قرأتُ قبل أيّام (ولم أتبلغْ قانونيّاً بعد) الخبرَ التالي في الصحف: «أصدرتْ محكمةُ المطبوعات في بيروت حكماً يقضي بتغريم كلٍّ من سماح إدريس وعايدة مطرجي إدريس مبلغَ ستة ملايين ليرة لبنانيّة، وإلزامهما أن يدفعا بالتكافل والتضامن مبلغَ مئة ألف ليرة كتعويض رمزيّ للمدّعي فخري كريم وَلي، وبإلزامهما بنشر خلاصة عن الحكم على نفقتهما في مجلة الآداب في العدد الأول بعد تبلّغهما الحكمَ. وكان المدّعي، وهو من الجنسيّة العراقيّة، قد تقدّم بشكوى مباشرة على مجلة الآداب، ممثّلةً بصاحبيْها سهيل وسماح إدريس والمدير المسؤول في المجلة عايدة مطرجي إدريس وكاتب المقال سماح إدريس، في جرم القدح والذمّ»
سماح إدريس *
من حقّ قرّاء جريدة «الأخبار» عليّ أن يَعلموا مجرياتِ الدعوى التي رفعها «مستشارُ الرئيس العراقيّ» بسبب افتتاحيّة نشرتْها مجلةُ الآداب ربيعَ عام 2007، ولماذا قرّرتُ اليوم استئنافَ الحكم. فقد نشرت الجريدة بين 19/12/2007 و25/4/2008 عشرَ مقالات، فضلاً عن تحقيق من سوريا، وكلُّها يَشْجب الدعوى، و/أو يسلّط الضوءَ على تاريخ اليسار في العراق وعلى السيّد المستشار، وبعضُها جاء من أشخاص ربطتهم بهذا الأخير في السابق علاقاتٌ سياسيّةٌ وثيقةٌ، الأمرُ الذي قد يُسهم في نفي مزاعم «القدح والذمّ» و«سوءِ النيّة» الشخصيّة من طرفي تجاه المدّعي. كما نشرت الجريدة «وثيقةَ شرفٍ بين أنصار الكلمة الحرّة»، وقّعها أكثرُ من ألف عامل في الشأن الثقافيّ والسياسيّ والاجتماعيّ والقانونيّ، ومن شتّى المشارب السياسيّة، ومن بينهم من لبنان: رئيسُ الوزراء الأسبق سليم الحصّ، والوزراءُ السابقون جورج قرم وألبير منصور وعصام نعمان، والنائبُ الحاليّ عن حزب الله علي فيّاض، ومسؤولُ الدراسات في التيّار الوطنيّ الحرّ أدونيس العكرة، ورئيسُ حركة الشعب النائب السابق نجاح واكيم، والقياديّان في الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ سعد الله مزرعاني وماري الدبس، والراحلون الكبار المخرجة السينمائيّة رندة الشهّال والمثقفان المناضلان شفيق الحوت وأنيس صايغ، والمحامون ألبير فرحات وإلياس مطران وطلال شرارة وصلاح الدين الدبّاغ، والمؤرّخان بيان نويْهض الحوت ومسعود ضاهر، والمخرجان السينمائيّان جان شمعون وميّ المصري، والمخرجان المسرحيّان روجيه عسّاف وحنان الحاج علي، والناشر ورئيسُ المؤتمر القوميّ العربيّ حاليّاً خير الدين حسيب، والمفكّر منح الصلح، والخبير الاقتصاديّ كمال حمدان، والسياسيّ الناشط معن بشّور، والأساتذة الأكاديميّون أحمد دلاّل وزياد حافظ ونداء أبو مراد وسعاد جوزف وأسعد أبو خليل ورانية المصري ورامي زريق وماهر جرّار ونهلة الشهّال وجلال توفيق. وممّا ورد فيها:
«استناداً إلى المادة ج من مقدّمة الدستور اللبنانيّ التي جاء فيها أنّ لبنان جمهوريّةٌ ديموقراطيّةٌ برلمانيّةٌ تقوم على احترام الحريّات العامّة، وفي طليعتها حريّةُ الرأي والمعتقد؛ وكذلك استناداً إلى المادة الثالثة عشرة من الفصل الثاني التي كَفلتْ حريّةَ إبداء الرأي...؛ واقتداءً بالأعراف والتقاليد التي نشأنا عليها، والتي كانت ولا تزال تفتح المجالَ لمناقشة كلّ ما يَرِدُ في الإعلام مناقشةً عقلانيّةً حرّة...؛ واحتراماً للقانون الذي لا يكون فيه اللجوءُ إلى القضاء إلاّ في حال تمنُّعِ الوسيلة الإعلاميّة عن نشر الرأي المضادّ؛ فإننا نتقدّم... بميثاقِ شرفٍ... هذا نصُّه: انطلاقاً من إيماننا المطلق بحريّة الفكر، نشجب شجباً مطلقاً لجوءَ أيّ مواطنٍ عربيّ إلى المَحاكم لمقاضاة صاحبِ رأيٍ أو ناشرِ معلومةٍ أو محلّلٍ لوضعٍ ما أو سيرةٍ ما أو عهدٍ ما... فالفكرُ لا يجابَهُ إلاّ بالفكر».
على أنصار الحريّة، وعلى اليساريين الوطنيين والقوميين في لبنان، أن يتكاتفوا كي لا يُستفردوا واحداً واحداً
وطالب الموقّعون فخري كريم بسحب دعواه ضدّ مجلة الآداب، «درّةِ ثقافتنا العربيّة، وطليعةِ الحداثة الملتزمة بمطالب الناس، وصوتِ مقاومتنا في لبنان وفلسطين والعراق...» وضدّ سهيل إدريس وعائدة مطرجي إدريس وكاتبِ هذه السطور. هذا وقد وَقّع على هذه الوثيقة، من منطلق التضامن مع حريّة التعبير، مفكّرون ومبدعون وناشطون ومحامون غيرُ لبنانيين من كل أنحاء العالم، ومنهم على سبيل المثال: نومْ تشومسكي (الذي قد يكون أهمّ مثقفٍ في العالم على قيد الحياة)، ونورمن فنكلستين، وصباح المختار (رئيسُ جمعيّة المحامين العرب في بريطانيا)، والروائيّون صنع الله إبراهيم وبهاء طاهر وعلاء الأسواني وإبراهيم نصر الله، ونقّادُ الأدب والفكر صبري حافظ وفيصل درّاج ومحمد جمال باروت وياسين الحاج صالح وجوزيف مسعد، والرسّامان كمال بلاّطة وخلدون غرايبة، والمخرج المسرحيّ التونسيّ توفيق الجبالي، والمناضلان أبو أحمد فؤاد ومنير شفيق.... كما صدرتْ عريضتان أخريان من الأردن، ورابعةٌ من الولايات المتحدة، وخامسةٌ من تونس، وسادسةٌ من مصر (نُشرتْ جميعُها في منابرَ ورقيّةٍ أو إلكترونيّةٍ كثيرة).
■ ■ ■
والحقّ أنني لا أتوخّى من استعراض تلك الأسماء والعرائض المتضامنة التباهيَ الفارغَ، بل أن أبيّن أنّ المكانةَ المتميّزةَ التي تبوّأتْها مجلةُ الآداب في قلوب المثقفين والمناضلين تعود إلى سياقٍ تاريخيّ ثقافيّ سياسيّ، أطمحُ ــــ أشدَّ الطموح ــــ إلى أن تكون الذهنيّةُ القضائيّةُ في بلادنا على بيّنةٍ منه، كي لا يتعارضَ القانونُ مع الحريّات الصحافيّة (مع انحيازي طبعاً إلى أقصى الحريّات بحكم مهنتي كاتباً وناشراً). فذلك التضامنُ يأتي على خلفيّةِ معارك ثقافيّة خاضتها مجلّتُنا طوال عقود ضدّ التمويل الأجنبيّ والبترودولار، وإدانةً لمثقفي السلطة، وانتصاراً للمثقفين الأحرار الذين يأبوْن ــــ بكلمات أحد أعمدة «الآداب» الكاتب اللبنانيّ الكبير رئيف خوري ــــ «أن يوصوصوا من نويْفذة حزبٍ أو حكومة». وهو تضامنٌ يأتي على خلفيّة معركةٍ سياسيّةٍ ضروسٍ بين معسكريْن: معسكر مقاومة التبعيّة والأحلاف، ومعسكرِ مبرِّري الاحتلال و«بناءِ الدولة» بأيّ ثمن. وهو تضامنٌ يأتي أيضاً على خلفيّة صراعٍ ضارٍ داخل العراق نفسِه بين أنصار «العمليّة السلميّة» الذين ارتضوْا أن يتعاونوا مع الاحتلال الأميركيّ البغيض، وأنصارِ المقاومة الوطنيّة لدحر هذا الاحتلال.
على أننا في معاركنا الثقافيّة كلّها لم ننحدرْ إلى درك السباب الشخصيّ والتشهير، بل كنّا دوماً نُفْرد، وبكلّ طيبة نفْسٍ، مكاناً واسعاً للآراء الأخرى؛ ولا أدلَّ على ذلك مِن نشرِنا دعوى السيّد فخري كريم ضدّنا، فضلاً عن ثماني عشرة مقالةً موالية له ولنظامه، على الرغم من أنّ بعضَها يتّهمني بـ«العواءِ الكريه» والعمالةِ لصدّام، ويتّهم الموقّعين بأقذع النعوت.
إزاء ذلك كلّه لا أمْلك إلا أن أشْعرَ بالغبن، الناجمِ عن عزل الحكم القضائيّ لافتتاحيّتي (موضوعِ الدعوى) عن سياقها الثقافيّ ــــ السياسيّ، وحصرِها ضمْن موادّ قانونٍ تشكّل، في رأيي، ككاتبٍ وناشرٍ وناشط، عبئاً على حريّة الرأي والتعبير، بل قيداً على الحقيقة ذاتها. فالحقّ أنّ معركة مجلة الآداب الآن، كما كانت معاركُها في السابق، لا علاقةَ لها بالدوافع الشخصيّة، ولا بالقدح والذمّ. وأخشى ما أخشاه هو أن يكون الحكمُ القضائيُّ قد اكتفى بدراسة الدعوى والمرافعتيْن والاستجواب، بدلاً من سَبر الخلفيّة الثقافيّة ــــ السياسيّة للموضوع برمّته.
طبعاً أنا أدركُ أنّ مجالَ القضاء هو القانونُ، وأنّ مجالي هو الفكرُ والحريّة. ولكني أطمحُ، مع احترامي للقضاء، إلى أن يكون القانونُ في خدمة الفكرِ والحريّةِ (قدرَ المستطاع)، لا قيداً عليهما. ولعلّي أفتحُ قوسيْن هنا لأؤكّد أنّ أحدَ أسباب مشاكلنا في الوطن العربيّ، كما أظنّ، ليس الحريّةَ الإعلاميّة (أو ما يسمّى زوراً «الانفلاتَ الإعلاميّ») بل القمعُ بمختلف أشكاله.
لذلك، وتعميماً للفائدة، أقدّم للقارئ الكريم ملخّصاً عن «القضيّة»، لإيماني بأنّها ليست مسألةً تخصّني أو تخصّ مجلةَ الآداب وحدها، ولا هي مجرّدُ قضيّةٍ «قانونيّة» بالمعنى الحَرْفي الضيّق للكلمة.
■ ■ ■
نشرتُ افتتاحيّتي المذكورة، موضوعَ الدعوى، وعنوانُها «نقدُ الوعي النقديّ: كردستان ــــ العراق نموذجاً» في العدد 5/6/2007 من مجلة الآداب. والهدفُ الأوّلُ والأخيرُ منها هو نقدُ «أدعياء الوعي النقديّ» الذين «يهاجِمون ظالمين مستبدّين، لكنهم يَسْكتون عن ظالمين مستبدّين آخرين» على ما جاء في خاتمة الافتتاحيّة. وكنتُ قد بدأتُها، ضمن هذا الإطار، بنقد الزملاء أدونيس (فردّ عليّ في جريدة «الحياة»، التي امتنعتْ عن نشر ردّي، فنشرتُه في جريدة «الأخبار»، وانتهى الأمر)، وشاكر النابلسي، وبول شاوول، وعلي حرب. ثم عرّجتُ على مهرجان المدى الذي أقيم بين 29 نيسان و6 أيّار من ذلك العام في كردستان ــــ العراق، برعاية جلال الطالباني وإدارة «الزميل فخري كريم»، ودُعي إليه 700 أو 800 مثقّف على ما جاء في وسائل الإعلام. فاستغربتُ أن يذهبَ أكثرُ هؤلاء إلى مهرجان المدى في أربيل وأن يلتقوا بجلال الطالباني من دون أن يتحقّقوا من واقع الأمور هناك، من قبيل: دوْر الموساد الإسرائيليّ، وحقوقِ الإنسان (والمرأة)، ودورِ الحزبين الكرديين الرئيسيين في دمار كردستان بسبب اقتتالهما، وهويّةِ الداعي (فخري كريم) السياسيّةِ نفسِها. وأجريتُ بحثاً دقيقاً كشفتُ من خلاله أموراً كثيرةً أهمُّها: وجودُ الموساد في كردستان وجوداً شرعيّاً (وذلك باعتراف رئيس مكتبه السابق أليعازر جيزي تسافرير، وبالاستناد إلى تحقيقيْن صحافيّين لسيمور هيرش ولورا روزن ومقالاتٍ في صحيفتيْ «يديعوت أحرنوت» و«هآرتس» الإسرائيليتين)، وتزايدُ جرائم الشرف، وتوقيفُ الصحافيين، واستخدامُ التعذيب ضدّ الموقوفين (بحسب تقرير بعثة الأمم المتّحدة لمساعدة العراق في نيسان/أبريل 2007)، وسوءُ معاملة العرب داخل كردستان. وتوقّفتُ أخيراً في مقطعٍ من عشرة سطور (ضمن مقالي المكوَّنِ من 275 سطراً) عند الزميل الناشر فخري كريم، بوصفه الداعيَ إلى هذا المهرجان الضخم، وبوصفه «كبيرَ مستشاري» الرئيس العراقيّ المدعوم من الاحتلال الأميركيّ عقب إسقاط نظام صدّام حسين. فاستهجنتُ ألاّ يكترثَ أحدٌ تقريباً من المثقفين والصحافيين المدعوّين (باستثناء حفنةٍ قليلةٍ كالزميل وائل عبد الفتّاح) لعشرات المقالات والبيانات التي تتحدّثُ عن مصير أموال الحزب الشيوعيّ العراقيّ، وأموالِ مجلة النهج ودار المدى، ولا عن صلات بعض «الشيوعيين العراقيين القدامى/الجدد» باستخبارات النظام السابق فضلاً عن استخبارات أخرى عربيّةٍ وغير عربيّةٍ في ما تلى ذلك من عقود. وختمتُ الافتتاحيّةَ بالمقطع التالي: «إنّ وطننا، الوطنَ العربيّ، في مأساةٍ لا لأننا ابتُلينا بأنظمةٍ مستبدّةٍ فحسب، وبأطماعٍ إمبرياليّةٍ وصهيونيّةٍ متعجرفةٍ فقط، بل لأننا أيضاً إزاء تراجعٍ حادٍّ في الوعي النقديّ الحقيقيّ»؛ ذلك أنّ جزءاً من الوعي السائد يتجلبب بالنقديّة المزيّفة لينقدَ (عن صوابٍ) الديكتاتوريّاتِ العربيّةَ المقيتة، لكنه يَصْمت صمتَ القبور عن «الديموقراطيّة» الأميركيّة الجديدة التي أوْدت بحياة مئاتِ الآلاف ويتّمتْ أمثالَهم وقَسّمت العراقَ.
■ ■ ■
آمل أن يكون قد اتّضح للقرّاء من هذا التلخيص أنّ نقدي للسيّد كريم كان عنصراً واحداً فحسب من نقدٍ أعمّ، يتناول المثقفين غيرَ النقديين، ويتناول اليسارَ الذي بات بعضُه (يا للأسف) جزءاً من المدرّعة الفكريّة للاحتلال الأميركيّ. ولم أوردْ في تلك الافتتاحيّة أيَّ مصدرٍ يعزِّز تلميحاتي إلى ماليّة «النهج» و«المدى» والحزبِ الشيوعيّ العراقيّ، لا لأنّ الأمرَ متداولٌ على نطاقٍ واسعٍ بين جمهور المثقفين العرب فحسب، بل لأني في الأساس لم أبتغِ «شخصنةَ» المسألة بما يُبْعد المقالَ عن هدفه الأساس الذي عَبّر عنه عنوانُه.
في معاركنا الثقافيّة كلّها لم ننحدرْ إلى درك السباب الشخصيّ والتشهير، بل كنّا دوماً نُفْرد، بكلّ طيبة نفْسٍ، مكاناً واسعاً للآراء الأخرى
بيْد أنه تنبغي الإشارةُ إلى أنّ «تمويلَ الثقافة العربيّة» موضوعٌ يَشْغلني ويَشغل عايدة (مثلما شغل سهيْلاً) منذ سنواتٍ بل عقود. ولا عجبَ، إذاً، أنْ كتبتُ في نهاية عام 2007، وربّما قبيْل الدعوى الجائرة، افتتاحيّةً بعنوان «مال الثقافة»، عَبّرتُ فيها عن حيرتي من توقّف منابر ثقافيّةٍ عربيّةٍ طليعيّةٍ (كمجلات «الطريق» و«الكرمل» و«دراسات عربيّة») في مقابل افتتاح مراكز أبحاث ومشاريع ثقافيّة وجوائز ضخمة. وتساءلتُ عن الهدف من الأموال التي تُضخّ على الثقافة، منهياً مقالي بالآتي:
«إنّ سؤالَ المال، اليومَ والبارحةَ وغداً، هو السؤالُ الأهمُّ في الثقافة العربيّة المعاصرة، لأنه سؤالُ الحريّة، وسؤالُ الفكر النقديّ الحقيقيّ. فلا ثقافةَ عربيّةً نقديّةً حقيقيّةً من دون استقلالٍ ماليٍّ عن الأنظمة، وعن المؤسّسات الدوليّة...».
وبالعودة إلى الافتتاحيّة موضوعِ الدعوى، فإنني أشير من جديد إلى أنني لم أُحِلْ قرّاءَها على المراجع الكثيرة التي تشكّك في ذمّة السيّد كريم الماليّة وفي تاريخه السياسيّ، لكنني كنتُ فعلاً قد قرأتُ عشراتِ المقالات والفصول (ضمن كتبٍ) عن السيّد كريم قبل تحبيري تلك الافتتاحيّة. وها إنني أسوق بعضَها لا على سبيل الإثبات أو النفي، بل على سبيل التأكيد أنني استندتُ عند كتابتي الافتتاحيّةَ المذكورةَ إلى جدلٍ كبيرٍ، أطرافُه شخصيّاتٌ معروفةٌ، وبعضُها معتبرٌ ومرموقٌ. إنه جدلٌ لا أستطيع، بوصفي كاتباً يبحث عن سُبُل التغيير، إلا أنْ آخذَه في الاعتبار، وإلاّ انتفى دوري الثقافيُّ (التغييريُّ) من الأساس. فإذا كان ديكارت يقول: «أنا أفكّر، إذاً أنا موجود»، فربّما ينبغي أن تكون قاعدةُ المثقف النقديّ الحقيقيّ هي الآتية: «أنا أشكّ، إذاً أنا مثقفٌ نقديّ». والشكّ هنا غيرُ «التشكيك» بالمعنى القانونيّ الضيّق؛ إنه شكٌّ يهدف إلى البناء والتصحيح والإضاءة على الحقيقة، وهو شكٌّ يرتكز على شهاداتٍ وشهودٍ. بمعنى آخر، إنّ «الشكّ»، الذي على أساسه أخسرُ الدعوى اليومَ، إنما هو جوهرُ مهنتنا!
وكي لا أرهقَ القرّاءَ والمحامين والقضاءَ والجريدةَ بعشرات المراجع التي قرأتُها قبل كتابتي الافتتاحيّة وبعدها، فسأكتفي بذكر تلك التي تقتصر على الاتهامين اللذين وجّههما إليَّ محامي كريم، السيّد أحمد الزين، في المحكمة، ألا وهما: التشكيكُ في ذمّة موكّله الماليّة، والاشتباهُ في صلته بالاستخبارات... علماً أنني لم أتناول التهمةَ الثانية في ما خصّ السيّد كريم بل في ما خصّ «بعضَ الشيوعيين العراقيين القدامى/الجدد»، وعندها قال الزين إنه على استعدادٍ لسحب الدعوى إنْ قلتُ إنني لم أقصدْ موكّلَه، فرددتُ بما معناه أننا هنا أمام محكمة مطبوعات... لا محكمةِ نوايا!
1) في التهمة الأولى. أ) كتاب المسؤول السياسيّ في الحزب الشيوعيّ العراقيّ في الثمانينيّات الدكتور رحيم عجينة، «الاختيار المتجدّد» (بيروت: دار الكنوز الأدبيّة، 1998، الصفحات 287 ــــ 290)، مقطع بعنوان: «الغموض الذي أحاط بمجلة النهج». ب) كتاب القائد الشيوعيّ العراقيّ الكرديّ شوكت خازندار، «سفر ومحطّات» (الدار نفسها، 2005، الصفحات 315ــــ321). ج) مقال السيّد سالم حسّون، «مشروع ردّ من اللجنة المركزيّة للحزب على الرفيق فيصل لعيْبي» (موقع الحوار المتمدّن، 15/3/2006). ويضاف إلى المصادر الثلاثة مقالاتٌ قرأتُها بعد صدور الدعوى، وهي: د) مقال الأمين العامّ للحزب الشيوعيّ العراقيّ ــــ الكادر (منشقّ عن القيادة الأصليّة) الدكتور نوري المرادي (الموقع نفسه). هـ) مقال مسؤول الحزب لما يزيد عن ربع قرن السيّد باقر إبراهيم، «شهودُ الزُّور وقضيّة فخري كريم» (جريدة القدس العربيّ وموقع البديل العراقيّ، 15/2/2008). و) مقال أقدم الشيوعيين العرقيين الأحياء في عضويّة الحزب، السيّد آرا خاجادور (موقع كنعان وجريدة «الأخبار» 25/4/2008). ز) مقال الروائيّ الفلسطينيّ رشاد أبو شاور (جريدة «الأخبار» 31/1/2008).
2) في التهمة الثانية. أ) كلام النقيب السابق في مديريّة الأمن العامّ العراقيّ خلال الستينيّات، السيّد عوني القلمجي، وذلك ضمن مقال نوري المرادي، «فخري كريم زنجنه ولعبته الجديدة القديمة» (شبكة البصرة). ب) حديث المسؤول الشيوعيّ العريق باقر إبراهيم، ص 165 من مذكّراته، وقد أعاد نشرَ مقاطعَ خاصّةٍ بهذه التهمة في مواقع عدّة (ومنها موقعُ البديل العراقيّ). ج) كتاب شوكت خازندار الآنف الذكر (ص 363 و365). د) بيان الحزب الشيوعيّ العراقيّ ــــ المقاومة الشعبيّة (منشقّ) في 8/1/2008، أيْ بعد صدور افتتاحيّتي.
■ ■ ■
السيّد كريم اليوم هو «كبيرُ مستشاري» الطالباني، كان صاحبَ أدوارٍ تستدعي الانتقادَ بسبب مواقفه داخل «المعارضة» العراقيّة
ركّز المحامي ألبير فرحات في مرافعته القانونيّة أمام قوس المحكمة على أنّ المدّعي من الشخصيّات العامّة. وهذا في رأيي لبُّ الموضوع الذي أؤمن إيماناً شديداً أنه ينفي عنّي وعن مجلة الآداب تهمةَ القدح والذمّ. فالسيّد كريم اليوم هو «كبيرُ مستشاري» الطالباني (القادمِ بدعمٍ من الاحتلال)، وهو كان في السابق صاحبَ أدوارٍ تستدعي الانتقادَ الشديدَ من قِبلي بسبب مواقفه داخل «المعارضة» العراقيّة قبل سقوط النظام وبعده، وذلك بملحظ كوني كاتباً وناشطاً معادياً لاحتلال العراق، ومنتقداً لانحراف بعض اليسار باتجاه معسكر الإمبرياليّة تحت أيّ ذريعةٍ، بما في ذلك ذريعةُ «التخلّصِ من الديكتاتوريّة المحلّيّة». وعليه، فإنّه سيكون من المفهوم أن تتعرّضَ مثلُ هذه الشخصيّات العامّة لانتقاداتٍ أعظمَ ممّا قد يتعرّضُ له الأفرادُ «العاديّون»، وتحديداً لأنّ أخطاءَ هذه الشخصيّات أو ارتكاباتِها قد تكون في رأيي أكثرَ فداحةً لكونها تطاولُ وطناً أو أمّةً أو شعباً أو تيّاراً أو حزباً أو فكراً أو ثقافةً. ولذلك فإنّ افتتاحيّتي يجب أن تُعتبر جزءًا ممّا أعتبرُه نضالاً ضدّ الاستعمار الأميركيّ، وضدّ بعض اليساريين الذين حادوا في تصوّري عن فكرة اليسار القائمةِ أساساً على التحرّر من الاستعمار والاستبداد... معاً!
السؤال الذي يجب أن يعني المحكمة، فضلاً عن قرّاء «الأخبار» و«الآداب»، والوطنيين والقوميين واليساريين عامّةً، هو الآتي: لماذا لم يَرفعْ فخري كريم دعاوى ضدّ كلّ مَنِ استندتُ إليه في خلفيّة افتتاحيّتي؟ ألأنني بلا طائفةٍ ولا مذهبٍ يحميانني في لبنان، فيَسهلُ من ثمّ استفرادي لأنّ «طائفةَ» اليسار الوطنيّ والقوميّ ضعيفةٌ في لبنان اليوم؟ ألأنّ غالبيّة منتقدي السيّد كريم يعيشون في أوروبا حيث القوانينُ أوسعُ صدراً للنقد؟ أمْ تراه فتّش عن ثغرةٍ يَنْفذ منها إلى الردّ على العشرات من منتقديه السابقين، فسَنحتْ له فرصةُ وجود موادّ في القانون اللبنانيّ لا تكتفي بمنع «الذمّ» (كما يسمّى) «ولو في معرض الشكّ أو الاستفهام»، بل تَمنع أيضاً إثباتَ صحّةِ ما يشكو منه المدّعي؟
أعتقد أنّ الإجابة هي: الأمور الثلاثة معاً. ولذلك فإنني أرى أنّ على أنصار الحريّة، وعلى اليساريين الوطنيين والقوميين في لبنان، أن يتكاتفوا كي لا يُستفردوا واحداً واحداً. وقد تكون معركةُ تعديل قانون المطبوعات في أولويّة معاركهم المطلبيّة اليوم!
* رئيس تحرير مجلة الآداب