سعد اللّه مزرعاني *الإعلان الرسمي السوري بأنّ إسرائيل تعدّ العدّة للعدوان وللحرب، نقل الخشية من ترجمة التحضيرات والتهديدات الإسرائيلية إلى عمل عسكري، نحو مستوى أعلى بكثير ممّا كان قائمًا حتى الآن. والواقع أنّ قادة إسرائيل قد نجحوا في إحداث تحوّل أساسي في وجهة وفي أولويات السياسة التي حاول اعتمادها الرئيس الأميركي باراك أوباما فور مجيئه إلى البيت الأبيض مطلع العام الفائت. ففي وقت مبكر من بدء ولايته، وبعد عدوان غزة وما رافقه من «استخدام مفرط للقوة» ومن قتل ومجازر ودمار، وكذلك من عجز عن فرض الاستسلام على القطاع بسبب المقاومة، قرّر الرئيس الأميركي الجديد التحرّك في الشرق الأوسط. وهو، لهذا الغرض، استعاد شعار «الدولتين» الذي كانت قد تضمّنته «رؤية» سلفه جورج دبليو بوش. ثم سارع إلى تسمية مبعوث رئاسي لمباشرة الاتصالات في هذا الاتجاه، وهو جورج ميتشل. وبالفعل، تحرّك ميتشل بسرعة، تسبقه شهرة ونجاحات، وترافقه صلاحيات كبيرة وثقة أكيدة من رئيس جديد يتمتّع، هو الآخر، ببريق غير عادي ويحمل التغيير شعارًا لحملته ولعهده.
لأسباب عديدة، قرّر الرئيس الأميركي ذو الأصول الأفريقية والإسلامية إحداث اختراق في الشرق الأوسط. السبب الأوّل كان تقديم جواب عجزت لجان ألّفها الرئيس الأميركي السابق عن تقديمه بشأن العوامل التي دفعت الأميركيين إلى السؤال: «لماذا يكرهوننا» في الشرق الأوسط وفي مناطق أخرى عديدة من العالم؟! والسبب الثاني لتحرّك أوباما، وهو الأساس، محاولة تجميل السياسة الأميركية وإضفاء شيء من التوازن عليها. أمل الرئيس الأميركي الجديد أن يساعده ذلك في تطبيق خطّته التي قضت بالتركيز على أفغانستان وتحقيق نصر هناك، عزّ على الإدارة السابقة تحقيق مثيله في العراق عبر مشروع «الشرق الأوسط الكبير» وخدمة لنجاح هذا المشروع.
في زيارته لمصر، ضمّن أوباما خطابه الشهير هناك وعود التصميم على إحداث اختراق لمصلحة قيام دولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل...
لكنّ الرياح في إسرائيل كانت تسير في اتجاه مغاير تمامًا. في الفترة نفسها تقريبًا، نجح في الانتخابات تحالف نتنياهو ــــ ليبرمان. ومنذ خطواته الأولى، باشر في السعي لكسر معادلة الرئيس الأميركي الجديد. كانت البداية في رفض التعاون أو وضع شروط له، من نوع أن يبدأ من الصفر مقرونًا بسياسة بناء مستوطنات نشيطة وبعمليات اغتيال شملت الضفة والقطاع... ثمّ انخرطت مجموعات الضغط الصهيوني المؤيّدة للحكومة الإسرائيلية الجديدة في عملها داخل الولايات المتحدّة نفسها. وسرعان ما انعكس ذلك تحوّلاً في سياسة وزيرة الخارجية الأميركية التي بدأت تشيد بـ«مرونة» رئيس الحكومة الإسرائيلية وباستجابته للتفاوض وللسلام!
وتباعًا، بل وبتسارع الوتيرة، حصلت الاستدارة الأميركية شبه الكاملة. لم تكد تمضي السنة الأولى على الولاية، حتى اعترف الرئيس الأميركي بأنّه «قلّل من حجم الصعوبات والعقد القائمة في الصراع الإسرائيلي ــــ الفلسطيني»! وهو كان بذلك يعلن فشل مهمّة مبعوثه والتراجع عن الوعود التي قطعتها، والامتثال لأولوية أخرى وضعها الصهاينة أنفسهم في كلّ من الولايات المتحدة وإسرائيل: أولوية مواجهة الخطر النووي الإيراني!
لقد كان التصعيد عاملاً تكتيكيًا أساسيًا في نهج تحالف نتنياهو ــــ ليبرمان. نقول في تكتيك هذين، لأنّ المرحلة الأولى من خطتهما قضت بإسقاط مبدأ التفاوض والمفاوضات وما يمكن أن يجرّه من تنازلات. وهكذا نجحت الحكومة الإسرائيلية في نقل الأولوية من بدء المفاوضات حول «الدولتين»، إلى السعي من أجل لجم التصعيد واحتمالات الحرب. وفي سياق ذلك، كانت القيادة الإسرائيلية، كما أشرنا، قد طرحت أساسًا جديدًا للتفاوض: وقف بناء المستوطنات في مقابل التطبيع مع كلّ البلدان العربية.
يجب القول إنّ الحكومة الإسرائيلية قد أحرزت نجاحًا كبيرًا ومطّردًا في كلّ ما حدّدته لنفسها من أهداف، رغم أنّها اضطرّت إلى دفع بعض الخسائر في مجرى ذلك، من نوع تدهور العلاقة مع تركيا واستعداء بعض الأوساط الأوروبية التي انتقلت مباشرة إلى الدعوة لتكون القدس الشرقية عاصمة للدولة الفلسطينية العتيدة.
اعترف أوباما بفشل مهمّة ميتشل، وامتثل لأولوية مواجهة الخطر النووي الإيراني
ذكرنا في سياق ما تقدّم أنّ الحكومة الإسرائيلية قد اختارت التصعيد في كلّ الميادين. وهو تصعيد اختلط فيه السياسي بالعسكري بالأمني. كما شمل هذا التصعيد، بطريقة شديدة الوقاحة، كلاً من لبنان وسوريا وغزة وإيران. كما جرى استفزاز تركيا وتجاهل أوروبا ومواجهة فريق أوباما... أما في الداخل الفلسطيني، فقد تصاعدت عمليات القمع والاغتيال وبناء المستوطنات والمصادرة في مناخ من إهمال وإذلال السلطة الفلسطينية. ولم يكن على فريق «الاعتدال العربي» سوى الامتثال للإرادة الإسرائيلية. وهكذا، سارعت القيادة المصرية إلى بناء جدار خاص بها لمزيد من حصار غزة وشعبها وقيادتها، وللمشاركة عبر ذلك في فرض الاستسلام عليها.
هل يحوّل ثنائي نتنياهو ــــ ليبرمان التصعيد السياسي إلى تصعيد عسكري؟ هل تقدم الحكومة الإسرائيلية على اتخاذ قرار بقصف ما تعتبره مواقع نووية في إيران؟ هل تعتدي مجدّدًا على غزة؟ هل تضع تهديداتها ضدّ لبنان موضع التطبيق؟ هل تستفزّ دمشق؟...
هذه الأسئلة تتردّد بقوة اليوم بسبب المناورات والتحضيرات والتهديدات والتصريحات والمواقف الإسرائيلية! لكنّ خطورة ذلك، ورغم النزوع الطبيعي لدى قادة إسرائيل نحو الحرب والعدوان، ورغم وجود فريق متطرّف إلى درجة غير مسبوقة في سدّة الحكم في إسرائيل، ورغم أنّ هذا الفريق مدعوم من قوى نافذة في الإدارة الأميركية... رغم كلّ ذلك، ورغم ما يغري به التواطؤ الرسمي العربي والانقسام الفلسطيني، من إقدام إسرائيل على العدوان، إلا أنّ الحقائق على أرض الواقع لا تجعل المغامرة الإسرائيلية سهلة. بل إنّ هذه المغامرة ستكون فعلاً، محفوفة بكلّ أنواع المخاطر. فالحرب لن تكون محدودة، والمقاومة ستكون أوسع وأفعل. إنّ إسرائيل ستدفع أثمانًا كبيرة وربما غير مسبوقة، وستضطرّ إلى خوض مواجهة طويلة. لقد انتهت أيام الحروب الخاطفة والانتصارات السريعة والبطولات التي تؤدّي إلى زيادة الأوسمة على صدور القادة العسكريين الإسرائيليين وأكتافهم... بعد تجربة حروب لبنان خصوصًا، لم تعد إسرائيل تستطيع احتلال أراضي الغير بسهولة، وإن فعلت فلن يستطيع جيشها أن يستقرّ إلا بثمن لا يستطيع دفعه مهما استخدم من وسائل القتل والقمع والدمار، ومهما حصّل من وسائل الدعم والتشجيع والتواطؤ.
لهذه الأسباب جميعها، ليست حكومة إسرائيل متعجّلة لشنّ حرب تعرف أنّها لن تكون خاطفة. بل إنّ حكومة نتنياهو لا مصلحة لها إلا في استمرار الوضع الراهن: أي الإمعان في إضعاف الشعب الفلسطيني، وتصعيد التهويد والاستيطان والقمع، والاستمرار في التهديد الإعلامي منعًا لحصول ضربات انتقامية على جرائمها وعلى عمليات الاغتيال التي كانت آخرتها عملية دبي ضدّ أحد قادة «حماس».
في سياق ذلك، نذكّر مرّة أخرى، بأنّه لا بدّ من مواجهة عدوان إسرائيل الراهن وتصعيدها المرشّح لأن يتحوّل إلى حرب عدوانية. الطريق إلى هذه المواجهة تمرّ سريعًا وحتمًا عبر: «لملمة» الوضع الفلسطيني وإصلاحه على أساس برنامج كفاحي موحّد. النضال من أجل إصلاح الخلل في الموقف الرسمي العربي. بناء جبهة مقاومة عربية واسعة تخوض المعركة ضدّ العدو الصهيوني وحماته وعملائه بوصفها معركة مصيرية وذات أولوية بكلّ ما تتطلّبه من برامج وصيغ وأشكال نضالية.
* كاتب وسياسي لبناني