وائل عبد الفتاحآلة حفر عملاقة تقتحم المدرسة الثانوية الصناعية للبنات. أصيب أهالي قرية أبو عطوة بالدهشة لأن ذلك يجري تحت ستار السرية والتكتم، وبرعاية أجهزة أمنية فرضت الطوق الأمني، بعدما أيقظت مدير المدرسة من النوم في الساعات الأولى من الفجر.
الدهشة تحولت إلى غضب مكتوم عندما انكشف سرّ التنقيب في ساحة المدرسة، التي تبعد ٣ كيلومترات عن مدينة الإسماعيلية، إحدى مدن قناة السويس. إنهم إسرائيليون يفتشون عن رفات جنودهم في واحدة من معارك الدبابات في حرب تشرين الأول ١٩٧٣.
نواب البرلمان من الحزب الوطني، إلى الإخوان المسلمين عبّروا عن الغضب ببيان عاجل يطالبون فيه بوقف الحفر، وتدخل الرئيس مبارك لوقف التنقيب حتى تتم المعاملة بالمثل.
حملة التفتيش عن الرفات أيقظت شعوراً مفرطاً بالإهانة. وعُدّت اعتداءً على السيادة الوطنية ما دامت إسرائيل لا تسمح بالبحث عن رفات الأسرى المصريين في ١٩٦٧؟
الأسرى جرح مصري مسكوت عنه، وخصوصاً بعدما كشف فيلم وثائقي تفاصيل عمليات قتل الأسرى المصريين ودفنهم أحياء، ثم تحويلهم إلى قطع غيار بشرية. وحدة «شاكيد» التي نفذت العملية طهرت روحها بالاعتراف الكامل عن جريمة حرب لم يتحرك المسؤولون في النظام لإجراء محاكمة لمرتكبيها، وفي مقدمهم بنيامين بن أليعزر وزير الصناعة والتجارة الإسرائيلي الحالي.
النظام لا يريد ترميم ذاكرة مجروحة (يقال إن هذا تنفيذ لاتفاقيات سرية بعدم تبادل القضايا على المستوى الدولي). وفي الوقت نفسه لا يترك المجتمع المدني في مصر حرية الحركة لاستعادة الحق ومحاكمة المجرمين.
الجرح مفتوح، لكنه مغطى بطبقات من خنوع ولامبالاة تليق بعقلية الموظفين الذين تضيق مساحات حركتهم بشكل خرافي يضيع معه الحق حفاظاً على نص المعاهدات. وتبدو فيه كل الموضوعات المتعلقة بالكرامة والروح والحقوق خطابات مجنونة تتساوى عندها صرخات الحناجر بالقواعد والقيم السياسية والأخلاقية.
لماذا يضطر مثلاً الرئيس مبارك إلى الاتصال الهاتفي بقائد مذبحة الأسرى نفسه «بن أليعزر» للتهنئة بعيد ميلاده؟ هل يرد على تهنئة اليعزر له بفوز المنتخب المصري بأمم أفريقيا لكرة القدم؟ هل هناك تفسير للتهنئة قبل أيام فقط من حملة التنقيب عن رفاتٍ لإسرائيليين؟
من الممكن أن يكون مبارك قد نجح في نسيان الجرح أو تجاوزه، لكنه لم يخبر المصريين كيف استطاع أن يفعل، وهو عسكري يعرف أن النسيان له قواعد، والذاكرة لا يمكن أن تداوي المسكّنات أو التناسي.
البحث عن الرفات جزء من العقيدة الإسرائيلية السياسية والدينية. يبحث اليهود عن اليد والفم في رفات الميت استعداداً للبعث والقيامة. وسياسياً لا تترك الدولة والمجتمع قتلاها من أجل الدولة بعيداً عن أرض الميعاد، ويمكنها أن تستبدل برفات قتيل واحد مئات الأسرى. يشترون ذاكرتهم بحياة الأعداء.
أين هي العقيدة أو الثقافة التي جعلت الرئيس مبارك ينسى جريمة حرب ضد جنود مصريين؟ درس حملة التنقيب الإسرائيلية أن التحول إلى السلم لا يعني النسيان، بل الذاكرة، وأنه لا سلام من دون إيمان بالحق الغائب. وهو حق لا يسقط بالتقادم كما قالت القوانين الدولية. ومن دون غفران رسمي سيتحول الحق المنسي إلى ألم دائم وشعور بالكرامة المهانة.
يبدو في الغضب المصري على حملة الرفات إعجاب خفيّ بالإصرار الإسرائيلي على أصغر تفصيل. وهو بناء مثير بالفعل يعتمد في ثناياه على النداء الديني للحرب. لكنه في الوقت نفسه يحترم قواعد مدنية في الدفاع عن حق الجندي، حتى لو كان عظاماً تحت الأرض.
الدولة كلها قامت على سرّ تاريخي. قالت العصابات الصهيوينة إنه وعد إلهي بالعودة إلى أرض الميعاد. ووعد بإعادة بناء الهيكل للرب. الذاكرة عنصر أساسي في هذه التركيبة، انتقل إلى السياسة ولم تُنس في لحظات السلم مع الأعداء.
الرفات هنا هي وصل بين الماضي والمستقبل. والعثور عليها هو مدّ الجسور بين الأجيال المدافعة عن إسرائيل، وهو ما يشعر المصريون بغيابه. لمصلحة من مؤامرة النسيان إذاً؟
«المؤامرة» تضيف ماءً على الجرح وتجعل نظام مبارك عنواناً للتخاذل ولا تضيف له ولا إلى حكمته الشهيرة التي يروّج أنها أبعدت مصر عن الحرب مع إسرائيل.
المؤامرة تضيف نقاطاً إلى خصوم النظام، وخصوصاً المنادين بالحرب الدائمة؟ أي أن التهاون في الحق لا يلغيه، بل يحوّله فقط إلى رصيد سلبي إذا لم يتم التعامل معه بعقلانية لا تخضع الحق للتوازنات السياسيّة الضيقة جداً.
الحق يمكن استعادته بألف طريقة، واليهود لم يدخلوا في حرب مع الألمان، لكنهم لم ينسوا الهولوكست. حوّلوها إلى لعنة لا ينام بسببها الألمان ويعتذرون ليل نهار.
بينما رفات الجنود المدفونين أحياءً تحوّلت إلى علامة على الخنوع تجرح المصريين.