عبد العلي حامي الدين *وجّه منتدى الكرامة لحقوق الإنسان في المغرب رسالة إلى الوزير الأول حول ملف معتقلي «السلفية الجهادية» يطالبه فيها بالتحرك من أجل إيجاد تسوية نهائية لهذه القضية التي شابتها خروقات حقوقية عدة منذ البداية. فقد مثّلت أحداث 16 أيار/ مايو 2003 الإجرامية بمدينة الدار البيضاء صدمة للمجتمع المغربي الذي رأى فيها تهديداً لنعمة الاستقرار في البلاد، ومسّاً فظيعاً بقيم التسامح والتعايش التي اعتاد عليها المغاربة. وقد كان من الطبيعي أن تقوم مختلف الأجهزة الأمنية بواجبها في متابعة المتورطين في هذا الفعل الإرهابي، وفي القيام بكل ما من شأنه تحصين البلاد من مخاطر العنف والإرهاب، وفي توفير الأمن للمواطنين... لكنّ المقاربة الأمنية الصرفة التي اعتُمدت، خلّفت العديد من الضحايا بفعل حجم الاختلالات والتجاوزات التي رافقت مسلسل المتابعات في حق مئات المواطنين، وخصوصاً المنتسبين منهم إلى ما يعرف بالتيار «السلفي الجهادي». وقد أقرّت الدولة في أعلى مستوياتها بوجود اختلالات في تدبير هذا الملف.
لقد اتسمت دائرة الاعتقالات بالعشوائية، واقترنت منذ البداية بمسلسل من الاختطاف والاحتجاز في أماكن سرية وممارسة عمليات التعذيب في حق المتابعين (أسفرت عن وفاة عبد الحق الملقّب بمول السباط بفاس ومحمد بونيت بتارودانت، وزكريا الميلودي داخل السجن). وتُوِّجت هذه الاعتقالات بمحاكمات اختلّ فيها ميزان العدالة، فكانت النتيجة عدداً كبيراً من المعتقلين يقدّر بحوالى سبعة آلاف معتقل بقي منهم حوالى 1100 داخل السجن.
هذا الملف أنتج مأساة اجتماعية حقيقية لآلاف الأسر: حالات طلاق وتطليق، ضياع العديد من الأطفال وحرمانهم من عاطفة الأبوة، معاناة يومية مع الفقر ومتطلبات العيش اليومي، بالإضافة إلى متطلبات الزيارة إلى السجن، وما يرافقها من إهانات على يد بعض موظفي السجن الذين لم يتشبعوا بعد بثقافة حقوق الإنسان..
الضغط النفسي الذي تتعرض له العائلات بدأ ينتج بعض ردود الفعل الخطيرة من قبيل حالة انتحار زوجة أحد المعتقلين، وهو مؤشر خطير عن حجم التوتر الذي تعيشه هذه الشريحة وبشاعة بعض ردود الفعل التي يمكن أن تنتج منها.
تأسست التجارب الناجحة لمحاصرة التطرف الديني على ثلاثة أبعاد: الحوار الفكري، الاحتضان الاجتماعي، والاحتياط الأمني
المتتبع لهذا الملف لا يمكن إلا أن يتفهم طبيعة التعقيدات المحيطة به، بأبعاده الأمنية والسياسية والحقوقية والفكرية والاجتماعية. لكن المقاربة الأمنية القائمة على الزجر والعقاب أثبتت فشلها في معالجة هذا الموضوع الذي يعبّر في نهاية المطاف عن ظاهرة اجتماعية موجودة في العالم العربي والإسلامي، تستند إلى منظومة فكرية متماسكة بالنسبة لأصحابها. وبالتالي، فإنّ المقاربة القائمة على الحوار الفكري ولغة الإقناع ومواجهة الحجة بالحجة هي الكفيلة بتحقيق تقدم فعلي في معالجة هذا الموضوع في أفق دفع المعتقلين للقيام بمراجعات فكرية ذاتية يقفون بمقتضاها على حجم الأخطاء المنهجية التي أسست لدى بعضهم لمنطق العنف والتكفير...
المبادرة التي أقدم عليها عبد الوهاب رفيقي أبو حفص تمثل خطوة هامة في هذا الاتجاه، وهي حصيلة قراءة جديدة ومتفحصة في أدبيات هذا التوجه. وقد اشتملت على توضيحات وافية للموقف من العنف والتكفير ومن النظام السياسي ومن العمليات القتالية ضد المسلمين، وهي مواقف جديرة بالتشجيع والمساندة، وخصوصاً إذا علمنا أن بعض المعتقلين من ذوي الأفكار المتشددة (بعضهم ينتسب إلى الجماعة المغربية المقاتلة) لا يتفقون مع هذه المراجعات ويعتبرونها ردة واستكانة وتراجعات عن الخط السلفي الجهادي، وينتظرون فشل هذه الخطوة وتجاهل السلطات لها لإثبات الحجة على أن لا أمل يرجى من هذه الأنظمة التي يصفونها بالعميلة والمتواطئة مع الاستكبار العالمي، ولا صلاح لهذه الأنظمة الكفرية ـــــ حسب تعبيرهم ـــــ إلا بزوالها عن طريق الجهاد المشروع ضدها...
إنها أفكار حالمة وغير واقعية، لكنها تجد للأسف من يتبناها ويتأثر بها ويتفاعل معها من البسطاء ومن الشباب المندفع والمتحمس، وخصوصاً مع ضعف مؤسسات التنشئة الدينية القادرة على تلبية احتياجاتهم الروحية والدينية، وفي غياب العلماء الذين يحظون بالمصداقية والاستقلالية عن السلطة...
بعد مبادرة أبي حفص التي يساندها حسن الكتاني وشيوخ آخرون، أصبحت الكرة الآن في ملعب الدولة، ويتحمل الوزير الأول باعتباره رئيساً للحكومة وممثلاً للدولة مسؤولية التفاعل مع هذه المبادرة بطريقة إيجابية، تراعي المصلحة العليا للبلاد وتجنّب بلادنا تبعات ملف حقوقي وسياسي لن ينتج إلا المزيد من الحقد والكراهية تجاه مؤسسات الدولة والمجتمع. لقد سبق لمنتدى الكرامة أن قام بدور الوسيط بين مجموعة من المعتقلين الذين أكّدوا استعدادهم للتعبير عن قناعات فكرية وسياسية تنبذ العنف وترفض منهج التكفير وتعبر عن قبولها بالنظام الملكي، وقد كانت الحصيلة أن تقدم أكثر من 160 معتقلاً بطلب العفو المعزز بالمواقف السابقة، ولم تلق هذه الخطوة أي تفاعل من الدولة. فرسّخ ذلك الانطباع بأن هناك جهات معينة تقتات على هذا الملف أمنياً وسياسياً، وتستمر في سياسة صناعة الخوف ورفع ورقة الرفض ضد كل محاولة تسهم في تحريك هذا الملف ومعالجة الأخطاء المرتبطة به.
المقارنة مع بعض الدول العربية التي مرت بظروف أصعب من بلادنا أثبتت أن منطق الحوار الفكري والعلمي هو الطريق الوحيد الذي أثمر مراجعات حقيقية في صفوف هذه النوعية من المعتقلين، ودفع بالعديد منهم إلى التراجع عن أفكاره السابقة (تجربة مصر وليبيا والسعودية وموريتانيا).
تأسست التجارب الناجحة لمحاصرة ظاهرة التطرف الديني على ثلاثة أبعاد: الحوار الفكري، الاحتضان الاجتماعي، الاحتياط الأمني.
الحوار الفكري: يرمي إلى معرفة الاتجاهات الفكرية للمعتقلين، وطبيعة القناعات المذهبية التي يصدرون منها، ثم العمل على تصنيف هذه الأفكار وإعمال آلية الحوار مع كل مجموعة على حدة، وذلك بإشراك مجموعة من العلماء المجتهدين، وخاصة منهم الذين يحظون بالاحترام ويتمتعون بالمصداقية في أوساط المعتقلين وتتوافر فيهم شروط المقدرة العلمية والاعتدال والوسطية. وغالباً ما يتوّج هذا الحوار بالإعلان الواضح من طرف المعتقلين عن مراجعاتهم الفكرية والسياسية، بعد ذلك ترد السلطة بالعفو عمّن قاموا بهذه المراجعات...
الاحتضان الاجتماعي: الهدف منه مواكبة المفرج عنهم بالاحتضان الاجتماعي وإنقاذهم من آفات الفقر والبطالة والإحساس بالفراغ والتهميش الاجتماعي الذي كثيراً ما يكون سبباً في الارتماء في أحضان الأفكار المتطرفة. بل إن التجربة المصرية مثلاً انتبهت إلى هذا البعد عندما كان أعضاء الجماعة الإسلامية وأبناء تنظيم الجهاد يتحاورون داخل السجون المصرية وعددهم أكثر من 30 ألف معتقل... انتبهت إلى عائلاتهم وأسرهم وقررت تقديم معونات لهم كان لها أثر بليغ على نفسية المعتقلين وأسهمت في تغيير مواقفهم تجاه الدولة ومؤسساتها...
الاحتياط الأمني: وذلك عبر اعتماد مجموعة من الآليات القانونية للمراقبة الأمنية في حق المفرج عنهم، خلال مدة زمنية معينة، والتأكد من سلوكهم الاجتماعي حتى لا يسقطوا في حالة العود، مع استمرار إعمال أدوات القانون تجاه المصرّين منهم على الاحتفاظ بمواقفهم المتطرفة وعدم التساهل معهم.
المبادرة الآن في يد الدولة، فهل يتغلب صوت العقل والحكمة ومبادئ حقوق الإنسان والعدالة والإنصاف والمصالحة، أم ستنتصر المقاربة الأمنية الضيّقة؟ لننتظر ماذا سيفعل الوزير الأول.
* باحث وعضو المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية في المغرب