وائل عبد الفتاحهل قتلت مصر المبحوح؟ سؤال أجابت عنه المصادر المصرية بأكثر من طريقة. النفي العادي. والاستنكار المتعالي. وتسريب خبر منقول عن وكالة أنباء تابعة لمنظمة «فتح» يقول إن المبحوح كشف بعد تسجيل برنامج في قناة «الجزيرة».
لا بد من خيانة. وهي مثل الكرة يتقاذفها الأشقاء والحلفاء، وفي النهاية يغلق الملف على لغز جديد يضاف إلى مئات الألغاز ووعود انتقام تصطاد مزيد من القتلى والضحايا.
لن يعلن أحد مسؤوليته عن الخيانة. ولن يتبنّى أحد طفل الخطيئة. فالسياسة في العالم العربي تسير على الصراط. ابنة المثال الجاهز، والنصر المدعوم بعناية إلهية. لا يخطئ الساسة طريق الزعماء الملهمين بالحق والحكمة، ويأتيهم الصواب من خلفهم وأمامهم.
هذه أوعية جاهزة يملأها الحكام وأتباعهم بالنبيذ المغشوش. الشعوب ليست ذواقة، وتكتفي بالأشكال واللافتات: «مش مهم الوصول لكأس العالم… المهم شكلنا قدام العالم». هذه لافتة رفعت في مصر بعد الخروج من سباق المونديال، ومعها سلسلة من إنجازات نظام يحافظ على «الشكل» و«الصورة». ولا يسأل أحد عن أي شكل؟ ولا عن أي صورة؟ وإلى أي نموذج يرنو السياسي العربي إذا كانت كل أفعاله تسير عكس اتجاهات «شكله» و«صورته».
نظام مبارك غير محترف في التصفيات. وغالباً هو خارج الاتهام. لا لأنه «مخلص» للقضية، لكن لأن ثمن اغتيال المبحوح لا يحتاج إليه. أنظمة أخرى «مخلصة» للقضية وقدمت خدمات لاغتيال مقاومين كبار في مقابل الحصول على مكافآت لن تستطيع الإفصاح عنها.
مصر لا تحب «حماس»، لكنها غالباً لا تحتاج إلى عمليات سرية مع إسرائيل. و«حماس» لن تقنع مصر بالعكس بمجرد تهنئة بالمعجزة الكروية.
النظام المصري مخلص للقضية كما يقدّم نفسه، وجمهوره يحاسبه على إخلاص مثالي مطلق. وهذا سر من أسرار تخلّف السياسة ورجوعها دائماً إلى المربع صفر. السياسي لا يستطيع إعلان نيّاته ولو كانت خطأً. والسياسة هي فعل الضحك على الجمهور بـ«شكل» و«صورة»، بينما الفعل بعيد ومفارق وسرّي.
التحولات والانتقالات خطيئة في السياسة العربية، مثل الثبات على السياسة الواحدة ولو كانت خطأً، أو الهوية الواحدة ولو كانت قاتلة.
لهذا تحتاج السياسة في العالم العربي إلى كرة القدم. لأن الوقت الأصلي لأساطيرها القديمة انتهى وتحتاج إلى أشواط إضافية من أساطير اللعبة. السياسي لم يعد ساحراً أو نجماً شعبياً، ولكنه قائد ديني أو زعيم تلهمه السماء لا يلهم هو الأرض، بينما اللاعب ساحر أرضي يهرب إليه الجمهور من كوارثه اليومية وصدماته في تحولات السياسيين.
جمهور غزة خرج في تظاهرات احتفال بالنصر المصري. «الفراعنة» مسحوا ما فعله النظام السياسي بأهالي القطاع، رغم أنهم دخلوا الكادر وأمسكوا بطرف الكأس وتركوا طرفه الآخر للرئيس وابنيه وحاشيته.
هذه الانتقالات بين سحر مستعار من خارج السياسة والتعامل مع السياسة على أنها مطلق مسيّر لأقدار ومصائر لا يمكن الاقتراب منها، هو انتقال من موت سريري إلى موت فعلي. وموت السياسة يحتاج إلى الاعتراف بالخطيئة وطفلها. والبداية دائماً من حيث ينتهي الفعل لا الموديل الأبدي أو الشعار الذي لا حياد عنه.
الهويات الجديدة التي تتكون من خلطة أساطير أرضية لا تقنع الحكام ولا معارضيهم. يسعون إلى منحها صفات علوية. يردد نظام مبارك مقولة من مقولات الفاشية الكبيرة «مصر فوق الجميع»، ويريد اللاعبون ومدربهم وجمهورهم اختصار المعجزة في توفيق السماء.
الدين في الرياضة والسجدة سر اللعبة. هذا هو التفسير الشعبوي لرغبة أعلى في صنع أسطورة سياسية من نصر كروي. الرغبة في رفع مستوى الحاكم إلى مصاف وسيط المعجزة. اللاعبون هم أبناء الرئيس والقضية لم تعد تحرير فلسطين أو الحفاظ على سيادة الحدود، ولكن الانتقام من «العدو» الجزائري.
وبين الانتقام والخيانة فسحة لأنظمة لا تريد أن تعود السياسة إلى الحياة لتظل ساكنة في علياء القيم العليا، بينما تمارس خطيئتها في السر.
أولاد خطيئة الأنظمة هم كهنة سياستها الميتة، بينما الحلّ في أطفال خطيئة يعترفون بها وبأن السياسة فعل حياة وليست سر كهنة.
النوع الأخير يمكن تغييره، لكن النوع الموجود والدائم يدفعنا إلى عبادته وهو يعلن الحرب أو يجنح إلى السلم أو يتسلّم بدلاً من الفريق كأس البطولة. ساعتها لن يحتاج العرب إلى تبادل قذف كرة الخيانة.