محمد بنعزيز*دار جدل على الصفحات الأولى للجرائد والإذاعات الخصوصية طيلة كانون الثاني/ يناير 2010، وقد تدخل فقيه برلماني بربطة عنق وقال إن الدولة تريد جعل الخمر وكراً للمقدسات يجب عدم الاقتراب منه. ويجري الحديث عن تحركات شعبية ضد ترويج الخمور... في السوبر ماركت الذي أتسوق منه، لا زحام طيلة النهار إلا في جناح بيع الخمور. لكن حين استفتيتُ سكّيراً يتسوّل أمام باب السوبر ماركت، قال إنه ضد ترويج الخمور. من باب المكافأة ساعدته على شراء قارورة فشكرني بمشاعر جياشة، أصر على تقبيلي.
عندما ستبرد هذه السجالات، سنقوم بحسبة أن للشيخ المفتي المصيب أجريْن، وللمفتي المخطئ أجراً واحداً.
2ــــ ما حكم التهريب في القانون الدولي؟ هذا سؤال معقد. السؤال المريح هو هل بناء الجدار الفولاذي بين مصر وغزة حلال أم حرام؟
الجواب حرام. لماذا؟ لأن في غزة إخوة لنا في الدين، وسقف الدين أعلى من سقف الشعب والدولة، لذا يعتبر بناء كنيسة في تايلاند أخطر من ترويج المخدرات قرب ثانوية الحي.
الجواب الثاني: الجدار حلال. النتيجة وقف الصلاة في عدة مساجد بمصر لأن خطيب الجمعة لم يفتِ بما يرضي المصلين. طيب، وسور الصين حلال أم حرام؟
3ــــ لمن الصولجان؟ للفقيه الوالي في غياب الإمام الحجة... صح أم خطأ؟ مزيد من السجال الشيعي والسني... وهكذا يصبح «الثيو» موضوعاً للجدل، ولا أحد يذكر «الديمو» لأنه يستدعي قواعد أخرى للنقاش، لذا تتراجع مطالب «الديمو» «قراطية» لأن الثيوقراطية أشرس.
4ــــ أيهما أهم ما في الرأس أم غطاء الرأس؟ الجواب: الحجاب. وهذا الغطاء لا مثيل لأهميته في الجدل. حتى في السعودية اكتشف فقيه أن الحجاب مقصور على أمهات المؤمنين، وهذا تطور مذهل حين سيعمَّم على أحكام أخرى، سيولد زلزالاً تترتب عنه هزات ارتدادية إعلامية أشد مما حصل في هايتي. للإشارة، الحجاب الذي هو وسيلة من قماش صار غاية في حد ذاته، صار رمزاً تمركز حوله الصراع فتجاوز مساحته.
5ــــ انتقل جدل الحجاب إلى لندن وباريس وبرلين. وقد نظمت صحيفة لندنية استطلاعاً إلكترونياً حول السماح بالحجاب في إنكلترا، وتلقيت دعوة إلكترونية للمساهمة في الجهاد الإلكتروني عبر نصرة الأخوات في إنكلترا. ومن باب رشوة المصوتين، يعد منظمو الإنزال الإلكتروني بأنّ من صوّت له سبعون حسنة، ومن أرسل الدعوة إلى معارفه له عن كل «إيمايل» حسنات مضاعفة... حالياً، يجري إنزال إلكتروني لدعم لاعب متديّن يريد الالتحاق بنادٍ ألماني لكرة القدم... وهذا موضوع سيكون له صدى ضخم، وهذا يفيد الجدل الديني الذي لا يرتهن بصدقية القضية على الأرض، بل يحتفل بصداها الإعلامي. صار الصراع معلقاً بين الفتاوى مهما كان الثمن. إنها معارك مستعارة تبدد الجهد.
6ــــ أفتى فقيه تونسي موظف عند الرئيس زين العابدين بن علي بتحريم تفتيش المسافرين بالسكانير (الكشف الضوئي) لأن في ذلك مسّاً بإنسانية المسافر وعورته. طبعاً الفقيه لا يفتي في التعذيب في سجون فخامة الرئيس. المهم أن للمفتي أجراً.
7ــــ حتى الإبداع يتأثر بهذه الثنائية المهيمنة. في فيلم مغربي، عاد المهاجر بثروة لبناء طريق تربط قريته المعزولة بالعالم الخارجي. شكك الفقيه في ثروته الضخمة لأنها حرام، فقرر القرويون البؤساء أنهم لن يمشوا على طريق ستبنى بأموال حرام. والنتيجة أن القرية بقيت معزولة. ولا ننسى تتويب الفنانات على أساس أن الفن فجور، وقد فقدت السينما المصرية مواهب كثيرة هداها الله. كيف ستتطور السينما في العالم العربي؟
8ــــ ما هو نمط الحكم الرشيد الذي يخلق الثروة والسعادة للناس على الأرض؟ قليلون سيشاركون في هذا الموضوع الذي يسبب الصداع. لا داعي لمثل هذه الأسئلة، السؤال السهل: هل يجوز أن يتولى جمال مبارك منصب أبيه في مصر؟ الجواب: لا يجوز أن ينكح المرء ما نكح أبوه.
هكذا أصبحت السلطة أنثى لا تليق إلا لشيء واحد. وهذه الأنثى رمز لبلد سيمرَّر من ذكر إلى آخر. للإشارة، في ثلاثية نجيب محفوظ انتقلت زنوبة العشيقة من «سي سيد» إلى ابنه دون علم الأب. في حالة مصر، يبدو أن الأب يعدّ السرير لابنه. بهذا التأنيث للسلطة، يفقد التوريث بشاعته السياسية والحقوقية ويصير سلوكاً يومياً. ويدعم هذا الوضع توسع العداء الشعبي للغرب ليشمل الديموقراطية أيضاً، وكأنها نشأت في واشنطن لا في أثينا.
في كل هذه القضايا الحارقة، يتضح أن الإسلاميين قد استولوا على النقاش العمومي وأفقروه. إنهم يضعون حدوده، يقررون في علو سقفه، يؤنّثونه بمصطلحاتهم الدينية لا الفكرية والفلسفية، يعرفون القضايا، يطرحون الأسئلة التي تناسب مرجعيتهم ويقررون زوايا النظر وموقع الرؤية... ولذلك، هم يفوزون في كل محطة سجال لأنهم فرضوا على خصومهم ساحة المعركة وطريقة إدارتها، حتى أن كتّاب التيار القومي يؤسلمون لغتهم ليحظوا بشبر في الفضاء العمومي، لأنه لو استخدموا مفاهيمهم الحقيقية عن الوحدة العربية والدفاع المشترك والحق في الحياة، لما سمعهم أحد. صاروا يؤيدون فتوى تحريم الجدار، وهكذا انزلقوا في بيئة معجمية غريبة عنهم تأسرهم وتمحقهم.
نتيجة لذلك تنتصب ثنائية مانوية في حقل الثقافة والإعلام، وتعرقل أي نقاش حقيقي يسمح بابتكار أفكار جديدة وتنميتها، لأن كل موضوع أو حدث يقرر في مصيره: حلال أم حرام؟
مع سؤال كهذا، صار بإمكان أي كان أن يختار بين ألف وباء، لذا لم تعد الفتوى حكراً على شيخ معترف بأهليته، شيخ حجة وثقة. صارت الفتوى رأياً فردياً يسهل التنازع حوله. تنازع سجالي، وهذا نقيض النقاش الحقيقي الذي يعتمد البرهنة سبيلاً، برهنة واقعية لا نصية، والبرهنة أساسية في كل تفكير يريد لنفسه أن يكون صادقاً ومقنعاً وهادفاً لبناء عقل علمي.

توسع العداء الشعبي للغرب ليشمل الديموقراطية أيضاً، وكأنها نشأت في واشنطن لا في أثينا
سجال الفتاوى البائسة الحالي، والذي يستخدم الوصف بدل المفاهيم، ليس كشفاً بل تكرار. حتى أن المشاهد يعرف ما سيقوله الفقيه قبل أن يبدأ، لأن كتب الفقه قد جمعت الأسئلة القديمة وردّت عليها بلعبة: فإن قال قلنا له.
الفرق ليس في المضمون، بل في طريقة قوله، في الأسلوب. لذا يشتهر المفتي الذي يمسرح فتاواه ليكسب ملايين الدولارات... ويكرر ما هو معروف. فيكثر الكلام دون حصيلة. ذلك أنّ الحلال ليس أطروحة، والحرام ليس نقيض أطروحة، وبالتالي لن يخرج منهما أي تركيب، بل يستمر الدوران في حلقة مفرغة. حلقة تظهر التيارات الإسلامية قوية كاسحة خطابياً، فيما هي غير قادرة على إنجاز أي تغيير في أي بلد. الوقائع مخجلة، ولكن العناد يُعمي.
بدأت هذه الحلقة بتكييف مسألة التخلف دينياً: لماذا تخلّف المسلمون وتقدّم الكفار؟ وحسب عبد الله العروي في كتاب «الأيديولوجية العربية المعاصرة»، فقد صاغ الشيخ المفتي السؤال: «ما هو سبب ضعفنا؟ إنه عدم إخلاصنا لرسالة الله».
لقد وجد الشيخ المسألة وعالجها دفعة واحدة. وقد فاز في صراعه مع المحامي والمهندس. وإنه لمن سخرية التاريخ أن يبدأ جمال الدين الأفغاني مقاربة التخلف دينياً، وهو الهارب من حرب أهلية في أفغانستان والمطرود من مصر، والذي لم يجد حرية تنشيط العروة الوثقى إلا في باريس... وبعد 212 سنة على حملة نابليون على مصر، وتكييف مشكلة التخلف بأنها خروج عن الدين، وأن الحل هو العودة إلى السلف الصالح، تتسلم طالبان أفغانستان المشعل لتلوّح بالحل المثالي للشبيبة الإسلامية، فتهبّ الشبيبة الإسلامية في باريس ولندن وبرلين،
لتتقدّم القافلة!
* صحافي مغربي