إيلي شلهوبفي مثل هذه الأيام قبل 31 عاماً، كان الحدث المفصل. شيخ جليل يلقي خطبة من منفاه في ضواحي باريس، فينهار النظام الحاكم في إيران. وأيّ نظام؟ قلعة الإمبريالية في المنطقة (بعد إسرائيل طبعاً)، وأنموذج الاستبدادية الموغلة في التاريخ. هي صورة مبسطة لكيفية اندلاع الثورة الخمينية، لكنها تعبّر من دون شك عن حال الصدمة التي عصفت بالنخب العربية والغربية في ذلك الحين التي أدت بالكثير منهم للانتقال إلى طهران وحتى اعتناق الإسلام بنسخته الشيعية.
كان ذلك في أوج الحرب الباردة. بعد أشهر من انقلاب موال لموسكو (آب 1978) تسلّم مقاليد السلطة في كابول، وفي عزّ المفاوضات المصرية الإسرائيلية التي انتهت إلى توقيع اتفاقية كامب دايفيد، على وقع حمّام دم «أهلي» في لبنان مع ما يحمله من تلاوين فلسطينية. حقيقة اتساق هذه الثورة مع محاولة أميركية لإقامة «حزام إسلامي» في المنطقة على خاصرة الاتحاد السوفياتي على أمل أن يصبح محور جذب للجمهوريات الإسلامية يبعدها عن موسكو، لا تفقدها بريقها. واقع أنها حدثت في ظل قناعة أميركية باهتراء نظام الشاه، وبالتالي لا جدوى من دعمه، لا يقلل من شأنها. فكرة إقامة الخميني في منفاه الباريسي تحت رعاية الحكومة الفرنسية، والدور الذي أدته الـ«بي بي سي» الفارسية في نقل خطبه إلى الوطن الأم في بلاد فارس، يبدو جلياً أنها لم تؤثر على منظومته القيمية. تقدير تفضيل واشنطن قيام نظام إسلامي معادٍ للشيوعية عوضاً عن نظام يساري يحابي السوفيات، لا يحجب هويتها التي سرعان ما تكرّست مع حسم موازين القوى داخل صفوف الثوار (وقد انتهى بعضهم إلى السجن والقبر) بما أفقد الأميركيين أي أمل بعلاقة ودية مع الحكام الجدد. حسم بات معلوماً كم سعت القوى الغربية لأن يكون لمصلحتها. حملة التصفيات والاغتيالات التي استهدفت قادة الثورة (وقد نجا بعضهم بأعجوبة) خير شاهد. الحرب العراقية الإيرانية (8 سنوات من الاستنزاف) ما كانت إلا محاولة لإجهاض الثورة من الخارج، بعد فشل المحاولات الداخلية. سنتان لاستعادة الأنفاس، تلاها انهيار المنظومة الاشتراكية والانتشار العسكري الأميركي المباشر في الخليج ومؤتمر مدريد وما تبعه من مفاوضات إقليمية أظهرت طهران كمن يغرد خارج السرب. إلى أن جاء 11 أيلول والقصة من بعده معروفة.
بيت القصيد من هذا الاستعراض ليس سوى التذكير بأن طريق الثورة لم تكن معبدة، بل بالعكس، تملأها الأشواك والكمائن. نجاح حكام الجمهورية الإسلامية في تجاوز كل هذه المطبات (إضافة إلى الرعاية الإلهية!)، يعود بالأساس إلى أنهم يستندون إلى ثلاثة أنواع من الشرعية: الأولى إلهية ـــــ دينية (الوليّ الفقيه وكيل الإمام المهدي). والثانية ثورية (من الرعيل الأول للثورة). أما الثالثة، وهي على ما يبدو الأكثر أهمية قياساً بالتجارب التاريخية المماثلة، فهي الشرعية الشعبية التي أسقطت الشاه وأقامت الجمهورية الإسلامية (عبر استفتاء عام). خاصية تعود بالأصل إلى التيولوجيا الإسلامية وحركية اللاهوت الشيعي، التي أضيفت إليها ممارسة الخميني الذي كان مجبراً على إدارة الصراع والخلافات بين التيارات المتعددة للثورة ومواجهة حرب شعواء في الوقت نفسه. لكنها تكرّست مع وفاة الإمام المؤسس، الذي كان يتمتع بالشرعية التاريخية، وتولي خليفته المنصب في إطار تسوية داخلية جعلته الأول بين متساوين هم الأوليغارشية الحاكمة لإيران.
والحديث عن شرعية شعبية هنا لا يعني ديموقرطية وحريات وحقوقاً. نزلاء السجون وسكان المنافي خير شاهد ومعهم بعض زوار المشانق. أصلاً لا حرية لأعداء الثورة بنسختها الخمينية، التي طالما كان تفسيرها موضع خلاف، لكنه لم ينتقل إلى الشارع إلا أخيراً. بهذا المعنى يصبح لتظاهرات المعارضة، مهما صغر حجمها، دلالاتها، وأهمها أنها تجري في الداخل الإيراني رغم كل حملات التضييق (قادة المعارضة لا يزالون في طهران خلافاً لما كانت عليها الحال في عهد الشاه، وخلافاً لحال مؤيدي الملكية ومجاهدي خلق). دلالات لا تزال رمزية، في ظل معارضة هشة وغير متجانسة إلى حد التناقض، ونظام يزيد يوماً بعد يوم من التعبير عن جبروته.
هذا على مستوى التركيبة البنيوية للثورة التي نجحت في تحويل إيران إلى دولة إقليمية عظمى ورقم صعب على الساحة الدولية: بلد مترامي الأطراف وغنيّ بالثروات الطبيعية دخل عباب التكنولوجيا النووية والصناعات العسكرية والفضائية (وغيرها)، يتولى حمايته وحماية نظامه جيش جرار (درّته الحرس والباسيج)، لديه أذرع قتالية في لبنان وغزة والعراق (واليمن! وكله بفضل «التصدير»)، و«مونة» على سوريا، إلى حد بات يرعب إسرائيل ويقلق أميركا ويؤرق الغرب. بل بلغ مستوى الردع الذي يتمتع به حداً بات أوباما لا يفكر فيه إلا بالضغوط والعقوبات كأدوات للمواجهة معه (لم يذكر «الخيارات الأخرى» في رده على بدء التخصيب إلى نسبة 20%).
نظام (ومنظومة) تحركه الغيبيات والماورائيات، لكن ممارسته تحكمها المنهجية العلمية. مبدئي في أهدافه، براغماتي في تكتيكاته. هو آخر المنظومات التي لا تزال تعلنها «حرباً» مفتوحة مع إسرائيل. حربٌ، الهزيمة فيها تعني النصر النهائي للكيان العبري. والانتصار يعني تحوّل هذا النظام ـــــ المنظومة إلى أنموذج لدول المنطقة.