حسان الزينأدّى بعض الإعلام اللبناني، في ظل كارثة الطائرة الإثيوبيّة، دور المرافق المشاكس لعملية البحث عن المفقودين والضحايا والصندوقين الأسودين وحطام الطائرة، فمثّل هذا الأمر ضغطاً على الإدارة التنفيذيّة التي راحت تدافع عن نفسها وأدائها وضميرها المرتاح، وقد وجدت، في العديد من وسائل الإعلام، من ينصت لها ويعمل وفق أجندتها. فللطاقم السياسي مداخل عديدة في الإعلام ومؤسساته، وبات يتقن الاستفادة من رصيده هذا.
على أهميّة ذلك، وقد غدا عاديّاً، فإن الأهم هو الأداء التقليدي الباهت للعديد من وسائل الإعلام، المرئي والمكتوب والمسموع، إزاء الحدث. ولا يعني ذلك أن تلك الوسائل، وفي مقدمها «اللبنانيّة للإرسال» و«المر تي في» و«النهار»، أهملت الحدث، بل إنها تعاملت معه كحدث له حيّز لا بأس به من الأهميّة، لكن بتقليديّة ورتابة وبرودة، تحيل لا إلى الأولويّات السياسيّة والمهنيّة لدى تلك الوسائل وحسب، وإنما أيضاً إلى طريقة تعاملها عموماً مع الأحداث، ومع الواقع اللبناني والمتغيّرات التي تشهدها المهنة والسوق الإعلاميّة وأمزجتها. إذ بات لا يكفي اسم الوسيلة الإعلامية، ولا تاريخها وما حققته في خلاله. التحدي هو ماذا تقدّم اليوم، وطريقة تقديم ذلك. فوسائل الإعلام تلك ليست تقليديّة وباردة ورتيبة مع هذا الحدث بالذات، هي كذلك دائماً، شكلاً ومضموناً. وفيما تحرص «اللبنانيّة للإرسال» على الحفاظ على هويّتها الترفيهيّة، وعلى «رسميّة» أخبارها ومصادر مراسليها وعلى صالونيّة برامجها الكلاميّة، فإن «النهار» مرتبكة وباهتة في هذا الشأن. وارتباكها وبهتانها يفاقمان تراجعها، كما يزيد منه ألا تكون حاضرة في الحدث. ليس هذا الحدث وحسب، بل الأحداث عموماً. فهي بعدما انتُزعت منها «المانشيت» السياسيّة، تغدو أكثر فأكثر وكالة أنباء باردة، وبلا عنصر قوّة يرفعها (باستثناء الاسم والموازنة الاحتكاريّة الإعلانيّة)، وحتى كتّاب «أعمدتها» السياسيّة فاتهم القطار وغدوا من الطراز القديم والزمن الماضي وبات يسبقهم، في وسائل الإعلام الأخرى، صحافيّون وكتّاب يقدّمون مادة دسمة من كواليس السياسة وتحليلاتها. فكيف يمكن هذه الوسيلة الإعلاميّة الرائدة أن تصوغ هويّتها المهنيّة وهي خارج الحدث والواقع وأولويّاته المتغيّرة والثابتة وخارج مزاج القراء وتحدّيات المهنة وأجندة المنافسة والسوق الإعلاميّة؟
أمّا «المر تي في» فموضوع آخر. هذا التلفزيون أولويّاته سياسيّة، وهويّته السياسيّة هي ما فرض تعامله المحدود مع الحدث.
هكذا، يمكن رسم خريطة للإعلام اللبناني، بسهولة شبه تامّة، وتبيان التقليدي منه والحيوي وفق الأولويّات المهنيّة والسياسيّة. ففي مقابل تلك الوسائل التقليديّة ذات التعامل البارد، هناك وسائل إعلام تعاملت مع حادثة الطائرة الإثيوبيّة كحدث وطني، ووفق حيويّاتها المتعدّدة، وحضرت حساسيّاتها السياسيّة المختلفة. وفي مقدّمة هذه الوسائل تلفزيونا «الجديد» و«أو تي في» وجريدتا «السفير» و«الأخبار». وأداء هذه الوسائل مفتوح للتقويم، ولا سيما أنها وهي تتعامل للمرّة الأولى مع حدث من هذا النوع، استخدمت عدّتها المهنيّة والسياسيّة ذاتها، فأصابت وأخطأت.
وقد ساهمت الشفافيّة المجتزأة لعمليّة البحث في تأجيج التأويلات والتحليلات والقصص والشائعات والاتهامات. فالإعلام اللبناني، إضافة إلى غرق بعضه في التقليديّة والبرودة، تورّط سريعاً في حروب عدّة في ما بينه حيناً، وبينه وبين إدارة البحث والتحقيق حيناً آخر. ينطبق هذا التشخيص على وسائل الإعلام اللبنانية كلها، مكتوبة ومرئية ومسموعة، وإن بنسب متفاوتة، بين واحدة وأخرى، وبين يوم وآخر، وحدث وآخر، وتحقيق أو عنوان وآخر. لكن، في الوقت نفسه، الاستنتاج هو أن أكثر الوسائل اهتماماً بالحدث هي الأقل خطأً، قياساً بالوقت والمساحة اللذين أعطتهما تلك الوسائل. في المقابل، الوسائل التي تعاملت مع الحدث إخباريّاً فحسب، اعتقدت أنها تحمي نفسها بالتعامل التقليدي، فإذا بها تخطئ مرتين على الأقل. مرّة بالرتابة والاستجابة للحدث كعنوان استهلاكي أبقت الحدث في حيّز لا بأس به من الاهتمام، ومرّة بالبرودة الناتجة من شعور عميق بأن الحدث في أبعاد عدّة منه يهمّ فئات أخرى غير الفئات التي تتوجّه إليها تلك الوسائل.
ليس غريباً الحديث عن أولويات مهنيّة وسياسية مختلفة بين وسائل الإعلام اللبنانية، لكن الغريب أن وسائل الإعلام، ولا سيما التي تتعامل بتقليدية ورتابة وبرودة مع أحداث من هذا النوع، لا تدرك التغييرات في المزاجات اللبنانية المتعددة وحسب، بل في السوق الإعلامية أيضاً. رغم كل شيء لا تزال العقلية التقليدية والطائفية تتحكم بتلك الوسائل. هذا ما يجعل تلفزيون «الجديد» الذي يتصرف مع الأحداث بحيويّة يتقدّم على «اللبنانية للإرسال» الباردة، وهذا ما يجعل «أو تي في»، وإن كانت أولوياته الإعلامية ما زالت جزئية قياساً إلى تلفزيون «الجديد»، يخرج من قميصه البرتقالي الضيق. والمعيار ذاته ينطبق على «السفير» الحيوية و«الأخبار» الجديدة من جهة، و«النهار» الباردة من جهة أخرى.
الجمهور بات يعرف هذا، وبات يختار، كما في الأيام العادية كذلك مع الأحداث، وسيلته الإعلامية. وقراءة محدودة في نتائج سوق وسائل الإعلام تفصح ذلك. ولا شيء ثابتاً.