إيلي شلهوبيمكن القول الآن، من دون مجازفة تذكر، إن عراقاً جديداً بدأت ملامحه ترتسم، صورته النهائية سيعكسها الاتفاق على تقاسم السلطة المنبثقة عن انتخابات الأحد على مستويات متعددة، رئاسات ثلاثاً وبرلماناً وحكومة. لكنه، ويا للمفارقة، عراقٌ يُبنى على أنقاض الاحتلال، لا أنقاض نظام صدام حسين كما أراد جورج بوش وزمرته ومعهم بندر بن سلطان السيّئ الذكر والصيت.
عراقٌ ولد من رحم اقتتال أهلي (رعاه الاحتلال) كرّس موازين قوى محلية جديدة، فُرغت في خلاله جميع الأحقاد، وبعضها موغل في القدم، وفي الوقت نفسه غُسلت النفوس والقلوب بالدماء التي سفكت، وما أغزرها. حرب مذهبية ـــــ عرقية اندلعت في ظل صدام إقليمي بأبعاد دولية انتهى هو الآخر إلى غالب ومغلوب، بل بالأحرى إلى موازين إقليمية جديدة تبحث عن تسوية تحاول أن تجد ترجمة لها في بلاد الرافدين.
وبغض النظر عن ماهية النتائج النهائية للعملية الاقتراعية، بمعنى التفاصيل الرقمية التي لا يبدو أنها لن تكشف عن مفاجآت، فإن الاستحقاق الانتخابي، في الشكل الذي جرى فيه والقوى التي تمخضت عنه والسياقات التي سبقته ورافقته وتلته، يعطي لمحة عن بعض سمات هذا العراق الجديد:
أولاً: حصانة ضد عودة الاقتتال، تعود بالأساس إلى غياب توازن القوى في الداخل، وإلى كون الطرف الأقوى، محلياً وإقليمياً، لا مصلحة له في عودة الاحتراب، لأنه نجح في انتزاع جميع الامتيازات التي يريدها. لا يعني ذلك طبعاً استحالة عودة كهذه، مقوّماتها لا تبدو متوفرة اليوم لكنها ربما تتحقق في وقت ما، عندما تتخلى القوى الإقليمية المعنية عن نزعتها التسووية الحالية.
ثانياً: قبول بمبدأ التداول السلمي للسلطة (انتهاء عصر الانقلابات)، نتيجة لهذا التوزع الكبير للقوى على المستوى الوطني (عدد لا يحصى من الكيانات والتكتلات أدّت النسبية دوراً كبيراً في تعزيزها)، والحقيقة أنه بات للأطراف (أربيل والسليمانية والبصرة والنجف...) سلطات تفوق ما يتمتع به المركز (بغداد).
ثالثاً: عودة سنية إلى الحياة السياسية ومطالبة بدور في العراق الجديد، عبّرت عنه نسبة المشاركة العالية (حوالى 70 في المئة) في اقتراع الأحد.
رابعاً: تسليم بقوة الطرف الشيعي الناتجة عن تفوقه عدّة وعديداً وتنظيماً ونهجاً ودعماً. واقع عُبّر عنه بحقيقة أن السنة اختاروا العودة إلى الساحة السياسة تحت مظلة قائمة عابرة للطوائف يتزعمها شيعي (القائمة «العراقية» التي يتزعمها إياد علاوي). بل إن معظم القوى السنية الرئيسة اختارت الترشح تحت لواء «الائتلاف الموحّد» (الحكيم) و«دولة القانون» (المالكي) و«وحدة العراق» (البولاني).
خامساً: تقهقر قوة التحالف الكردستاني (من نحو 90 إلى 75 في المئة من الأصوات) وتزايد المعارضة الكردية له. حال ليس واضحاً بعد كيف ستعبّر عن نفسها في بغداد، رغم تأكيد الطرفين أنهما واحد خارج كردستان.
سادساً: عراق يبدو أنه سيترعرع في كنف القوى الإقليمية التي باتت لها اليد الطولى داخله، ما يعني أن حياته السياسية ستتراقص على أنغام العلاقة التي تجمع في ما بين دول الجوار.
سابعاً: تشرذم سياسي داخلي وهيمنة للأطراف على المركز وتداخلات إقليمية لا يبدو أن لها مصلحة بعراق قوي (وإن كانت ترغب في أطراف قوية داخله)، كلها مؤشرات تنبئ بأن العراق الجديد سيبقى ضعيفاً إلى أجل غير مسمّى.
ثامناً: المؤشرات السالفة الذكر نفسها تنبئ بأن «العراق الجديد» سيرفع شعار «التسويات»، في الداخل حيث الإعجاب بمفهوم «الديموقراطية التوافقية» على الطريقة اللبنانية، بل هناك من بدأ يعلن رفضه حكم الأكثرية، ولا غرابة إن طالب بالثلث الضامن (أو المعطل). ومع الخارج حيث لم يعد هناك من مجال للصدامات. التوافق السوري السعودي الأميركي مؤشر.
تاسعاً: سيبقى «العراق الجديد» وصمة عار على جبين الولايات المتحدة، التي دمّرت هذا البلد وعاثت فيه قتلاً وتشريداً، من دون أن تنجح في الهيمنة عليه وتنفيذ مشروعها فيه. حتى حلفاؤها الجنوبيون، الذين كادوا يفرشون طريق قواتها بالورود، بدأوا يتحدثون لغة مغايرة (عمّار الحكيم مؤشراً). بل إنها عهدت بإكمال المسيرة، بعد خروجها العسكري، إلى حليفها القديم (علاوي) علماً بأن أركان لائحته وجمهورها كانوا حتى الأمس القريب ألد أعدائها في الداخل العراقي.
عاشراً: يرجح أن يبقى العراق الجديد فترة طويلة دولة فاشلة ينخر مؤسساتها الفساد، وإن كانت تبقى محصّنة من الانهيار المالي بفعل ثرواتها النفطية. كما يخشى أن تتحول المذهبية والعرقية فيها إلى مرض عضال يبقيها غيتوهات منفصلة بعضها عن بعض، «تتحاور» في دوائر السلطة (بانتظار تعديل في موازين القوى ـــــ محلياً و/أو إقليمياً ـــــ ينقل هذا الحوار إلى الشارع)، وخاصة في ظل وجود استحقاقات مصيرية لم تحسم بعد، بينها التعداد السكاني واستكمال الدستور لناحية الأطر الفدرالية وتوزيع الثروة وملف كركوك (المادة 140) ومستقبل البشمركة والأراضي المتنازع عليها في ديالى ونينوى.