في ١٤ كانون الثاني ٢٠١٠، نشرت «الأخبار» مقالاً تحت عنوان «مجتمع البلاط» لرائد شرف، قدّم فيه الكاتب مفهوم «البلاط» لتحليل إنتاج القرار السياسي في لبنان، وكيف يغذّي هذا المفهوم نفسه عبر هيمنته على الأجساد والهندسة، لتعميم هيمنة عائلة رأسمالية على المجتمع في لبنان. هنا مقال يوسّع استخدام مفهوم البلاط من أجل فهم معمّق للمجتمع السياسي اللبناني
رائد شرف*
تنقص دراسات المجتمع في لبنان أبحاث تركّز على عالم صناعة القرارات السياسية في البلاد. طبعاً، الحقل الصحافي وعالم المعلّقين اليوميّين يزخر بالنظريات حول موضوع منطق القرارات السياسية، والتي تمزج الصور المتخيلة بالتحاليل شبه البنيويّة، بمستوياتها «البلدية» و«الشرق أوسطية». وهنالك من يظهر لنا في الإعلام على أنه خبير في «الفكر الاستراتيجي» وغيرها من البدع المصطلحية التي تستأهل وحدها دراسة بشأن إمكانات تبلورها واستمراريتها في الحقل الإعلامي. لكن هذه النظريات تبقى عاجزة عن تفسير أمورٍ يأخذها المعلقون كتحصيل حاصل. ونذكر على سبيل المثال تفضيل الطبقة السياسية في ظروف تأليف الحكومات، لتكنوقراطي تافه على غيره، بغية توظيفه في تغطية سياسات مجرمي الحرب والمال في المحاصصة الإدارية.
نظريات المعلقين الإعلاميين، وبالرغم من فذلكتها وتطورها أحياناً، تبقي في الخفاء تفاصيل كثيرة من مسيرات أعضاء مجتمع السياسة وماهية سلوكهم، وخصوصاً رجال ونساء الظل الذين يمثّل التكنوقراط الوزاريون الجزء الظاهر من عالمهم. هم أناسٌ يصعب تصويرهم ضمن نظريات «الولاءات الاستزلامية» التي يهوى استخدامها مجتمع المعلّقين، لأناقة حلّتهم ربّما ولقربهم من الصحافيين ومصادقتهم.
والحديث عن «الولاءات الاستزلامية» هو تقليد نخبوي عند مجتمع المعلقين يقع ضمن منطقٍ استشراقي، وفي خطاب الاستعمار عن مشرقنا العربي: فما حصل حادث، إن كان تظاهرة جياع أو جريمة سرقة، إلا فسّره المعلقون بـ«جيولوجيا الطوائف». وكلنا سمعنا بحادثة الولدين التي أشعلت أحداث ١٨٦٠. وفي بهلوانيّتها المرجعية، بين خفايا «مشاكل الأحياء» وديناميكيات «النظام الإقليمي»، تخفي نظريات المعلّقين في الإعلام حقيقة أن بعض سياسات السياسيين موجودة لتطول، بالرغم من أوهام التغيير و«الربيع» التي قد توحي بها الأزمات السياسية، والتحدي لمنطق كل ما يقال عن هذه الأزمات. ذلك أن هذه السياسات مرتبطة بأجساد ومعتقدات أعضاء الطبقة السياسية، في حياتهم اليومية وفي عالمهم اليومي، إلى درجة أنه يستحيل على أغلب السياسيين أن يلتمسوا إمكان التغيير، حيث يلتمسه غيرهم، أو حتى أن يلتمسوا فائدة التغيير، حيث أثبتت التجربة ضرورته، أو فائدة أي سياسة بالعموم.

تنطلق معتقدات عناصر البلاط من المحافظة على هيمنة الطبقة الحاكمة والمالكة، وكلّ ما عدا ذلك قشور
فلنأخذ على سبيل المثال «حالة جنبلاط» التي لا يكفّ الإعلام عن الانبهار بـ«تراجيديّتها». فغالباً ما يقال عن جنبلاط إنه يجود في قراءة الأحداث والإشارات الإقليمية والدولية. يجود جنبلاط في السياسة، لذلك، انتهج خطاً سياسياً جديداً، وقام بمراجعةٍ لخطّه السابق الذي تبع مقتل رفيق الحريري. وكم يبدو جنبلاط حكيماً في قراره الأخير، مع أن القرار أتى ومسلّحو ميليشيا أمل على بعد أمتارٍ من قصره. لكن، لنعد إلى قرار جنبلاط عام ٢٠٠٥، ولنعِد سرد ظروفه بلغة التخيّلات الاجتماعية التي يسوّق لها معلّقو الإعلام والسياسيون. في ٢٠٠٥، كان حزب الله له سابقة انتصار على عدوان إسرائيلي في ١٩٩٦، وكان لإسرائيل آنذاك اليد العليا في المعارك الأرضية من خلال حصونها العسكرية وميليشيا لحد، والسماء بطبيعة الحال. ثم إن لحزب الله تقاليد «تجنيد للشارع»، على ما يقولون، يستحيل على كتاب غينس مواكبتها. ثم إن «الضاحية» أصبحت ملاصقة لحدود نفوذ ميليشيا جنبلاط في الحرب الأهلية. وجنبلاط ذو السابقة المشرقة في حرب الجبل يسهل عليه مزج المدنيين في الضاحية بالفرضيات العسكرية. في ظل هذا التقويم، هل كان من الحكمة أن ينعطف جنبلاط حريريّاً عام ٢٠٠٥؟ كيف يمكن أن يحسب جنبلاط بالميلّيمتر شؤون المنطقة، أو شؤون أي شيء سوى المائدة، وقد اختار موقفاً مغالياً في المعاداة «للمجوس»، على حد تعبيره؟
هذا لا يعني أنه ليس لسلوك جنبلاط منطق اجتماعي، بل العكس هو الصحيح. يجوز ردّ سلوك جنبلاط إلى حال من شبه الثبات البنيوي في تكوين شخصه وعالمه، وبالتالي قراراته. لن نغوص كثيراً في ذلك، وقد كان قصدنا توسيع استخدام مفهوم «البلاط» الذي عالجناه في مقالٍ سابق، بنتائجه على نقد التحليل الإعلامي السائد. فجنبلاط قريبٌ من البلاط، ولا يستقيم تحليل سياسته من دون الرجوع إلى علاقته بمجتمع البلاط. قد قلنا في مقالنا إن البلاط «موجود»، وقد يكون في قريطم، وهو نموذج تفاعل اجتماعي وإنتاج قرار سياسي، مجسّد هندسياً وسلوكاً اجتماعياً، ويغذّي نفسه من هيمنته على الأجساد والهندسة، ويصبّ في مصلحة تعميم هيمنة عائلة رأسمالية على المجتمع في لبنان. كيف استوى هذا البلاط في موقعه في المجتمع السياسي اللبناني، وعلى من تترتب مسؤوليات سلطانه: ماذا حصل ليشيد فارس خشان بـ«فحولة» رفيق الحريري؟ وماذا حصل ليذهب وليد جنبلاط ذات يوم عاصف في مركب سعد الحريري، ويعكس تحالفاته السابقة مع نظام دمشق؟ هذا ما سنعرض بعض تفاصيله في ما سيتبع.

في تجنيد البلاط لرجالاته

البلاط ليس رسميّاً. فإذاً، لا يمكنه أن يستوعب جميع عناصره على قاعدة التزام واحدة. قوانينه تأخذ أشكال العفوية عند من يقع ضمن مجال إشعاعه، وتأخذ مبررات «الصدفة» عندما ترتفع أصوات المحاسبة ضد من يتّهم بأنه من البلاط. وهي أمورٌ تصحّ بعفويتها، عند كثير من عناصره. ولا تصح عند الكثير من الآخرين، أخصهم أولئك الذين انضموا إلى البلاط في بدايات تكوّنه. يومها كان من المستحيل التبرير بحجج «المصلحة العامة» الالتحاق بمشروع رفيق الحريري. مَن كان الحريري قبل ترؤسه الحكومة الأولى مع انتهاء سنة ١٩٩٢ ليلتحق المرء به؟ وهناك مَن يسأل مَن هو اليوم. ومع ذلك، التحق كبار السياسة في لبنان بحكومته قبل غيرهم في المجتمع، من الصحافيين والمهنيين الآخرين. فكبار السياسة في لبنان هم صغار المجتمع... لكنهم ليسوا من البلاط، بمفهومنا، بل حلفاء له، وسنتوسع بدورهم لاحقاً. لدى المنضمّين الأوائل إلى البلاط، تفرض نفسها نظرية التوظيف البلاطي الصرف، عن طريق الصالونات الخاصة واللياقات و«السحر الشخصي». تتحدث كارول داغر، في كتابها المتحسّر عن وحدة الكانتون المسيحي «رهانات الجنرال»، عن مبلغ مالي كان يرسله الحريري إلى قائد الجيش اللبناني، العماد ميشال عون، وكان يستخدمه الأخير لدفع رواتب جيشه. الرواية يسردها كذلك السفير السابق في واشنطن، عبد الله بوحبيب، في كتابه «الضوء الأصفر». ويتوسع بوحبيب في بعضٍ من طرق عمل الحريري، ويسمّي رجل الاستخبارات جوني عبدو بين من سعوا إلى «فتح الأبواب» للحريري، ويا لسخرية التعبير، بما يخصّ مفهوم البلاط (انظر ص ١٧٧، الطبعة الخامسة، شركة المطبوعات للنشر). أيضاً، دخل الحريري في علاقة مع القوات عن طريق زاهي البستاني، المدير العام الأسبق للأمن العام، رجل أمنٍ إضافي. وهناك من المثقفين المتوجّسين من يرى في حزب الله فقط طرق «الحركات السرية»، بينما المناسب الحديث عن حقلٍ كامل من السياسة السرية في ما يخصّ لبنان. لكن يبدو أن الحلة الصالونية لسياسات الحريري السرية تعفيه من صفة «التآمر». عندما جاء عون رئيساً للحكومة العسكرية، أوقف الحريري إرسال الشيك الشهري، يتابع بوحبيب، «وراح يعمل مع باقي القوى المسيحية: القوات، البطريرك والنواب». ينجلي من وصف بوحبيب إطار عمل الحريري في بداياته، الذي سيميز عمله حتى النهاية. وهو الإطار الذي سيستوي عليه بلاطه، بمعتقدات أفراده وأطر سلوكهم: لقد اختار الحريري المؤسسات المحافظة في المنطقة الشرقية، وهو لا يمكنه أن يشرد ولو قليلاً عن قاعدة دعمه مصالح الطبقة المهيمنة. تغذية عون وهو على رأس الحكومة كانت لتكسر الثقة مع قادة الحرب والإكليروس ونواب النظام الطائفي. كما أن رأس الحكومة مخصص «للطائفة السنّية الكريمة»، في لغة النظام. من هنا تنطلق معتقدات عناصر البلاط، أي من المحافظة على هيمنة الطبقة الحاكمة والمالكة، وكل ما سيتبع من معتقدات مجرّد قشور يمكن الاستغناء عنها بحسب الظروف السياسية، ووظيفتها تجديد البلاط لخطابه، دائماً ضمن حلة بلاطيّة، وتغطّيه فئات اجتماعية جديدة أو متمردة، مثل حلف الحريرية و«حركة اليسار الديموقراطي» ـــــ التنظيم الذي شكل إطار تدريب وتهذيب لبعض الشباب لتسهيل عبورهم نحو اليمين. من هنا نرى أن الجيل الأول من الحريريّين لم ينجرّ كاملاً في مشروع سعد، وانسحب عن الأضواء لبعض الوقت، مكتفياً بالافتتاحيات الصحافية مثلاً، أو بكتابة مذكراته... مع رفيق الحريري. فمرحلة سعد الحريري فرضت على الأخير تصادمية سياسية مع بعض قدامى النظام اللبناني، من أصدقاء البلاط، لم يحسب لها حساب عناصر البلاط الأوائل عند توظيفهم: هم صراحةً مع تجانس النظام الاستغلالي التام، بكامل أعضائه، ٨ و١٤ آذار.
في بعض هؤلاء من الوسط الصحافي مثلاً، يخصص جوزف سماحة أشد الكلمات تحقيراً، في كتابه «قضاءً، لا قدر». ومثال جوزف سماحة في تعاطيه مع رجال الحريري الأوائل في الإعلام والسياسة بليغ في إبراز موقع هؤلاء في مجالهم المهني. موقع هامشي، وجدت فيه الحريرية مادتها. لكن ذلك كله كان قبل إنشاء الحريري المؤسسات الإعلامية والكتل النيابية، وفرضه من أعالي رئاسته للوزارة قانوناً إعلامياً على مقاسه ومقاس الطبقة المهيمنة، وتثبيت ذريعة عقد العمل الشرعي للصحافيين الآخرين الذين أرادوا أن يحافظوا على مهنيّتهم. كان إنشاء مؤسّسات المستقبل وإلغاء بعض منافساتها محطة انطلاق لتوسّع نفوذ الحريري السريع داخل بعض أوساط المجتمع، وتوسّع نموذج بلاطه على بعض أعضاء هذه الأوساط.

صفات البلاط الاجتماعيّة

يتغنى الإعلام الحريري بتعدديته الطائفية. والصفة إن دلّت على شيء، فعلى قدرة بلاطه على التوسع في مجتمع المسرح، أي الإعلام والسياسة ذات الخطاب العلني الطائفي. كما تدل على طموح بلاطه في الهيمنة على مواقع تحريك المجتمع اللبناني برمته. وقد بيّنّا، في المقال السابق، شمول البلاط صفتين اجتماعيتين أساسيتين في بسط قوانينه على أعضائه، كما في بسط سلطان أميره على المجتمع: الاستعلاء والمسالمة. للصفتين جذور اجتماعية خاصة بالتاريخ المعاصر للمجتمع في لبنان، لكن البلاط، وكأي أداة هيمنة، يعمل على التغذّي من «حجج» هذا التاريخ وعناصره الحسية التي تصبّ في مصلحته، ليعيد تسويقها وتعميمها، واحتلاله عن طريقها مساحات الخطاب وتحوير كلل أشكال الخطاب لمصلحته. للاستعلاء أن ينجح، وللبلاط أن ينجح في مجتمعٍ لا يقبل بصفة رسمية «للبلاط» (هنا الفرق الوحيد بين لبنان والمملكة السعودية مثلاً). على البلاط أن يمتزج بصور أشخاص من خارجه، ليسوا بالمداومين في القصر وليست وظيفتهم نقل شائعات القصر أو المديح بالأمير، إنما الإشادة بخط سلطانه وبنظرته إلى الأمور وكأنها نظرة من طبيعة الأمور نفسها. في هذا الصدد، يجد البلاط رجالاً ذوي صدقية، في الصحافة والفنون، أهمها انتهاجهم شيئاً من خط البلاط قبل تكوّنه. وما أكثر المثقّفين الذين التحقوا بالبلاط في التسعينيات. حتى إنه يمكن القول إن الحريرية وحليفاتها المؤسساتية (التمويل الأجنبي مثلاً) تمثّل أكبر مؤسسة لاحتضان الثقافة في لبنان. ثم إنه لا وجود لاحتضان جدّي للثقافة منافس للحريري أو يلبّي أبسط شروط العرض الثقافي (مسرحاً، وكتابةً، وإعلاماً). إلى أين يذهب المثقّف ليلقى الدعم، إلى نبيه بري؟ لذلك بدا أن بعض مثقفي الحريرية منسجم مع نفسه، إذ إن خطابه الحريري، ولاحقاً الآذاري، كان قد تحدث به منذ الثمانينيات، إن لم يكن من قبل. يمكن العودة مثلاً إلى مجادلات مهدي عامل مع بعض الكتاب اليوميين (كتاباه «نقد الفكر اليومي» و«في الدولة الطائفية» على وجه الخصوص) في الثمانينيات، لأخذ علمٍ ببعض المناحي والأنماط الخطابية وتبريراتها التي ظهرت في حينه في صحافة «بيروت الغربية»، الصحافة التي ستطغى على مجمل أوساط المهنة في التسعينيات في ظل نظام الجمهورية الثانية، يميناً ويساراً، موالاة ومعارضة، حتى ضاعت المعايير (حتى «النهار» وظّفت إلياس خوري آنذاك لتتماشى مع أنماط خطاب الغربية التي جرى تعميمها). ولن نبحث الآن في ظروف بروز هذه المناحي، فهي كثيرة ومتعددة التأثيرات بحسب الأشخاص: من تفوق نفوذ المال النفطي الخليجي على الليبي مثلاً، وانتهاء دور «الوسيط الفلسطيني» في تأطير هذا التمويل، إلى ديناميكيات السياسة اللبنانية الداخلية واستواء «النظام الميليشيوي» بخطابه الطائفي و«الجماعاتي» الصرف، على ما وصفه جورج قرم، إلى انهيار الليرة والمعاشات.
لكن ربما كان أكثر هذه التأثيرات جدّية في ما يخصّ ركائز البلاط، هو التحولات الاجتماعية السريعة التي سبّبتها الحرب. تحوّلات في الأماكن، قبل كل شيء. على هذا الصعيد، هنالك كتب ووثائق كثيرة تتحدث عن مشاهدة التحولات، ومنها ما يرى فيها «مسارح»، وعن وقع هذه التحوّلات على «النفوس المثقّفة»، والذي غالباً ما أخذ أشكال الخوف، والرفض، والعنصرية الطبقية والاجتماعية. على هذا الصعيد، يجب الفهم أن البلاط أخذ ارتكازه عند نفوس من عاش مصاعب الحرب من المثقفين والمهنيين الاستشاريين، عبر تقدمته لهم مكاناً مسالماً وثابتاً، مادياً وهندسياً، كبديلٍ معياري. والهندسة والرموز كفيلة وحدها بجرّ الأجيال الجديدة من المهنيين إلى جناح البلاط، دون أن تقبض المعاشات التي يقبضها الكبار. إن الثبات الاجتماعي ووجه الطمأنينة الرمزي ورموز المسالمة من العناصر الأساسية التي يعمل عليها البلاط في التسويق لنفسه، وفي أغلب الظن، في تثبيت لحمة أعضائه. فالحريرية لطالما سوّقت لرؤوسها، عبر عرض صورهم داخل منازلهم، إن كان على حوارات شاشات التلفزة، أو في الخطابات (ومناسبات ذكرى ١٤ آذار استثناء). وليس تسخير مبنى السرايا، مع إضافة طبقة كاملة له، لرئاسة مجلس الوزراء، والإفطارات الرمضانية في دارة قريطم حيث يتخطى عدد المدعوّين عشرات الآلاف شهرياً وتنقل صورها صحيفة المستقبل، إلا تتمة لهذا المنطق، للاحتفال الذاتي بواحات الازدهار البلاطية.
لكن كي تستقيم المسالمة البلاطية في مجتمع ما زالت أنماط ميليشيوية تحكمه، يجب أن يبدو البلاط كملجأ. وبالتالي، يجب على القوى المسلّحة أن تتعاون مع البلاط. المثال الأكثر بلاغة في هذا الموضوع، والذي يجدد البلاط نفسه به مع تجدد عناوين معاركه، هو قدرته على تكسير الإنسان المنتقد أو أقلّه إلحاقه ضمن دعايته (و ليس بالضرورة رعيّته). ورواية سمير قصير مع الأمن العام شكّلت مادّة دسمة لهذا المنطق. إذ لا يفسّر لنا الإعلام الحريري كيف لسلطة «النظام الأمني اللبناني ـــــ السوري» أن تتوقّف على أبواب قريطم، وأن يحمي الحريري قصير. الحقيقة، التي يتذكّرها كل من عاش هذه السنين، هي أن الحريري والنظام الأمني كانا متحالفين. واللعبة السياسية العادية كانت تضم ضمن فصول «مسرحيتها» تولّي أركان النظام سوق الأفواه والأقلام المعارضة تحت جناحهم. والحريري كان أكبر قوة امتصاصية في هذا الموضوع.

جمهوريّة البلاط

إذاً، تعاون أركان النظام مع الحريري لتمرير فعالية بلاطه في بعض الأوساط في المجتمع، وعلى رأس مؤسسات الرمزية الاجتماعية. إذ أصبح البلاط الحريري من أشكال الاحتفال البورجوازي العادي. وعلى هذا الصعيد، يمكن تمييز نوعين من التعاون مع البلاط عند أركان النظام الآخرين: الأول، وهو تعاون عبر التقليد، وسنأتي بتفاصيله لاحقاً. والثاني، هو تعاون حزب الله، الذي اقتصر على احترام الأخير لوهج البلاط، وبالتالي لسلطانه: فكيف نفسر مثلاً أن يردّ السيد نصر الله في بعض خطبه على كتّاب البلاط من المحرّضين في الصحافة؟ بينما ميشال عون، الذي لم يؤدَّب «بأخلاق الجمهورية الثانية» في التسعينيات، لا يخفي ازدراءه للجسم الصحافي بأكمله، بلاطيّاً كان أو لا. وفي هذا الخصوص، لم تكن وقاحة مسؤول من المملكة السعودية غريبةً عن عادات البلاط التكبّرية، رغم سخافتها بالمناسبة، عندما وصف المقاومين بـ«المغامرين» في أوج المعارك في حرب تموز ٢٠٠٦، ونقلت قوله جريدة المستقبل في صفحتها الأولى، بينما الناس ُيقتَلون في الجنوب (انظر عدد ١٤ تموز ٢٠٠٦). وقد لحقه مجلس الوزراء السعودي برئاسة خادم الحرمين الشريفين عبد الله بوصف المقاومة بـ«العناصر المنفلتة» (انظر «المستقبل»، عدد ١٨ تموز ٢٠٠٦).
أما النوع الأول من تعاون أركان النظام مع البلاط، فقد أخذ في الشكل والمضمون مستوى أكثر تلاحماً. حتى أصبحت مصالح أركان النظام الآخرين ملتصقة بمصلحة الحريري. وكي تتصالح تلك المصالح، كان على البشر أن يتعاشروا، ويختلطوا في الإطار الاجتماعي نفسه. وقد ارتضى أركان النظام الاندماج في نمط العيش الحريري، أو «الأبّهة الحريرية». ولافتٌ في هذا الخصوص انتقال جنبلاط من سكنه في المصيطبة إلى كليمنصو، ونبيه بري من بربور إلى عين التينة، مساهمين على مستوى اللعبة السياسية في تسويق مركزية إشعاعٍ «راس بيروتي» بورجوازي، وفي انطفاء الرمزية عن باقي أحياء العاصمة، أقلها الرمزية السياسية. لا شيء سوى الهندسة في هذه الظروف كفيل بفضح حقيقة نظامٍ يتغنى بتعدديته، لكنّه في منطقه موحّد الأبعاد. هذا عندما لا يكون الركن الحاكم يقطن بيتاً اشتراه له الحريري كما هو الوضع مع عبد الحليم خدام الآن في باريس، المشرف على إدارة نظام الشام للملف اللبناني في التسعينيات، وكما كان الوضع مع أول رئيسٍ للجمهورية بعد اتفاق الطائف إلياس الهراوي، قبل ترميم قصر بعبدا. منذ نشأتها، كانت الجمهورية الثانية بلاطيّة. وقد التصقت صورة مجرمي الحرب في مرحلة السلم بالبلاط ليشكل قربهم منه شرعية رمزية جديدة، ما يفسر التصاقهم به في السياسة، أو ودّهم له «عند الحشرة»، كما حدث في ٢٠٠٥.

مقاومة البلاط

لا يمكن التعميم على المستوى الشعبي عن مفعول نموذج البلاط ونتائجه بالتفاصيل، كما يفعل الخطاب الصحافي والسياسي وحتى الأكاديمي عندما يتحدث بتبسيطٍ عن الناس في لبنان، عبر تصويرهم قبائل وطوائف. فـ«العصبية» لا شك أنها نموذج اجتماعي فعال، لكنه بعيد من أن يختصر منطق الناس في حياتهم اليومية، وحتى في آرائهم السياسية. فالأدلة الإحصائية تشير إلى أن الناس قاوموا سحر البلاط وما حاولت الطبقة السياسية الموحدة حول القصر إنزاله قصراً عليهم. قاوم الناس عندما كانت الطبقة السياسية موحدة. قاطع الناس انتخابات سنة ١٩٩٢، وكذلك فعلوا لاحقاً، إذ لم يشاركوا بكثافة إلا في مرحلة الأزمة التي تتبع منطقاً من الفرص السياسية استثنائياً ومتوتراً. في ١٩٩٦، عندما نضجت اللعبة السياسية بكامل أركانها «الشرعيين» (وقد استبعد سمير جعجع)، حصل إلياس أبو رزق، من منتقدي البلاط آنذاك، على عدد أصوات في الجنوب يفوق عدد أصوات أي عضو من كتلة الحريري الناشئة في دائرة بيروت الموحدة. ومع ذلك، لم يعطه النظام مقعداً واحداً، فيما أعطى الحريري ١٣ مقعداً. هل من يتذكر بين المعلّقين أن الجنوب أعطى ٩٤٠٠٠ صوت لإلياس أبو رزق في وجه تحالف حزب الله مع أمل؟ تحالف أرغم حزب الله على عقده.
تغيّر تصويت الناس مع الوقت. وجرى إقناعهم باستحالة التصويت لمن ليس مرغوباً فيه على الساحة السياسية قبل إقناعهم بالمرغوب فيه. وفرضت على الناس في المنطق الإعلامي خيارات وأنماط تفكير ضمن قوانين البلاط وآدابه، وعبر التعتيم الإعلامي على من كان يمكن أن يزعج اللعبة في الأطراف (ولا ننسى المضايقات الأمنية والقضائية التي طالت البعض). ومع ذلك، لم يقتنع الناس، وانتخابات المنطقة الشرقية سنة ٢٠٠٩، بعد ١٧ سنة من البروباغندا البلاطية التي أرادوا من خلالها تسويق تهذيب نسيب لحود على أنه فعل المقاومة المطلق، أثبتت أن أي منافس عدائي للبلاط ولياقاته يمكنه أن يحصد أكبر عدد للأصوات. فكيف لو لم يكن هذا المنافس طائفياً، وانفتح بخطابه على باقي أوساط المجتمع؟ والتيار الوطني الحر لم يتميز عند الناس بطائفيته لأن خصومه السياسيين طائفيون أيضاً، وعلى قواعد أثبت.
في امتحان التقليدية، لطالما برهن الشعب أنه ضد الأمر الواقع، عندما أعطي الفرصة لذلك. أما من يصوّت من الناس للبلاط، فتعود أسباب تصويتهم إلى أن البلاط يستند إلى جذور اجتماعية حقيقية، محورها المسالمة والكبرياء الاجتماعي. وهذه أمور لا تتحدث بها المعارضة، بل تخجل من معالجتها، لأنها تعتمد خطاباً ناقصاً عن المقاومة والحرب مع العدو، كما أراده البلاط أن يكون في التسعينيات. خطاب مؤدّب يجعل من المقاومة مهمة فرعية، ويجعل من العدو بالتالي خطراً فرعياً في حياة المواطنين، بدل أن تدخل المقاومة ضمن خطة تحرر اقتصادي شاملة: التحرر من رأس المال

مرحلة سعد الحريري فرضت صداماً مع أصدقاء البلاط الذين يفضّلون تجانس النظام الاستغلالي التام، بكامل أعضائه، ٨ و١٤ آذار
وشروطه التي تطال المواطنين في صميم عيشهم وبوتيرة أقوى وأقدم من تلك التي للعدو الصهيوني، وللعدو الصهيوني بعده الرأسمالي أصلاً، والتحرر من فحش البلاط ونموذج عيشه المعمّم على رأس المجتمع. ولا تعني المسالمة عقيدة بعض منظمات المجتمع المدني المؤدبة، إنما هي شرط ارتكاز البشر مع محيطهم الاجتماعي وقدرتهم على التخطيط المعيشي، وبالتالي، على ثباتهم في الأرض. كذلك الأمر بالنسبة إلى الكبرياء. والفقراء في لبنان تؤخذ حقوقهم ويهانون على نحو مفضوح، ولا من يقدّم لهم بديلاً يخوّلهم متابعة عيشهم على أرضهم دون الاضطرار إلى الهجرة. ويعرض عليهم فحش البلاط على أنه نموذج النجاح الاجتماعي الوحيد.
كما في بداياته، كذلك في إعادة إنتاجه نفسه، يستند البلاط إلى جموع المتعاونين معه في كل المجالات، في السياسة والثقافة، الواقفين على حدود آدابه، متناسين أنه لا يستوي بلاط إلا بينهم وبتمايزه عنهم وبتراتبية علاقته بهم. هم الأزلام، وهم من يتهم الشعب بالاستزلام.
* باحث لبناني