Strong>حسام تمام *بين جذورها الفكرية والأيديولوجية وربما التنظيمية الأولى في المشرق، وبين الخصوصية المغربية الفريدة التي انتهت إلى استعادتها كاملة؛ يراقب الجميع الحركة الإسلامية المغربية التي يتجدد الجدل حولها، مرة بتجاوزها كثيراً من الإشكالات التي ما زالت تعيشها الحركة الأم في المشرق، ومرات بالنقد الذي يطاردها باعتبارها وافداً غريباً عن المغرب يتبارى خصومه في تحميله ما لا يحتمل، وهو ما يبدو معه مفيداً التعرف على ما بين الحركة الإسلامية المغربية ونظيرتها المشرقية من اتصال وانفصال.
■ ■ ■
تأثرت الحركة الإسلامية المغربية في نشأتها وانطلاقتها الأولى بنظيرتها المشرقية. يبدو هذا واضحاً في التنظيم الإسلامي الأول (الشبيبة الإسلامية) وأفكار مؤسسه عبد الكريم مطيع، الذي ما زال الأقرب في عمقه للحالة الإسلامية المشرقية. وربما كانت الحركة في عقد السبعينيات من القرن الماضي هي شبه استنساخ للحركة الإسلامية في مصر؛ فالأدبيات والأفكار والخيال واحدة تقريباً، غير أن الاستقلالية بدأت مع الجيل الثاني منذ الثمانينيات.
ويبدو لي أن الحركة الإسلامية تأثرت كثيراً بحركة الإخوان المسلمين أكثر من غيرها، وأن تأثيرات المشروع الإخواني ظهرت في تجلّيين رئيسيين: الأول يتمثل في جماعة «العدل والإحسان» التي كانت أكثر تأثراً بالإخوان كحالة عقائدية وتنظيمية، وهو ما ظهر في البناء التنظيمي المغلق والمحكم والاهتمام بالتربية والتأطير والتكوين الداخلي. وكذلك كان تأثر عبد السلام ياسين بحسن البنا واضحاً وغير منكور، وخاصة في مزجه التجربة الصوفية بالحركية، فيما تأثرت حركة «التوحيد والإصلاح» ومكوّناتها المختلفة عبر مراحل تاريخية بالجانب الفكري والسياسي للإخوان المسلمين. غير أن التمثّلين المغربيين استطاع كل منهما في نهاية المطاف أن يطور مشروعه ويستقل به تماماً عن خبرة التجربة الإخوانية في مصر.
ويمكن القول إنه بعيداً عن طبيعة التأثير المتبادل وحدوده؛ فإن ثمة فروقاً كثيرة بين الحركة الإسلامية المغربية بتنوعاتها ونظيرتها المشرقية، لكنني أتوقف عند فارقين مهمين؛ الأول: يتمثل في بناء شرعيتها، وخاصة بإزاء الدولة. فالحركة الإسلامية المشرقية بنت شرعيتها على أساس الاستقلال عن الدولة، بل أسست هذه الشرعية لا من خلال معارضة أنظمة الدولة الحديثة وحسب، بل أيضاً طرح شرعية الحركة الإسلامية كشرعية مستقلة، ومنافسة لشرعية الدولة. وقد أسست شرعيتها بمعزل عن الدولة، ورغماً عنها، وضدّاً منها.
ربما حاولت الحركة المغربية شيئاً من هذا في بداياتها، لكنها سرعان ما أدركت استحالة نجاحها في ذلك، واتجهت لإعادة بناء أساس شرعيتها لا على التصالح مع الدولة وحسب، بل أيضاً على أساس أن الدولة نفسها مصدر شرعيّتها. إن الحركة المغربية بتنوعاتها، وبدرجات متفاوتة، لا تستطيع طرح شرعيتها بمعزل عن الدولة المغربية، بل تتوسل بهذه الدولة كمصدر للشرعية، ولا تطمح إلا إلى الاستمداد منها.
الحركة الإسلامية المشرقية بنت شرعيتها على أساس الاستقلال عن الدولة. أما الحركة المغربية، فسرعان ما أدركت استحالة ذلك
طبعاً ثمة فروق بينها. وربما يرى البعض جماعة «العدل والإحسان» خروجاً على ذلك، لكن الحق أن التدقيق يقول إنه لا حركة إسلامية مغربية تستطيع بناء شرعيتها على نقض الدولة المغربية. الملكية في المغرب قوية فعلاً ليس بالضرورة كمؤسسة، لكن كشرعية متجذرة وقادرة على الاحتفاظ بشرعيتها ودعمها باستمرار. فيما دولة مثل مصر، وهي عريقة وقوية ومركزية لا نظير لها تاريخياً في المنطقة، استطاعت الحركة الإسلامية فيها أن تبني شرعيتها بعيداً عنها وبالضد منها. ثمة أسباب كثيرة في تفسير هذا الوضع يقصر المقام عن التطرق إليها، لكن المحصلة واحدة، وهي أن الحركة الإسلامية المغربية لا تستطيع، وربما لأمد غير قصير، أن تؤسس شرعية مستقلة لنفسها.
أما الفارق الثاني بين الحركة الإسلامية المغربية ونظيرتها المشرقية، فهو متصل بقدرة الحركة الإسلامية المشرقية على السيطرة على الفضاء الاجتماعي العام وإخضاعه لها، بل إخضاع الدولة نفسها لمنطقها. فبمعنى من المعاني، يمكن القول إن المجال العام والفضاء الاجتماعي، وخصوصاً في مصر، هو إسلامي، ويتمثل الأطروحة الإسلامية دون حاجة للحركة الإسلامية، وأن مصر صارت بمعنى ما «إسلامية» حتى دون سيطرة الإسلاميين على الدولة. نعم لم يسيطر الإسلاميون، ولكن سيطرت أطروحتهم على الأقل في المجال العام، فيما ما زال الفضاء الاجتماعي في المغرب بعيداً عن سيطرة الإسلاميين، ومن غير الوارد سيطرتهم عليه؛ هناك الدولة المغربية القوية في إحكام سيطرتها، وهناك التيارات اليسارية القوية وصاحبة النفوذ، وهناك اللوبيات الغربية، وخاصة الفرنكفونية، التي تفرض تصوراتها في المجال الاجتماعي، فيما يبقى نفوذ الإسلاميين ضعيفاً، رغم أنهم الأقرب في معظم الأحوال من الشارع المغربي.
■ ■ ■
قد يبدو الحديث عن سمات عامة للحركة الإسلامية المغربية تعميماً تغيب فيه الفروق بين تنظيماتها المختلفة، وخاصة الكبرى منها. وقد يكون هناك بالفعل فارق مركزي يتصل بالموقف من الدولة، وتتمايز فيه «العدل والإحسان» عن «التوحيد والإصلاح» وغيرها من الحركات الإسلامية الأخرى الأقل حضوراً ونفوذاً، لكن جماعة «العدل والإحسان» لا تبعد كثيراً عن إمكانات الاستيعاب في الدولة المغربية، رغم واقع المنع القانوني والحصار السياسي. وأتصور أنه يمكن بسهولة إدماج «العدل والإحسان» سياسياً، وخاصة بعد مرحلة الأستاذ عبد السلام ياسين وما تمثله مرجعيته التأسيسية وكارزميته من سد أمام هذا الإدماج. أنا لا أتوقف كثيراً عند المعارضة التي تبديها الجماعة، والتي تصل أحياناً إلى التلميح برفض حتى النظام الملكي على النحو الذي صرحت به نادية ياسين ابنة المرشد. فهذا كله سهل وممكن تجاوزه ومعالجته من الدولة المغربية. لقد نجح الحسن الثاني من قبل في تهذيب «الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية» وأقوى معارضة يسارية كانت تتبنى مشروعاً جذرياً للتغيير يرى أن علاج الملكية هو استئصالها! وفي كل الأحوال، لم ولن تصل «العدل والإحسان» إلى معشار ما بلغه اليسار الذي صار ينعم بدفء الدولة! الأكثر دلالة في نظري هو أن «العدل والإحسان» ما زالت رهن الرؤية الدينية للدولة المغربية، بل ربما أجدها، في العمق، أقرب لهذه الدولة التي ما زالت تستحضر نموذج الدول السلطانية ذات الشرعية الدينية، من حركة «التوحيد والإصلاح» الأقرب إلى نمط أكثر حداثة للدولة. «العدل والإحسان» لا مشاكل جذرية لها مع المكوّنات الدينية التقليدية في المغرب؛ فهي جماعة صوفية غارقة في التصوف الذي يمثّل ملمحاً فارقاً في التدين المغربي، وهي أقل تأثراً بالسلفية، وخاصة الوهابية، وأقرب للأشعرية وما يتصل بالطابع الديني المغربي بامتياز. «العدل والإحسان» أقل تأثراً بالحركة الإسلامية المشرقية؛ لها تنظيرها المستقل عنها، ولها تكوينها وبناؤها التنظيمي، وهو مغربي خالص، والمعارضة الجذرية التي تبديها هي رهن بشخصية عبد السلام ياسين وبحرص دوائر في المخزن على قطع الطريق على أي تقارب معها، وأتصور أن كل هذا قابل للتجاوز يوماً ما إذا ما توافرت الشروط والإرادات.
لكن لو تكلمنا كلاماً عاماً عن المشهد الإسلامي الحركي المغربي، يمكن أن أقول إن الدولة تسيطر عليه تماماً، وأنها ما زالت قوية وقادرة على ضبط الفضاء الديني والتحكم به، بما فيه المكونات الحركية، بل السلفية منها أيضاً، رغم أن الأخيرة مفترض أنها الأبعد عن المغرب دولة ومجتمعاً. لكن ما زال المغرب قادراً على فرض منطقه على الحالة الإسلامية الحركية بدعوى الخصوصية المغربية، وما زال كل الفاعلين الإسلاميين تتطلع عيونهم إلى المخزن طلباً لنظرة رضى. وكلهم يعمل، لكنّ خراج عمله يأتي المخزن في نهاية المطاف، وكأنّنا باستعادة بليغة لمقولة الرشيد: أمطري حيث شئت فسوف يأتيني خراجك!
■ ■ ■
وإذا تحدثنا عن المصادر والمرجعيات الفكرية التي تتكئ عليها الحركات الإسلامية في المغرب، فإنه، باستثناء «العدل والإحسان» التي وفر لها مؤسسها عبد السلام ياسين عدّة أيديولوجية كاملة، يمكن القول إن الحركة الإسلامية في بدايتها كانت مرتبطة بنظيرتها المشرقية في الأدبيات والمرجعيات الفكرية. كان هناك حضور واسع لكتابات حسن البنا رغم قلتها، ولكتابات سيد قطب ولأبي الأعلى المودودي وعبد القادر عودة، بل حتى تاريخ الحركة في مصر وآداب السجون والمعتقلات كان له تأثير بالغ.
لكن الحركة الإسلامية بالمغرب استطاعت، برأيي، في سنوات قليلة أن تأخذ مساراً فكرياً مستقلاً وأن تبدع وتقدم رؤيتها الخاصة. ويمكن هنا الإشارة إلى كتابات الأساتذة محمد يتيم وأحمد الريسوني وسعد الدين العثماني، في مراحل تاريخية مختلفة، وكذلك الرسائل الحركية التي يكتبها محمد الحمداوي رئيس حركة «التوحيد والإصلاح». لكن ما زلت أتصور أن عبد الإله بنكيران هو أهم من أثّر في مسار الحركة الإسلامية المغربية وتحولاتها الكبرى، رغم أن تراثه المكتوب قليل ومتواضع بما يمكن أن يحول ذلك دون إدراك دوره في بناء الحركة وتوجيهها فكرياً. قد لا ينتج بنكيران أفكاراً، لكنه قادر على التقاط الفكرة المناسبة، يلقي بها ثم يشرحها عنه الشارحون. وقد كان له تأثير كبير في تطور مسار الحركة الإسلامية بالمغرب.
ولكن رغم أنها قطعت الشوط الأوسع والأهم في مهمة التأصيل الفكري، فإن ثمة ظاهرة لافتة تدعو للتأمل، وتتمثل في أن الحركة الإسلامية ما إن انتهت من صياغة مشروعها الفكري متكاملاً حتى فقدت الدافعية الذاتية لتنزيله..! ثمة تحولات مهمة داخل فضاء الحركات الإسلامية من شأنها أن تؤسس ليس بالضرورة لنقض أطروحاتها بل لتفكيكها وإنهاء فاعليتها ذاتياً. وأرى أن بعض الرسائل الحركية للأستاذ الحمداوي رئيس «التوحيد والإصلاح» التي نشرها طوال الفترة الأخيرة، كانت ذكية وموفقة في التقاط هذا التحدي، وخصوصاً ما يتصل بشيوع أطروحة تجاوز الأطر الحركية والتبشير بما بعد التنظيمات في العمل الدعوي، وهو مما يهدد أصل وجود هذه الحركات. ويلفت نظري مثلاً إلى أن كثيراً من أبناء الحركة الذين التحقوا بالمؤسسة الدينية الرسمية (المجالس العلمية) كان أول ما حرصوا عليه قطع علائقهم كاملة بالحركة، رغم أنها كانت مصدر قوة لهم، بل ربما ما اختيروا إلا بسببها... ثم هناك روح عامة تسري في الحركة أتصور أنها مرشحة لأسباب وسياقات خارجة عنها للتنامي ومن شأنها أن تنهي الأطروحة الحركية تماماً في مدى ليس بعيداً!
■ ■ ■
وبإزاء صعود الحركة الإسلامية سياسياً في العشرية الأخيرة، ألقت الدولة المغربية بورقة «الزوايا الصوفية». ورغم التاريخ العريق والحضور المتجذر للزوايا الصوفية، لا أتصور أنها تمثل رقماً حقيقياً أو أنها ستمثّل تهديداً للأطروحة الحركية الإسلامية في الوقت الراهن على الأقل. نعم يمكن أن نتكلم، وفق مؤشرات علم الاجتماع الديني، عن حضور متصاعد للتصوف في المستقبل القريب، لكن التصوف الذي يتوقع أن يتنامى ليس هو التصوف الطرقي الذي يمكن تعبئته في أطر وتشكيلات كالزوايا على الشكل التاريخي الذي عرفناه خاصة في المغرب. التصوف المقبل هو تصوف فرداني بحت، غير مؤسسي، مرتبط بتحولات عميقة في الظاهرة الدينية تنقلها من المؤسساتية إلى الفردانية. لذلك، فالتصوف المقبل لن يكون بالضرورة لفائدة مؤسسات الزوايا، كما أن التوظيف السياسي المباشر والفج للزوايا سيقضي على أي شرعية مجتمعية لها، وهو ما سيكرّس مأزقها.
■ ■ ■
ورغم أن الحركة الإسلامية المشاركة في اللعبة السياسية أخفقت في تحقيق طموحاتها في أكثر من تجربة سياسية في السنوات الأخيرة (ومنها الانتخابات البرلمانية الأخيرة في أيلول/ سبتمبر 2007)، فإن تحليلاً عميقاً سينتهي إلى أن الدولة المغربية بحاجة إلى الإسلاميين بقدر حاجة الأخيرين لها. فإسلاميو المغرب لا يمكن أن يتجاوز خيالهم السياسي سقفه في العلاقة مع الدولة. وأقوى رهان لديهم هو الدخول فيها أو على الأقل ضمان علاقة مباشرة مع القصر. ربما لا يعلن هذا صراحة إلا قليلون مثل بنكيران. لكن الدولة أيضاً بحاجة إليهم ليس كديكور سياسي في لعبة يوشك أن يملّها الجمهور، بل كدماء جديدة لا تخلّ بحسابات المخزن المعقدة أو خياراته السياسية الكبرى داخلياً وخارجياً، ولن يجد أفضل من «العدالة والتنمية» أبناء عبد الكريم الخطيب لهذا.
تاريخياً، لدى المخزن في المغرب قدرات هائلة في معرفة اتجاهات الرياح واشتمام رائحة السفن الغارقة، وأتوقع أنه في اللحظة المناسبة سيمنح الإسلاميين التفاته. وساعتها، لن يتوقف كثيراً أمام اللوبيات التي تعارض ذلك.
* باحث في شؤون الحركات الإسلامية