع أن العرب بادروا مرّة واحدة إلى الحرب على إسرائيل في كل تاريخ الصراع.
بإعلان إلغاء صفقة الطائرات الوهميّة تتكشّف حقيقة الاستراتيجيا الدفاعيّة للفريق الحاكم. تبيّن بالقاطع أن طائرات إلياس المرّ هي طائرات ورقيّة، وأن خطته الدفاعيّة خطة ورقيّة هي الأخرى. يستطيع إلياس المرّ أن يتنحّى جانباً، وأن يتولّى وزارة جديدة لمكافحة خطر «عبدة الشيطان» (والتصدّي لهذا الخطر هو الاختصاص الحقيقي لابن أبي الياس المرّ). وتستطيع المقاومة أن تقاوم. أما الأمانة العامة لـ14 آذار، فهي منصرفة لأمور أخرى، وهي ترفض أن تدين التهديدات الإسرائيليّة للبنان بالاسم فتتحدّث عن «تهديدات خارجيّة» ـــــ أي إنها مجهولة المصدر. البراءة تتمثّل في بيانات الأمانة العامة. أما هيئة الحوار، فيمكنها أن تلتئم وأن تتداول أموراً أخرى مهمّة. وبعد صحن الحمّص العملاق، ماذا عن صحن كوسا محشوّ عملاق؟ هل تجرؤ الصهيونيّة على مقارعة صحن محشوّ عملاق؟ من المستحيل.
ملاحظة:
يقوم الإعلام الصهيوني بحملات مكثّفة للردّ على أعداء إسرائيل. وهناك من يكتب تعليقات صهيونيّة على مواقع الصحف الإسرائيليّة منتحلاً اسم «العربي الغاضب» مع إقرانه باسمي الأوّل. لكن الكذب والخداع والاختلاق والفبركة جزء لا يتجزأ من الدعاية الصهيونيّة. النبيه (والنبيهة) يدرك ذلك. يبقى أن نسترشد بشعار وديع حدّاد: ... «في كل مكان».
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)