أن يتمنى سيّد المقاومة التوفيق للحراك، وأن يتبنى النسبية ويُسلّم جدلاً بمساوئ النظام الطائفي ليس أقصى ما يمكن أن يصل إليه هادي جموع من هم في أسفل الهرم من وجهة نظر طبقية. وهم الذين لامس الحراك أوجاعهم، لكنّ عيونهم كانت معلّقة إلى شخص القائد فهو البوصلة وهو المشير في زمن الضياع.
لقد تجاوز السيّد حلفاءه في المنظومة التي تدير البلد وتجاوز حزبه وأركان حزبه بالذات في عفوية نادرة قلّ أن يمارسها من يتعاطى الشأن السياسي، ليلامس وجع الناس وليعفيهم من أثقال كبت صراخهم المخنوق على مذبح الأولويات. وما اعتذار السيّد عن المشاركة المباشرة في الحراك وإعفاء حزبه من مسؤوليات مواجهة الفساد، إلّا إشارة صريحة بالموافقة على إطلاق العمل المطلبي على تنوّع مشاربه من دون إلزامه بأي إيديولوجيا من شأنها احتكاره أو جعله مطيّة في معترك التجاذبات المذهبية المؤسسة للحالة المافياوية القاتلة لكلّ اندفاعة نحو الأمام. وهي إشارة محرّرة لجمهور الحزب ذاته من الحذر والخوف من طبيعة الحراك، رغم أنّ هذا الجمهور هو الأكثر معاناة ربّما من الوضع المعيشي والانهيار الاجتماعي الذي يعصف بجغرافيته المحدودة على حواشي العاصمة. بخاصة أنّ هناك من يستخدم تعبير الضاحية كشتيمة توّجه للحزب وكمثال بائس عن فشل مشروع «المدينة الفاضلة».

إنّ ما يجري من واقعية سياسية
حولنا وعلى حدودنا يستدعي النظر
في مصالحنا


أن يُعلن سيد المقاومة براءته من معرقلي «ثورة الإصلاح» وأن يؤكد أنّه ليس شريكاً فيها نظراً لتعقيدات ظروفه الإقليمية ولتعقيدات المكان بالذات فهذا يعني التسليم بجبهة مواجهة جديدة على امتداد مساحة الوطن بما فيها المساحة التي يشغلها حزب الله. ولو أضفنا دعوة الأخذ بالنسبية فهذا نفي للديكتاتورية الأحادية التي يتهمه خصومه بها، وفي الوقت عينه نأي بالذات عن مسؤوليات قد تغرق الحزب في تفاصيل التجاذبات الطبقية وأشباح المذهبية التي تسقط في وحولها وتتعثر كل محاولات الإصلاح. فالسيّد قارئ ممتاز وقائد فريد والحالة العراقية ليست ببعيدة عن هواجسه وهو يدرك تماماً ما أولدته تلك الساحة من فساد وانهيار تام للمؤسسات جعل من العراق بحسب معايير منظمة الشفافية العالمية البلد الأكثر فساداً في العالم في تجربة بائسة حطمت شعارات كبيرة وطرحت أسئلة معقدة حول صلاحية الإسلام السياسي ذاته لإدارة المجتمعات. فمن الطبيعي أن يستنقذ السيّد ذاته وصورة المقاومة ومثالها وينأى بها عن الوقوع في فخ التنطح للحالة المعيشية ليبقى حيث هو في دائرة المواجهة مع المحور الشرير عينه الذي تقوده «حكومة الإرهاب الأميركية والتي لا تتمتع بأي أخلاقية» على الرغم من أن الصحف طالعت جمهوره في اليوم الذي تلى المقابلة بتصريح للرئيس الإيراني حسن روحاني عن تحسن علاقة بلاده بأميركا. وهو أمر مفهوم في منطق الديماغوجية الإيرانية المستحدثة التي تفعل كل ما يمكن لتحسين الوضع المعيشي للمواطنين الإيرانيين ولو على حساب الشعار. فالمثالية الثورية صارت من بعد آخر ومن عوالم تزداد بعداً ولن تجدها إلّا على ألسنة بعض خطباء الجمعة، بينما تشير بوصلة الواقع إلى أنّ مجرى الحدث يخضع تماماً لتأثير الخبز والأمن والسلام على مراكز القرار، وأنّ المصلحة الوطنية، بما تعنيه كلمة وطنية من حدود جغرافية، تقع في المرتبة الأولى حتى عند الذين يتنطحون لثورية أممية تتجاوز حدود الكون.
إنّ ما يجري من واقعية سياسية تجري حولنا وعلى حدودنا ومن إرهاصات توافق بين مكوّنات أقطاب العالم بلصوصه وسفاحيه تستدعي النظر في مصالحنا كجماعة وكوطن وفي الحالة المعيشية لشعب استنزف في دورات من جنون مافيات رأس المال، وما الموقف الإيجابي للسيّد من الحراك الجاري في وسط بيروت إلاّ قراءة مبكّرة للمقبل الآتي.
* كاتب لبناني