ياسين تملالي*هل المسيحيون في معظم البلدان الإسلامية مواطنون كاملو الحقوق؟ وإذا كانوا كذلك، فما سرّ المصاعب التي يواجهونها في بناء دور عبادة لهم، وما سبب ما يستهدفهم من اعتداءات دامية؟ هذه الأسئلة وغيرها أثيرت من جديد عقب الهجمات التي تعرّضت لها بعض الكنائس في العراق وماليزيا والجزائر، والجريمة الشنعاء التي أودت بحياة ستّة أقباط في نجع حمادي، في صعيد مصر، يوم 6 كانون الثاني/ يناير 2010.
ما نريده في هذا المقال هو مناقشة موقف شائع من هذه الجرائم ينأى عن الدعوة المتعصّبة إلى اجتثاث المسيحية من «دار الإسلام» دون الاعتراف بواجب نبذ كل تمييز على أساس الدين (إصدار قوانين موحدة تنظم ممارسة شعائر كل الأديان، والتراجع عن مبدأ طائفية الدولة، أي رفض إقرار «دين رسمي» لها). وممّن دافع أخيراً عن هذا الموقف ذي الظاهر «الوسطي» الشيخ يوسف القرضاوي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والكاتب المصري فهمي هويدي.
استنكر الشيخ القرضاوي في خطبة ألقاها في الدوحة في 20 كانون الثاني/ يناير 2010 الاعتداءات التي تعرضت لها كنائس ماليزية، وأدان الهجوم المسلح على أقباط نجع حمادي. لنا أن نسر بهذا الاستنكار وهذه الإدانة، لكن سرورنا لن يكتمل، للأسف، فليس لدى صاحبهما ذرة اقتناع بأن تدهور أوضاع الأقليات المسيحية في البلاد الإسلامية ليس مزعماً من مزاعم «الغرب» و«العلمانيين».
لا يعترف الشيخ بتدهور هذه الأوضاع، وبرهانه على ذلك أن «الأقليات المسيحية في مصر وسوريا والسودان وغيرها، لها كنائسها التي يعتبر بعضها قلاعاً شامخة، وبروجها تناطح السحاب». هذا ما صرح به لموقع الإذاعة السويسرية في أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر 2009. ماذا عن التهجير الذي يتعرض له مسيحيو العراق؟ لا إشارة إليه. فالتفجيرات التي تتعرض لها الكنائس العراقية تنفي أنها «قلاع شامخة تناطح السحاب».
وبالمنطق ذاته، ينفي الشيخ القرضاوي وجود «مسألة قبطية» في مصر. ففي حديث نشرته اليومية المصرية «الشروق الجديد» في 20 كانون الثاني/ يناير 2010، قال إن «مشاكل الأقباط ليست موجودة إلا في أذهان بعض الناس». وقدم على ذلك برهاناً أقل ما يقال عنه إنه مفاجئ وغريب. قال إن منزله «يطل على كنيسة»، وإنه يتابع نشاطها من الصباح إلى المساء، وإن له «العديد من الأصدقاء المسيحيين كجورج إسحق ورفيق حبيب».
ما سبب مجزرة 6 كانون الثاني/ يناير إذاً؟ يقول رئيس اتحاد العلماء المسلمين إن ما حصل في نجع حمادي «حادث فردي قام به رجل لا متديّن ولا أي شيء». ويضيف، محمّلاً «الثقافة الصعيدية» مسؤوليّة الصراع بين المسلمين والمسيحيين في مصر: «معظم هذه الأحداث تحدث في الصعيد، والسبب الأكبر هو الثأر». ما سببها الآخر؟ «الجهل»، يجيب في خطبته المذكورة أعلاه، نافياً دور التعصب الديني في استباحة دم المسيحيين، والكثير من المسلمين.
لنصرف النظر عن هذا «التفسير اللغوي» لمشكلة سياسية (يمكننا الرد بأن «الجهل» و«التعصب» كليهما وراء مآسي مسيحيي مصر والعراق وماليزيا، أو أن الجهل أحد أسباب التعصب، أو أن التعصب أحد مظاهر الجهل، إلخ). ولنسلّم جدلاً بأن منطق «الثأر» هو «السبب الأكبر» لاعتداء نجع حمادي، ولنتساءل: هل يفسر «الثأر» اعتداءات أخرى على الكنائس والأديرة المصرية؟ ماذا عن الصراعات التي تندلع بسبب معارضة استعمال الأقباط اضطراراً منازلهم كدور عبادة؟ نتساءل أيضاً: ماذا عن إفراغ العراق، بالقتل والتدمير، من مسيحييه؟ هل سببه «الجهل»، ولماذا لم يتخذ «الجهل» في الماضي شكل هذه الهجمات المنظمة على
الكنائس؟
لا ذكر في كلام الشيخ لهجمات سابقة على الأقباط، وكأن جريمـة نجع حمادي هي الأولى من نوعها. لا ذكر لها لأن فيها ما يطيح نظرية «الثأر» و«الجهل» في تفسير الاعتداءات على مسيحيي مصر، ويعصف بأسطورة كونها «حوادث معزولة». أما حاجـــة المسيحيين إلى دور عبادة، فهي في نظره، «ليست كحاجة المسلمين إلى المساجد التي من المفترض أن يزوروها خمس مرّات يوميّاً بينما يحتاج الأقباط إلى زيارة الكنائس يوماً واحداً في الأسبوع، ومع ذلك هناك عدد كبير من الكنائس» («الشروق الجديد»).
غريب أن يعتبر وجود كنائس دليلاً كافياً على أن المسيحيّين يحظون بكل حقوق المواطنة. يذكرنا هذا الكلام بخطاب اليمين الفرنسي الذي يقدّم «كثرة المساجد» في فرنسا برهاناً على أنّ المسلمين فيها مواطنون كاملو الحقوق. هل يعني وجود 2500 مسجد ومصلّى في هذا البلد، ألا تمييز فيه ضد المسلمين؟ لا طبعاً، بالنظر إلى تحوّل الإسلام في نظر الأجهزة الأمنية الفرنسية إلى شبه تهمة والتضييق الكبير على بناء الجوامع، وخصوصاً في البلديات التي يحكمها اليمين، بل دعوة البعض إلى استفتاء حول حظر المآذن أسوة بالاستفتاء الذي أجري في سويسرا في 29 تشرين الثاني/ نوفمبر 2009. غريب أيضاً ألا يُعتدّ بمطلب تسهيل بناء الكنائس بذريعة أن المسيحيين لا يطرقون أبوابها مرات عدة في اليوم. لنفرض أنهم لا يؤمونها في غير الآحاد، وهو ما ليس صحيحاً، أليس من الأليق تحديد احتياجاتهم من دور العبادة على أساس عدد المتعبّدين بدل تحديدها على أساس عدد صلواتهم في الأسبوع؟
ليس للسياسيّين الأوروبيّين تحديد احتياجات مسلمي أوروبا من المساجد. كما ليس للشيخ القرضاوي، على علو منزلته في قلوب المسلمين، تحديد احتياجات مسيحيي مصر أو العراق أو الجزائر من الكنائس ولا الإفتاء بعدد صلواتهم الأسبوعية، إذا لم يرد التشبه ببعض أقطاب اليمين الأوروبي ممن أصبحوا فقهاء يبررون حظر المآذن بكونه ليس فرضاً دينياً. ليس له ذلك إذا كان يؤمن بمبدأ تساوي المسيحيين والمسلمين في الحقوق والواجبات.
لكن هل يؤمن رئيس اتحاد العلماء المسلمين حقاً بهذا المبدأ؟ ما يستشف من حديثه أنه لا يزال يعتبر «أهل الكتاب» «أهل ذمّة». لا ينفي صحة استنتاجنا ما كتبه من تفضيل استعمال كلمة «مواطنين» للإشارة إليهم، فهذا يندرج في خانة «الحلول اللغوية» للمسائل السياسية لأن المواطنة تعرف بمحتواها لا بأصلها في اللغة. لنقرأ ما يقوله في «الدين والسياسة» (فصل «الدولة الإسلامية وحقوق الأقليات»): «إن كان هذا المصطلح (أهل الذمّة) يعطي انطباعاً غير حسن لإخواننا المسيحيّين، يمكننا أن نستبدل به مصطلح المواطنين. ومما يؤيد ذلك أن الفقهاء في جميع المذاهب اعتبروا أهل الذمّة من أهل دار الإسلام ومعنى أهل الدار أهل الوطن، بمعنى أنهم مشتركون مع المسلمين في المواطنة».
ونلاحظ «الحل اللغوي» نفسه لمسألة أوضاع المسيحيين في العالم الإسلامي في مقال للأستاذ فهمي هويدي بعنوان «طائفية أم سياسية؟»، نشر في «الشروق الجديد» في 24 كانون الثاني/ يناير 2010. يقول كاتبه: «ثمة تفرقة ضرورية بين اضطهاد الأقباط والتمييز الذي قد يعانونه. الاضطهاد يعني تعمّد الانحياز ضدهم من جانب السلطة، وتعقبهم لمصادرة حقوقهم وحرمانهم مما يفترض أن يتمتع به المواطن العادي من تلك الحقوق، أما التمييز فهو سلوك اجتماعي يتحيّز ضدهم بسبب معتقداتهم الدينية». وللأسف لم يفصل وجوه هذا «السلوك الاجتماعي»، واكتفى بالتنويه بأنه «مقصور على أوساط المتعصبين» دون تحديد هذه الأوساط.
لا يعرف القانون الدولي (الاتفاقيات المتعلقة بحقوق الإنسان مثلاً) «التمييز كـ«سلوك اجتماعي»، فهو قد يكون سياسة دولة بأكملها (وهذا ما حدث غير مرة في تاريخ البشرية). لكن لنقبل جدلاً تعريفي الأستاذ فهمي هويدي ولنسأله: أليس تعمد منع المسيحيين من تولي بعض المناصب «حرماناً لهم مما يفترض أن يتمتع به المواطن العادي»، أي «اضطهاداً» بالمعنى الذي أعطاه لهذه الكلمة؟
ولا يكتفي الأستاذ فهمي هويدي بنفي اضطهاد الأقباط، فيكتب: «إن الاضطهاد الحقيقي في مصر هو ضد المسلمين المتدينين عموماً والناشطين منهم خصوصاً»، ومن براهينه على ذلك أن «المساجد تفتح فى أوقات الصلوات فقط وهو ما لا يحدث في الكنائس»، وأن «المحجبات ممنوعات من الظهور كمذيعات على شاشة التلفزيون المصري»، وأن «الناشطين من المسلمين ممنوعون من الالتحاق بوزارة الخارجية، أو التعيين فى وظائف المعيدين بالجامعات» وأن «أقارب الذين سبق اعتقالهم ممنوعون من التعيين فى بعض مؤسسات الدولة».
ما يلاحظ على هذه «البراهين» أن أشكال «الاضطهاد» المذكورة لا تستهدف ضحاياها لكونهم يدينون بالإسلام، لكن لأن طريقة ممارستهم لدينهم تدرجهم في نظر أجهزة الدولة (وهذا منتهى الجور، بطبيعة الحال) في خانة مناوئيها. المتحجبات ممنوعات من الظهور على شاشات التلفزيون لا بوصفهن مسلمات (اللهم إلا إذا اعتبرنا من لا يلبسن الحجاب غير مسلمات)، لكن بوصفهن محجبات، والناشطون الإسلاميون يحرمون من التعيين في بعض الوظائف لا بوصفهم مسلمين لكن، عسفاً، بوصفهم ناشطين إسلاميين، أي خصوماً للنظام. كذلك الأمر بالنسبة لأقاربهم: يمنعون من نيل حقوقهم لا لأنهم مسلمون لكن لأن المنطق الأمني يحوّلهم إلى جناة مفترضين.
هل يمكن أن نقول الشيء نفسه في ما يخص الأقباط ومسيحيي البلدان الإسلامية بصورة أعم؟ لا، فهم يمنعون من تولي بعض الوظائف لا لشيء سوى أنهم مسيحيون من وجهة نظر الإحصائيات الرسمية، ولا يهمّ أكانوا أم لم يكونوا ملتزمين دينياً، أكانوا أتقياء حقيقيين أم مسيحيين «بالوراثة». ولو طالب بعضهم بإنشاء «دولة نصرانية» لكان مصيرهم ومصير أقاربهم «القمع الوقائي» نفسه والريبة البوليسية نفسها.

ليس لدى القرضاوي ذرة اقتناع بأن تدهور أوضاع الأقليات المسيحية ليس مزعماً من مزاعم «الغرب» و«العلمانيين»

إن تصوير الاعتداءات على المسيحيين كجرائم فردية ليس لطائفية الدولة مسؤولية عنها وتصوير حرمانهم من بعض حقوقهم كتمييز محصور في أوساط بعينها، ليسا أقل مسؤولية من الخطاب الديني المتعصب عن دفعهم إلى حضن كنائس تتاجر بمشاكلهم مع حكومات متسلطة، ناهيك بتقوية حركات لا تتورع عن حث القوى الخارجية على التدخل في بعض دول العالم الإسلامي بذريعة حماية الأقليات الدينية فيها.
يقول الأستاذ فهمي هويدي في مقال آخر له بعنوان القمع أصل المشكلة («الرؤية» الكويتية، بتاريخ 25 تشرين الثاني/ نوفمبر 2009): «ليس عندي أي دفاع عن التدخل الأجنبي. فقط أقول إن ممارسات الأنظمة القمعية هي التي تستدعيه، لذلك فإننا إذا أردنا أن نغلق الباب في وجهه حقاً، فينبغي أن نطالب تلك الأنظمة بمراجعة سياساتها أولاً، لكي يحتمي المظلومون والمضطهدون بقوانين بلادهم». سواء كان وضع المسيحيين في بعض أقطار العالم الإسلامي «تمييزاً» أو «اضطهاداً»، فإن عدم تحوله إلى ذريعة للتدخل الأجنبي مرهون بتحقق هذا الشرط نفسه: مراجعة سياسيات الأنظمة تجاههم بما يضمن احتماءهم بقوانين بلادهم ويمنع استقواء بعضهم بأطراف خارجية لا تضمر لهم الخير، ولا للمسلمين.

* صحافي جزائري