قصّة الرجل الخطير لم تنته، ولن تنتهي. هي في صلب قصّة تاريخ لبنان والشرق العربي. تلك القصّة قد تكون من وحي الخيال، لكن الخيال يتطابق مع الواقع في أكثر من محطّة. ثم، ماذا إذا كانت الأحداث والأشخاص من نسج المخيّلة؟ هل ينقص ذلك من حقيقتها؟ ومن يدري قد تكون شخصيّات الرواية من لحم ودم
أسعد أبو خليل*
ماذا أقول لكم عن رجل خرج من رحم أمه حاملاً جريدة، ماذا أقول؟ ماذا أقول لكم عن رجل رمى حجراً على دوريّة إسرائيلية وهو يدبّ على أربع؟ رجل نطق بالهتاف الثوري قبل أن يتعلّم الأبجديّة وقبل أن ينطق أمام والديْه؟ ماذا أقول لكم عن رجل رسم خريطة لفلسطين بالطبشور في سنّ الرابعة؟ ماذا أقول لكم عن رجل لم يلتق بعلم لبناني إلا اقتلع منه الأرزة؟ ماذا أقول لكم عن رجل نام والناي يئنّ من حوله كلّما قتلت إسرائيل عربيّاً؟ ماذا أقول لكم عن رجل قُتل ثلاث مرّات ولم يمت؟ ثلاث مرّات، صدّقوني. ماذا أقول لكم عن رجل اقتفى آثار «أيمن» في أرض الجنوب بعدما قرأ قصيدة شوقي بزيع عنه؟ عن رجل ترك وراءه وأمامه شهباً من ثورة ومن رفض؟ عن رجل طوّع التاريخ بساعديه. ماذا أقول؟
أحدّثكم عن رجل لم يتوقّف عن المشي وعن العَدْو منذ حبا. عن رجل تفجّرت قرحته لحظة وطئ السادات أرض فلسطين المحتلّة. أحدّثكم عن سنوات الحرب كيف مرّت عليه. كيف طلّق الطموحات البورجوازيّة والأكاديميّة، ليطعم أطفال الحيّ، وليكسوهم في الشتاء. أأحدّثكم عنه وهو يصدّ بيد واحدة عدوان ميليشيات النازيّة اللبنانيّة ـــــ الإسرائيليّة؟ أأحدّثكم عنه وهو يستهين بتهديدات أدوات أرييل شارون في لبنان؟ أاحدّثكم كيف هوى وهو يتسلّق نحو الأعلى من دون أن يصاب بخدش؟ أأحدّثكم عنه عندما كان ينوجد في أكثر من مكان في وقت واحد؟ كيف كان يعبر خفيّاً إلى «المنطقة الشرقيّة» من دون أن يمرّ على حواجز؟ أأحدّثكم عنه وهو يحزم أمره ليباشر مسيرة القضاء على المشروع الصهيوني في لبنان؟ هذا الذي كان ينهر مريديه عندما يقولون عنه إنه خالق «الخالق».

هذا هو الرجل الخطير مرتكب الخوارق والمعجزات... والنضال العادي
أأصفه لكم؟ كيف أصف من يشعّ وجهه في الظلمة؟ كيف أصفُ من تشعّ بلورتان مكان عينيه؟ كيف أصف من لا وقع لخطواته في يوم، ومن تحدث خطواته زلازل وارتجاجات في أيام أخرى؟ مَن لو سمعت فيروز صوته لأنصتت مُطرِقة. كيف أصف من تخرج شهبٌ من ظلاله؟ كيف أصف من يتجلّى قوس قزح في تقاسيمه؟ كيف أصفُ مَن ينعكس على وجهه نور الشمس والقمر في وقت واحد؟ كيف أصف من لا آثار تعذيب عليه رغم ما مرّ به؟ كانت السياط والقيود تذوب عندما تلمس جسده. أأصف من تكاد صوره تفرّ من ملصقاتها؟ أأصفُ من يخفي وراء ملامح وجهه جيشاً من المقاومين؟
لا، لم يغب الرجل الخطير. خلافاً لآمالهم وتوقّعاتهم، بقي على السمع. الرجل الخطير قريب وبعيد: جاثم ومتحرّك، طائر وثابت. قد لا يكون على أرض مسخ الوطن، لكنه يتابع بقلق واهتمام. هو يقطن في وطنه الأكبر (أو دولته «الكبرى»). الرجل الخطير، هذا اللالبناني الذي ولد في لبنان، يفرّ من الأسر بقراره هو. يرتبط ولا يرتبط بكيان. يتحرّر رغم أنف أعدائه. يمسك بالأزهار ويمنعها من الذبول، يحتضن الجائعين فيصيبهم الشبع. كان عندما يمشي في القرية التي نزح إليها للراحة، تتابعه النسوة بأنظارهنّ، ويلحقه طلبة المدارس دون أن يلاحظ. حتى العصافير والنسور والفراشات، كانت ترافقه في جولاته المسائيّة. الرجل الخطير ليس عاديّاً، وإن ظن أعداؤه أنه عادي. عادي، هذا الذي شاهده البعض والنار تتدفّق مِن فيه مثل التنّين عندما كان يردّ على خطب النازي اللبناني الصغير أمام أصدقائه؟ عادي؟ هذا الذي كان ترداد صوته يتكرّر ثلاث مرّات على الأقل، حتى في الشوارع المُكتظّة. عادي؟ هذا الذي غلب إسرائيل بساعديه الاثنيْن؟ عادي؟ هذا الذي أسهم في تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي دون إعلان؟ عادي؟ هذا الذي شكّل ضربة قاضية لمشروع النازيّة اللبنانيّة؟
يطلق من أصابعه الرصاص على العدو الإسرائيلي وعلى عملائه، يحوّل الثمار إلى قنابل يدويّة متى شاء، ويقطع المسافات دون الاستعانة بمراكب من أي نوع. هو الذي ظنّ أن دبابات إسرائيل تُطحن تحت نعله، والذي قهقه عندما سمع أحدهم من رفاقه يتحدّث ذات يوم في أوائل الثمانينيات عن «عصر إسرائيلي». «عصر إسرائيلي» وأنا حيّ؟ كان يقول في سرّه. عندها أعلن رسميّاً موت «العصر الإسرائيلي»، من دون أن ينتبه مَن حوله لأهميّة ما يقول. وعندما اجتاحت إسرائيل لبنان، قرّر الرجل الخطير أن يجتاح إسرائيل، وحسناً فعل. رجل يجتاح: هذا هو الرجل الخطير، مرتكب الخوارق والمعجزات و... النضال العادي.
الرجل الخطير، الرجل الخطير. لا يدَعونه يرتاح. أرادوا منه أن يعتزل ليزيدوا من معاناته فرفض. من قال إن الرجل الخطير قد غاب؟ الذي قال ذلك لم يرَ خريطة فلسطين محفورة على جبهته بالأسود الفاحم. تقاعد الرجل الخطير، فتململ. شُبِّه لهم أنه تقاعد. ابتعد الرجل الخطير، فاقترب أكثر فأكثر. يهمسون باسمه همساً، والهمس يدوّي. يتناقلون اسمه ورسمه على شبكة الإنترنت، ويسألون: هو ذا؟ هل هو هذا؟ وهناك من كرّس مواقع على الإنترنت لتكريمه. وعندما فاتحته بخفر في أمر إنشاء تمثال مرمريّ له لتكريمه، نظر إليّ باستنكار شديد. «تمثال مرمري لي أنا؟»، سألني، ولم أجبه. لم يستسغ سياق الحديث. عندما يتبرّم الرجل الخطير، أسارع إلى سؤاله عن القرى الفلسطينيّة التي هدّمتها إسرائيل بعد إنشاء الكيان الغاصب. عندها، يُسهب الرجل الخطير في الحديث. يصف القرى ـــــ قرية قرية ـــــ كيف كانت قبل عدوان 1948، ثم يصفها اليوم، من دون أن يكتفي. إذ إنه يضيف وصفاً للقرية نفسها بعد التحرير. يصف لك أسماء الشوارع وألوان البيوت بعد التحرير. ثم يسأل: ألا تراها أنت؟ يعِدُني هو باصطحابي إلى هضبات الجليل، بعد تحرير كل فلسطين. يعدُني بأيّام من الأخضر والأحمر والزعتر. ويعدني بأن «شادي» سيعود، حتماً. ويعدني بأن نحمل معاً (أنا وهو والأحمر) رفات جورج حبش وغسان كنفاني وكمال عدوان وأبو يوسف النجّار وطلعت يعقوب ودلال مغربي ووديع حدّاد وباسل كبيسي وأنيس صايغ وآخرين كثر لندفنهم في أرض فلسطين.
الرجل الخطير لا يرتاح. عندما تغيب الشمس، يفيق وعندما تشرق الشمس يستيقظ. هناك من يزعم أن الرجل الخطير يركض في الظلمة ويميّز الألوان. هناك من يزيد أن الرجل الخطير يستطيع أن يزور فلسطين المحتلّة متى يشاء، وأنه يستطيع أن يرسم خريطة لحيفا ويافا من ذاكرته الحيّة. يبدو الرجل الخطير لمن لا يعرفه كأنه يرصد حركة الشمس والقمر والكواكب. لا يلتفت للأرض، أو هكذا يظنّ من يراه. عندما ينظر نحو السماء، يكون متسمّراً بالأرض. وعندما تهبط النسور، يطير هو في خط ثابت. لا يسكن ولا يسهد ولا يرقد ولا ينسى. تمرّ الغزلان من حوله وهو يحيّي الذين واللواتي تربّصوا لمقاومة إسرائيل إبّان العدوان. ظنّ أنه أنهى بساعديه المشروع الإسرائيلي في لبنان. لم يكن يعلم أن عائلة أخرى سترث المهمة الخبيثة.
الرجل الخطير عانى ما لم يعانه لبناني أو لبنانيّة. أعظم لبناني يبقى مجهولاً ويعاقب القانون في لبنان تعظيمه. أسماء الجادّات والشوارع تطلق يمنة ويسرة على أسماء أعوان عدوان إسرائيل ومنفّذ مجزرة صبرا وشاتيلا، والرجل الخطير لم يُكرّم بتمثال ـــــ ليس بعد، ليس بعد. سيأتي يومك، أيّها الرجل الخطير، سيأتي. سيأتي زمانك، أيّها الرجل الخطير. عندها فقط، سيستحقّ الوطن أن تقطن فيه. عندما سنغيّر في أسماء كل المرافق العامّة والجادات والشوارع لتكريمه هو. فليكن له ذلك على أقل تقدير: مطار الرجل الخطير الدولي، مدينة الرجل الخطير الرياضيّة، مستشفى الرجل الخطير الحكومي، مرفأ الرجل الخطير البيروتي، تعاونيّة الرجل الخطير، أوتوستراد الرجل الخطير الدولي، الخ. رسمُ الرجل الخطير يجب أن يحتلّ موقعه مكان الأرزة على العلم، فيما لو أصبح لبنان بلداً مستقلاًّ يوماً ما. أما الطوابع البريديّة، فستزدان كلّها برسوم الرجل الخطير، وسنكرّم في بعضها رسم أياد نور الدين المدوّر: أول شهيد لجبهة المقاومة الوطنيّة ضد الاحتلال والفاشية، والذي سقط في أيار 1978.
لم يصدّق الرجل الخطير ما رأى إبّان عدوان تمّوز. أعوان لإسرائيل وأصدقاؤها يطالبون بصفاقة في جلسة مجلس الوزراء بنزع السلاح من مقاومة إسرائيل في لبنان. لماذا لم يُلقَ القبض على هؤلاء، ظلّ يسأل. في أثناء حرب تمّوز، لم تطأ قدماه الأرض. كان يبحر في الهواء نحو فلسطين ساعة، ونحو الجنوب ساعة أخرى، وكان أحياناً يمسح الزرقة عن السماء. يتسقّط الأخبار من الجو: هنا حيفا وهنا يافا وهنا عكّا وكلها ستعود، كان يردّد في قرارة نفسه. كان في أثناء العدوان، يحصي عدد الصواريخ المنهمرة على قوّات العدو كمن يحصي أنفاسه. كان يحصي عدد مضمّدي الجروح، ولم ينس لساعة أن يحصي عدد أعوان العدوان المتدثّرين بشعارات النفاق. قرأ الرجل الخطير كتاب علي الموسوي عن تاريخ عملاء إسرائيل في لبنان أكثر من مرّة، لا بل حفظه عن ظهر قلب.
في حرب تمّوز زار الرجل الخطير كل مواقع القصف الإسرائيليّة، وساهم في إسعاف الثكالى والجرحى والمعوزين. فعل الرجل الخطير كل ذلك دون أن يدخل الأراضي اللبنانيّة. الرجل الخطير يطير، كما بات معروفاً اليوم. هو يطير من دون أن ترتفع قدماه عن الأرض. توقّف الرجل الخطير عن التنفّس ذلك الشهر. أعجب بقدرات المقاومة، وتبرّم من أدائها السياسي. كان يشاهد أعوان إسرائيل يظهرون على الشاشات ويحاولون أن يحشروا المقاومة، فيما كانت تتلقّى مع كلّ لبنان الضربات الجويّة والبحريّة والأرضيّة. شاهد أعوان العدوان يدلون بردود تفصيليّة على كل خطب حسن نصر الله. كانوا يقرأون ملاحظاتهم على خطب نصر الله من أوراق مدوّنة، وكان بعضهم يتلعثم في القراءة. كان يقول لمن حوله: هؤلاء يؤدّون دوراً مرسوماً، إنها وظيفة. لا ديموقراطيّة في مقاومة العدوان ـــــ كان يقول ـــــ وخصوصاً أن الديموقراطيّة الزائفة كانت تعني أن تنشر صحيفة «المستقبل» و«محطة إل بي سي» أخباراً كاذبة عن تقدّم قوات العدو نحو نهر الليطاني، فيما كانت مارون الراس عصيّة عليه. اقبضوا على أعوان إسرائيل، كان يصرّ. أمسكوا بتلابيب حلفاء بوش، كان يردّد. حاصروا مربّعات أعوان العدوّ، كان يصيح. أغلقوا السفارات الإسرائيليّة المُتعدّدة في بيروت، كان يُكرّر. لم يحدث أي من ذلك. على العكس، أراد حزب الله أن يقنع جمهوره بأن الكلّ في لبنان إخوة، شركاء في التقوى، وفي الانتصار، فيما كان قسم من اللبنانيّين يبتهل طلباً لانهزام مقاومة إسرائيل.
رآهم الرجل الخطير، وهزّ برأسه. وعندما حلّ 7 أيّار، ظن رفاقه أنه سيكون سعيداً جداً. لم يكن سعيداً. تأخرت 7 أيار سنتين، كان يقول. كان يجب أن تستمرّ شهراً على أقلّ تقدير من قبل جبهة مقاومة عريضة. وعدوان تمّوز ـــــ كان يقول ـــــ ذو بعديْن. واحد داخلي وآخر خارجي. كان يريد للمقاومة أن تتصدّى للبعد الداخلي بعد توقّف الحرب. أتريدون ساعديّ مرّة أخرى؟ يعدّد الرجل الخطير مهمات مقاومة إسرائيل: ضرورة أن يخرق لبنان القرارات الدوليّة المُعدّة لحماية إسرائيل. ضرورة فتح محاكمات علنيّة لعملاء إسرائيل في لبنان، وسوقهم للمشنقة. إعادة كتابة الدستور اللبناني لإزالة كل إشارة إلى الطوائف لأن الطوائف حمت أعوان إسرائيل في لبنان ومنعت محاكماتهم. جرّ تلك السيدة التي أعدّت أطباقاً لأرييل شارون (والتي وعدته بأن يكون مع زوجته أول زوّار رسميّين للقصر الجمهوري، ولكن لم يكن لها، ولأسوأ لبناني على الإطلاق، ما أرادا) حليقة الرأس وجلبها للمثول أمام محكمة ميدانيّة بعد أن تُجبر على إعداد أطباق لأطفال مخيّمات ساهم زوجها في تدميرها. والرجل الخطير يدعو إلى تقويض الدولة من أساسها ورفع شعار الكفاح المسلّح من جديد لأجل لبنان وفلسطين معاً.
يسألون الرجل الخطير إذا كان ينتمي لـ8 آذار أو 14 آذار، فيسخر من الاثنيْن معاً. هذه تجمّعات طوائف، يقول، وإن كان عداؤه لفريق 14 آذار هو البوصلة بسبب الوجهة الإسرائيليّة ـــــ السعوديّة. وهو لا ينتمي لطائفة. لا يعترف الرجل الخطير بالثماني عشرة طائفة. هو يعترف فقط بطائفتيْن: أعوان إسرائيل وأعداء إسرائيل. أعوان إسرائيل لا يستحقّون الوطن ولا الفيء. الرجل مثلي ليس ديموقراطيّاً، ويخشى أن تتحوّل شعارات الديموقراطيّة إلى خطة خبيثة لتسرّب إسرائيل إلى لبنان، ولنشر سيطرة رأس المال الخليجي. نفكر بالديموقراطيّة بعد تحرير الوطن وإزالة إسرائيل، وستكون ديموقراطيّة مختلفة لا يستطيع الأمير مقرن (هل من لم يولم من الرؤساء الثلاثة له هذا الأسبوع؟) شراءها.
الرجل الخطير يتحفّز. هو يطلّ عندما يريد برأسه وقدميه وساعديه. الرجل الخطير يخطّط للعودة. عدوان تمّوز أقلق راحته وأخرجه من شبه التقاعد. تابع عدوان تمّوز وإن لم يُسمح له بالتدخّل. المقاومة كانت مكتفية بما لديها. ثم متى تدخّل الرجل الخطير، تتحوّل أي حرب إلى حرب إقليميّة أو عالميّة. هذا هو ديدنه. لا قدرة له على السيطرة على ساعديه الجبّاريْن. لكن الرجل الخطير تألّم. أمضى يوماً كاملاً يكتب مئة مرّة أسماء كل من اجتمع مع كوندوليزا رايس عندما كانت الأخيرة تدافع عن حق إسرائيل في الاعتداء على لبنان. يستطيع الرجل الخطير أن يستظهر أسماء كل من اجتمع في ذلك اليوم المشؤوم، وهو يرسم ترتيب الجالسين والجالسات. يستطيع أن يذكر أنواع لفائف الطعام التي قُدمت في ذلك اليوم.
الرجل الخطير. الرجل الخطير. لا يمكنه أن يغيب. وكيف يغيب؟ شاهد مجزرة قانا (الثانية) مرتيْن: شاهدها للمرّة الأولى على شاشة التلفاز، ثم شاهدها بأم العين عندما طار ممتطياً صاروخاً نحو قانا. ساعد في رفع الأنقاض ونقل الضحايا. وعندما صرخ طفل صغير: أماه! هذا هو الرجل الخطير، نهرته أمه، فصمت الطفل وراقب بهدوء الرجل الخطير وهو يعمل ـــــ يعمل من أجلكم، هو. هناك من روى أنه كان يغيب في قعر الأرض، ليظهر مُمسكاً بضحيّة أنقذها. هناك من روى أنه ساهم في نقل الضحايا بقانا ومروحين في وقت واحد. ولكن ليست تلك المرّة الأولى التي يُشاهد فيها الرجل الخطير في مكانيْن.
لا تخافوا. عندما تزلزل الأرض، وعندما تكفهرّ السماء، وعندما تئنّ حيوانات الأحياء المكتظّة، وعندما تختفي الشمس ليوميْن متتالييْن، تعلمون أنه ترجّل. تعلمون ساعتئذ أن قدميه وطئتا أرض العاصمة. سيغيّر معالمها. سيكسر ما لا يعجبه من التماثيل، وسيغيّر في أسماء الشوراع والجادات. وعندما يترجّل، سيهرب أعوان العدوان في زوارق حربيّة أعدّها لهم العدوّ. عندما يأتي الرجل الخطير، سيهرع أعوان إسرائيل نحو الحدود مع فلسطين المحتلّة. سيرحلون زرافات زرافات. لا تنفع تدخّلات البطريرك ولا وثيقة التفاهم بين حزب الله والتيّار الوطني الحرّ مع الرجل الخطير. لا وساطة في أمر التعامل مع العدوّ. أما حليقة الرأس التي أعدّت مأكولات لشارون، فسيشرف الرجل الخطير على محاكمتها، مستعيناً بسابقة سرعة محاكمات المهداوي.
الرجل الخطير يعرف ماذا يريد. يريد محاسبة أعوان إسرائيل في لبنان. الرجل الخطير يسجّل في دفتر أسماء كل من التقى إسرائيل وتحالف معها. من غيره يذكر أن وفداً من إدارة جامعة الروح القدس ـــــ الكسليك برئاسة العميد مهنّا زار إسحق شامير صيف 1982 ليشكره على اجتياح لبنان وليطالب بمعاهدة سلام بين لبنان وإسرائيل؟ من غيره يذكر أن مي المرّ ناصرت أرييل شارون في زيارة خاصّة بعدما فُضح دوره في مجزرة صبرا وشاتيلا؟ لا ينسى الرجل الخطير دور مي المرّ وسعيد عقل وجورج عدوان والياس حبيقة (حليف سوريا ورفيق الحريري في مرحلة لاحقة) وسمير جعجع والفارّ أبو أرز والباقين والباقيات؟ لقد كان من أدعياء التوقيف الاحترازي لأعوان إسرائيل أثناء عدوان 2006. إنه يؤمن بالتوقيف الاحترازي في مواجهة إسرائيل. يريد إنهاء اللغو عن الديموقراطيّة. لا ديموقراطيّة بوجود إسرائيل وسريّة المصارف، يقول. يريد أن يطرد القبعات الزرق من لبنان، ونهائيّاً، وأن

يسألونه إذا كان ينتمي لـ8 أو 14 آذار فيسخر من الاثنين: هذه تجمّعات طوائف

يذكر المنهج الرسمي أنهم أتوا ـــــ فقط ـــــ لخدمة إسرائيل وحمايتها من مقاومة إسرائيل. يريد من مقاومة إسرائيل أن تعلم من دون مداورة ولا وجل ولا مداراة أن هدف المقاومة هو: إزالة احتلال إسرائيل عن كل أرض فلسطين. بلا استراتيجيا دفاعيّة بلا بطّيخ. الرجل الخطير لم يسمع بإلياس المرّ في حياته، ولا يريد أن يسمع. يقول الرجل الخطير إنه سيعيد النظر في تقييمه للجيش اللبناني عندما يواجه إسرائيل مرّة جهاراً، وعندما يتوقّف عن اعتبار تهديم مخيّم نهر البارد مصدر اعتزاز له.
الرجل الخطير لا ينتمي إلى معسكرات ولا إلى أحلاف. يريد تقويض الأنظمة من أجل تسهيل مقاومة إسرائيل: يريد تنفيذ وصيّة جورج حبش بإقامة «هانويات» عربيّة في كل العواصم. يؤمن بسياسة التوريط (الفتحاويّة، قديماً). أي إنه لا يمانع أبداً في «إعطاء الذرائع» لإسرائيل، كما يسميها صهاينة إسرائيل وصهاينة العرب. الرجل الخطير يستظهر ذلك الخطاب لأبو إياد عن طريق فلسطين (رغم أنه يشتم جريدة «النهار» لأنها حوّلت كلامه السياسي إلى كلام طائفي ـــــ وأبو أياد لم يكن طائفيّاً كما أن خطابه في 30 آب 1982 لم يكن طائفيّاً البتّة). الرجل الخطير، مثله مثل «طائر الرعد» (الذي تحدّث عنه سميح القاسم)، لا بدّ أن يأتي. لا بدّ.
* أستاذ العلوم السياسيّة
في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)