حسان الزينفي ظل غياب الاتحاد العمالي العام والإحساس الاجتماعي لدى الطاقم السياسي ومعظم المواطنين، تُعيد رابطة أساتذة التعليم الثانوي الرسمي الاعتبار، لا إلى العمل والنضال النقابيين فحسب، بل أيضاً إلى المجتمع والعناوين الإنسانية والواقعية، التي تحجبها السياسة اللبنانية وأفرقاء الطاقم السياسي كافةً. وفوق هذا، تُقدّم الرابطة التعليمية نموذجاً للعمل النقابي المتحرر من الحزبية، من دون إلغاء الانتماءات الحزبية. فهي تجتمع على عناوين وبرنامج عمل طالعَين من واقع الأساتذة وحقوقهم. وإذ تؤسّس خطابها وتحركها بناءً على واقع التعليم عموماً، والرسمي خصوصاً، تتجاوز ذلك نحو المجتمع ككل، وأداء السلطة تجاه التعليم، وتجاه المجتمع والمواطنين.
أساتذة التعليم الثانوي الرسمي يقدّمون، من خلال رابطتهم، ما يُنتظر منهم، ويستوجب التحية، ولا سيما أنهم يعملون ويناضلون في ظل منعهم من حق التنظيم النقابي، وواقع صعب، سياسياً وطائفياً وحياتياً ومادياً. والأهم، أنهم يكافحون، في حياتهم وفي عملهم ونضالهم، بالحد الأدنى الذي يستطيعون توفيره، باللحم الحي.
لعل في كون الأساتذة ورابطتهم أيتامَ الطاقم السياسي ما يخدمهم، لكن الأساس في الموضوع أنهم يتحسسون واقعهم، ويدركون مطالبهم وحقوقهم الوظيفية والاجتماعية، على خلاف الكثير من اللبنانيين والنقابات والجمعيّات والمؤسسات الأهلية والمدنية... وحتى الأحزاب، التي ينتمي إليها أساتذة كثيرون. لكن انتماءً عن انتماءٍ يختلف. فهؤلاء الأساتذة، وهم يكوّنون رابطتهم المنتشرة في الأراضي اللبنانية كلها، وفي 260 ثانوية رسمية، لا ينتجون رابطة بيروقراطية فوقية القيادة ومتماهية مع قوى سياسيّة. تجمعهم الثقة ويحرّكهم الحرص على واقعهم، ليس الشخصي وحسب، بل يتفوّقون على ذلك في رفع الصوت مطالبين بتحسين التعليم الرسمي عموماً، الأساسي والمتوسط والثانوي والتقني والمهني والجامعي أيضاً.
جميل ويدعو إلى التفاؤل وجود مواطنين في هذا البلد يقاربون حياتهم وقضاياهم ومجتمعهم ووطنهم على هذا النحو. جميل ويدعو إلى التفاؤل أن يكون يساريُّون في مقدمة عمل نقابي، واليسار، سياسياً وتنظيمياً، في حال صعبة، وأن يكون هؤلاء اليساريّون مختارين من زملائهم ليكونوا الأكثر إقداماً. جميل أن يذكّر مواطنون لبنانيون بتعاونية موظفي الدولة، ويُلقوا الضوء على تركيبتها، ومن خلالها على مؤسسات الدولة كلها، والواجبات التي يؤدّونها لها من دون أن ينالوا حقوقهم، أو ما يوازي تقديماتهم إليها. جميل أن يفتّح الأساتذة الذهن على التعليم الرسمي وصنع القرار البيروقراطي فيه، مطالبين بأن يكونوا شركاء وهم أدرى بالشعاب. جميل أن يدعو الاساتذة، عبر رابطتهم، إلى التظاهر والإضراب تحت عناوين اجتماعية وتربوية وإنسانية، لا ضمن الاصطفافات الطائفية والسياسية التي لا تأخذ بالاعتبار المواطنَ وحقوقَه ومجتمعَه، كما في الحياة والعيش كذلك في صنع المستقبل. جميل أن يكون في البلد أساتذة وليس على رأسهم أستاذٌ أو شيخٌ أو عمادٌ أو بيكٌ أو أمينٌ عامّ، ومُفتٍ أو بطريرك.
ليس في الأمر مديح لتراث يساري، السياسةُ والمجتمعُ بحاجة إليه، بالتأكيد. ولا هو حنين إلى زمن غلبته الحروب والطواقم السياسية المتناسلة. وحتى لو كان كذلك، الأساتذة يعيدون الاعتبار إلى الواقع اللبناني الذي يعيش فيه كل مواطن، فيما الأغلبية نائمة في سرير السياسة، بل في حجرة الطاقم السياسي، وتغفل حتى عن واقعها، لمصلحة عناوين لا تنجز شيئاً إلّا زيادة اغتراب المواطنين وإفقادهم أدوات تحقيق حياتهم وحقوقهم وأهدافهم.
وبالرغم من ذلك، ليس الأساتذة ورابطتهم بديلاً من اللبنانيين والنقابات والأحزاب. وهم لا يطرحون الأمر على هذا النحو. وهم ليسوا الوحيدين في الظلم والإهمال والبؤس والقسوة. كل ما في الأمر، أنهم مجموعة من المواطنين الذين جار عليهم الطاقم السياسي وحروبه، وسلبَ حقوقهم حتى الإفقار والتهميش، قرروا، وهذه أكبر فضائلهم، أن يواجهوا طاقماً سياسيّاً لديه من أدوات التفتيت والترويض والقرصنة والفساد ما يجعله قادراً على تخدير أيّ مجموعة وتقسيمها وحرفها، وهو يخدّر البلد بأكمله ويقسمه ويحرفه.
إنهم، أي الأساتذة، كمن يصرخ في البئر الحقيقية التي أُنزلنا إليها، وقد بادروا ليشيروا إلينا جميعاً، إلى واقعنا وحقوقنا والأهداف التي علينا صوغها والشروع في ورشة تحقيقها. إنهم يكشفون عن الوجع والبؤس الاجتماعيين، وعن الفساد السياسي والاقتصادي، ويهزّون طاولات المحاصصة والتقاسم.
إنهم الأساتذة... أساتذة.