وائل عبد الفتاحالحكّام العرب أقدار. ليسوا مجرد عصور عابرة. القذافي سيقود العرب هذا الأسبوع إلى واحد من استعراضاته الشهيرة. الاستعراض على ملعبه وبين جمهوره وبكامل عدته الاحتفالية. سرت مكان مناسب لكل طقوس الاحتفال بقبائل ما «قبل السياسة». لكنها في تقنيات الحكم والاستهلاك تجاوزت مراحل «ما بعد الحداثة».
القذافي يعيش تحت خيمته بشعور حاكم إله يلهو أطفاله بجواره ومن حوله أنبياء صغار يتلقّفون همهماته ويحولونها إلى قرارات تدفع الدولة إلى «فوضى مستبدة».
سيبدو الاحتفال مثيراً رغم غياب مبارك، عميد الحكام العرب الذي ينازع القذافي في ماراثون الخلود، وفي مزج «الخيمة» بـ«التحديث». مزيج مبارك مختلف. والقاهرة غير طرابلس. يتحدث المسافر بينهما عن الفارق الديموقراطي الكبير. لكنهما تؤدّيان إلى النقطة نفسها… في ليبيا شعب غني يعيش في الفقر، وفي مصر شعب فقير يحكمه أغنياء.
يلتقيان أيضاً مع كل «نجوم» مؤتمر سرت على مفارقة الحكم بالصور. مبارك استعاد رئاسته بالصورة. ألغى سراً تفويض رئيس الحكومة وحذف كل قلق وضعف وكرّس قوته التي اهتزت عبر شائعات «الغيبوبة» و«الغياب».
الدولة تحيي وتميت. هذا ما تقوله صور مبارك وتقوله أيضاً المناوشات الدائمة التي تجعل انعقاد المؤتمر هدفاً في حدّ ذاته والصورة الجماعية هي دليل حياة العروبة الوحيد.
ظهر مبارك في صور تلفزيونية خلفيتها حديقة مستشفى هايدلبرغ. ظهر بشعر فاحم السواد وبلوفر رمادي أنيق. وتلفون بدت فيه لحظة الانتصار على المرض أو «العلقة السُّخنة». ولحظة استعادة زمام الأمور بتوقيع قرارات يقدمها رئيس الديوان في حافظة جلدية عليها شعار الرئاسة.
هذه صور جديدة تستفيد من سلطة المواد المصورة وتؤكّدها كإحدى أدوات الحكم.
مبارك في الصور أكد على اتصاله بموقع سلطته، وحرص على ألّا يبدو ضعيفاً أو معزولاً في غرفة المرضى. وليست صدفة أن يكون ظهور الرئيس الدائم في المستشفيات مصاحباً للتلفون، وهو علامة الاتصال مع مركز الأمور في القاهرة ودليل الوجود لا العزلة.
الجديد هنا أنها المرة الأولى التي توقّع فيها قرارات جمهورية خارج البلاد.
الرسالة القوية من الصور باختصار: أن الرئاسة مع الرئيس أينما ذهب وليست في القاهرة… فقط.
الحكم لا يرتبط بالحضور بل بصورته التي تمثّل سلطة في حد ذاتها أو إعلاناً لاستمرار السلطة. الرئيس كان في لحظة قوة رغم هالات الإرهاق، وخلفه منظر طبيعي لا سرير طبيّ بحامل المحاليل.
اختيار الخلفية يشير إلى أن الرئيس في فترة نقاهة وبالمعنى السياسي في لحظة استراحة من الحكم سيعود بعدها إلى إدارة البلاد.
هكذا عادت الدولة لتكون صانعة الصور الأساسية بعدما سرقت منها التلفزيونات الخاصة بعضاً من هذه السلطة وأحرجتها. وهكذا أيضاً نجحت الدولة في أن تجعل رئيسها محط انتظار، وتجعل صورته سلطة في حد ذاتها.
بدت صور الرئيس في غرفة هايدلبرغ كأنها رد على الاستفسارات أو الشائعات؟ كأنها تفعيل لأدوات الحكم عبر المسافات. بدت الصور أقرب إلى «كشف الحقيقة» وهو ما سيعزّز سلطة الرئيس مبارك في أذهان صنّاع الصورة.
الصورة التلفزيونية تدخل في قلب الصراع على مستقبل الحكم في مصر، بعدما استهلكت الصور الفوتوغرافية الثابتة دورها في فرض صورة الرئيس.
صورة الرئيس في الدولة الحديثة توجد في مكتب الرئيس فقط. لكن في مصر وكل الدول العربية صور الرئيس في كل مكان. من مكتب أصغر ضابط في أصغر قرية إلى كشك «المعلم كوتشي» في قلب العاصمة.
الصورة هي وجود دائم. في الخليج، تطرّف في حداثة الاستهلاك تحت رعاية صور الحاكم الموجودة في كل مكان. وفي دول الجنرالات الخالدين بالعمر الطويل أو بالوراثة الصور هي هيبة الدولة التي لا يمكن المساس بها. أنصاب السطوة الأبدية… وفي الملكيات التقليدية، صور الملك وخليفته هي تميمة الشوارع والميادين والمحالّ التجارية.
الصورة تحكم. ويستطيع الحاكم العربي أن يحكم من القبر إذا كانت لدى مصوّره نسخ إضافية ومتنوعة له في أوضاع مختلفة.
وفي اجتماع الأمم المتحدة الأخير (أيلول ٢٠٠٩)، نظر العقيد القذافي إلى المصوّر بمشاعر خليطة من التصوف والقلق الدفين. المصوّر التقط «ضعف قوته» وأنه ابن لحظة غابرة تفرض هيمنتها الكاملة على الماضي والمستقبل… وفي هذا سر تعاسته وتعاسة من يقوده.