إعداد وترجمة: ديما شريفلم يكن أحد من أصدقاء المؤرخ اليساري الأميركي هوارد زين يتوقع رحيله، رغم بلوغه الثامنة والثمانين من العمر. فهو كان خالداً بخلود الشعب الذي أعطاه الأولوية في كتاباته، كما قال أحد مؤبّنيه. زين الذي رحل بعد سكتة قلبية الأربعاء الفائت، أثناء ممارسته السباحة كما يفعل يومياً، ترك وراءه تاريخاً حافلاً بالنضالات الشعبية والمدنية، ومؤلفات عديدة كان أهمها على الإطلاق «تاريخ الناس في الولايات المتحدة». اشتهر زين، ابن المهاجريْن اليهوديَّيْن، مع بداية حركة الحقوق المدنية في أميركا. ساهم آنذاك في حركة مناهضة العنصرية ضد السود، وكلّفته نشاطاته وظيفتَه في إحدى الجامعات. كان يشارك مع طلابه في التظاهرات المطالبة بالحقوق المدنية للسود، واعتقل مرات عدة معهم. في الستينيات، شارك في الحملات المطالبة بإنهاء الحرب في فيتنام، وكتب «فيتنام: منطق الانسحاب»، وساهم في الإفراج عن ثلاثة من المعتقلين الأميركيين في شمال فيتنام بعد زيارته لها. استمر في معارضته الحروب، وآخرها الحرب على العراق، وكان من الأوائل الذين قالوا عند الاجتياح إنّ أميركا ستنتهي باحتلال بلاد الرافدين.
لم يتوقف زين عن الكتابة، فساهم طيلة حياته المهنية بآلاف المقالات الصحافية وعشرات الكتب والدراسات إلى جانب كتاباته المسرحية.
من أهم إنجازات زين كتابه «تاريخ الناس في الولايات المتحدة» الذي يعيد فيه صياغة تاريخ بلاده عبر النساء، العمال، السود، الهنود وسائر المجموعات التي تجاهلها التاريخ الرسمي.
الكتاب الذي طبعت منه نسخ عدّة، لاقى انتشاراً واسعاً، لكنّه تلقّى نقداً قاسياً من اليمين الأميركي الذي رأى فيه نظرة متشائمة للتاريخ، ومنحازة، وغير موضوعية البتة. كما انزعج البعض من الشكل السيئ الذي ظهر فيه مؤسّسو الأمة في الكتاب، فيما اعتبره آخرون قراءة تصحيحية للكتابة التاريخية الأميركية.
كتب هوارد زين في مقدمة إحدى نسخ «تاريخ الناس في الولايات المتحدة» أنّ ما نتعلمه عن الماضي لا يعطينا الحقيقة المطلقة عن الحاضر. ويضيف أنّ ذلك ربما يرغمنا على البحث أعمق من التصريحات السطحية للسياسيين و«الخبراء».
نصيحة اتبعها ما لا يقل عن عشرة مؤلفين استعاروا من زين عنوان كتابه ليبحثوا عبر مؤلفات خاصة بهم في تاريخ الشعب الذي نسيه حكامه وبنوا المجد على أكتافه.
«الأخبار» تنشر هنا المقال الأخير لزين، الذي نشره في مجلّة «ذي نايشن» الأميركيّة لمناسبة مرور عام على تولّي الرئيس باراك أوباما سدّة الحكم في الولايات المتحدة الأميركية، إضافة إلى شهادتين من المفكّر نوام تشومسكي والكاتبة نوامي كلاين، نقلاً عن موقع «زي نت».

خسارة الصديق والقائد



نوام تشومسكي
مثّل ذهاب هوارد زين مع القس دان بيريغان إلى شمال فيتنام خرقاً مهمّاً في مسألة التعرف إلى إنسانية العدو الرسمي. بالطبع، كان مواطنو فيتنام الجنوبية العدو الأبرز، وهم الذين كانوا محطّمين. لكن في نظري، أهم ما فعله زين كان تأليفه كتاب «منطق الانسحاب». كان وقتها، أظن في عام 1967، حركة مهمة ضد الحرب، لكنّها كانت تركن إلى المسكنات. استطاع هوارد خرق ذلك. كان أول شخص يقول بصوت عالٍ وعلناً وبطريقة مقنعة جداً إنّ ما يحصل يجب أن يتوقف، وإنّنا يجب أن ننسحب دون شروط. قال إنّه لا يحق لنا أن نكون هناك وأنّ ما نفعله هو اعتداء. في الحقيقة، وهذا ليس مفاجئاً، لم يكن هناك مراجعة للكتاب آنذاك. هو طلب مني مراجعته في مجلة «رامبارتس» اليسارية التي كنت أديرها كي يتعرّف إليه الناس، وهذا ما فعلته. انتشر الكتاب بسرعة، وغيّر الطريقة التي نظر بها الناس إلى الحرب. كان هذا من أهم إنجازاته. ببساطة، لقد غيّر مفهوم الناس عبر حججه وشجاعته وصدقه واستعداده ليكون على الخط الأمامي كلّ الوقت، إضافة لبساطته وخفة دمه. هذه كانت قضية واحدة، وهي الحرب. كتابه «تاريخ الشعب» هو حالة أخرى. أعني أنّه غيّر ببساطة وعي جيل بأكمله.
كانت هناك دراسات عن الحراك الشعبي، لكنّ زين رفع الموضوع إلى مستوى آخر كلياً. في الحقيقة، هناك جملة له أستعيدها دائماً في عقلي، وهي من دراسته لما سمّاه «الأفعال العديدة الصغيرة للناس المجهولين» التي تؤدي إلى هذه اللحظات العظيمة التي تدخل التاريخ. تاريخ لا تستطيع فهمه إذا لم تنظر إلى هذه الأفعال العديدة الصغيرة. لم يكتب عن ذلك كتابة جميلة وحسب، لكنّه شارك أيضاً في هذه الأفعال، وأوحى لآخرين بالمشاركة. كانت حركة مناهضة الحرب قضية، وقبلها كانت حركة الحقوق المدنية، وكذلك حروب أميركا الوسطى في الثمانينيات. في الحقيقة، كان هوارد حاضراً في كلّ النشاطات المهمة من أجل السلام والعدالة. اعتبره الناس قائداً، لكنّه كان مشاركاً. شخصيته المميزة جعلته قائداً حتى لو كان يجلس مع الجميع بانتظار أن تأخذه الشرطة. كان ملتزماً دائماً بالعصيان المدني، وقد شاركت معه مرات عدّة في هذه النشاطات. لم يكن يخاف شيئاً. كان بسيطاً. كان صريحاً. قال الأشياء الصحيحة، وعلى نحو جميل. كان في حياته الخاصة والعامة شخصاً مميزاً، ولا يمكن تعويض رحيله. لقد كنّا صديقين مقرّبين، ولسنوات طويلة، أي ما يقارب الأربعين عاماً. لذا، فإنّ ما حصل يمثّل خسارة شخصية لي. لكن هناك ما هو أبعد من ذلك، إنّها خسارة لملايين الأشخاص الذين أثّر على حياتهم وغيّرها ليصبحوا أفضل.

الإيمان بأنفسنا



ناومي كلاين
لم يكن هوارد زين متفاجئاً أبداً حين حمت السلطة نفسها. وهو كان فعلاً مؤرخاً للشعب، ولهذا لم ينتظر التصديق من النخبة. لم يكن بحاجة إلى الاعتراف من الإعلام السائد مثل «نيويورك تايمز». كان يكفيه حب الناس له. كان الأستاذ المفضل لدى الجميع. لقد فقدنا أستاذنا المفضل اليوم.
التاريخ الذي درسه هوارد لم يتمحور حول التخلّي عن الأوهام الرسمية بشأن القومية والشخصيات البطولية. كان تاريخاً عن أخبار الناس، للإيمان بأنفسهم وبقوّتهم لتغيير العالم.
من الجميل أن يرى المرء في نهاية حياته أفلاماً عنه تعرض على التلفزيون، كما حصل مع هوارد وفيلم «الناس تتكلم». كما أنّ كتبه عادت إلى لوائح الأفضل مبيعاً. وهذا كله لأنّ هوارد كرّس حياته من أجل فكرة معينة مهمة في هذا الوقت بالذات. ففي يوم خطاب حال الاتحاد، تذكرت هوارد ورسالته بألا نؤمن بالرجال العظام، بل بأنفسنا. التاريخ يأتي من الأسفل ويصعد للأعلى.
لقد نسينا كيف نغير في هذا البلد. نظن أنّه بإمكاننا التغيير عبر الانتخاب فقط. وكان هوارد يذكرنا دائماً بأنّ هذا غير صحيح، وأنّه يجب العمل لنقوم بالتغيير الذي نريده.


هوارد زين:النص الأخير

أوباما في عــامه الأوّل



أبحث بشدّة عن أمر بارز. أكثر ما أتذكره هو خطابة أوباما؛ لا أرى ما يبرز في ما يفعله أو في سياساته.
في ما يتعلق بالخيبات، لم يخب أملي كثيراً لأنّني لم أتوقع الكثير. لقد توقعت منه أن يكون رئيساً ديموقراطياً تقليدياً. في السياسة الخارجية، هذا لا يختلف عن أيّ جمهوري، الذي يكون قومياً، توسعياً، إمبريالياً، ويسعى وراء الحرب. بهذا المعنى، ليس هناك من توقّعات أو خيبات أمل. في السياسة الداخلية، يكون الرؤساء الديموقراطيون تقليدياً إصلاحيين أكثر، أيّ أقرب إلى الحركة العمالية وأكثر استعداداً لتمرير قوانين تعبر عن طموحات الناس العاديين، وهذا كان صحيحاً مع أوباما. لكنّ الإصلاحات الديموقراطية كانت محدودة ومتحفظة. لم يكن أوباما مختلفاً عن غيره. في موضوع الرعاية الصحية مثلاً، بدأ بتنازل، وعندما تبدأ بالتنازل، تنتهي بتنازل بعد تنازل، وهذا ما يحدث الآن. لقد اعتقدت أنّه سيكون أفضل مما كان عليه في موضوع الحقوق الدستورية. هذه أكبر الخيبات، لأنّ أوباما درس في كلية الحقوق في هارفرد، ويمكن الاستنتاج أنّه مكرس للحقوق الدستورية. لكنّه أصبح رئيساً، ولا يقوم بخطوات مهمة تبعده عن سياسات بوش. طبعاً، هو يتحدث دائماً عن إغلاق غوانتانامو، لكنّه يعامل السجناء فيه كأنّهم «إرهابيون». لم يُحاكموا ولم يُحكم عليهم بأنّهم مذنبون. لذا، فعندما يقترح أوباما إخراج الناس من غوانتانامو ووضعهم في سجون أخرى، فإنّه لا يدفع كثيراً بقضية الحقوق الدستورية إلى الأمام. ثم ذهب إلى المحكمة ليناقش في موضوع التوقيف الاحتياطي، واستمر في سياسة إرسال المتهمين إلى دول يتعرضون فيها للتعذيب.
أظنّ أنّ الناس مدهوشون بخطابة أوباما، وعليهم أن يبدأوا بالاستيعاب أنّه سيكون رئيساً وضيعاً. وهذا يعني، في وقتنا هذا، رئيساً خطراً، ما لم يحصل تحرّك وطني يدفعه في الاتجاه الصحيح.