يعاني النظام الضريبي في لبنان تشوّهات عدّة. هنا لمحة تاريخيّة عن أبرز سمات هذا النظام، والتحيّز الاجتماعي الذي يشوبه حالياً، إضافة إلى اقتراحات لأهمّ البنود الإصلاحيّة المطلوبة
نجيب عيسى *
تميّز النظام الضريبي في لبنان قبل الحرب الأهلية بانخفاض نسبة الاقتطاع الضريبي إلى الناتج المحلي الإجمالي (العبء الضريبي)، وبغلبة كبيرة للضرائب غير المباشرة، ووزن طاغٍ داخل هذه الأخيرة للرسوم الجمركية، مقابل انخفاض واضح لنسبة الضرائب المباشرة عامة، والضرائب على الدخل خاصة. وذلك مع الاعتماد الحصري على الضرائب الخاصة والنوعية في ما يتعلق بضرائب الدخل والإنفاق على حد سواء.
وفي إطار مشروع النهوض الاقتصادي وإعادة الإعمار بعد الحرب، كان مطلوباً من النظام الضريبي أن يقوم بمهمتين رئيسيتين:
ــــ الأولى، هي تحصيل أكبر قدر ممكن من الإيرادات للخزينة من أجل تقليص العجز في الموازنة.
ــــ والثانية، هي تحفيز القطاع الخاص على الاستثمار.
وفي هذا السياق، اتخذت السلطات المسؤولة عدداً من الإجراءات التي لم يكن من شأنها المس بالخصائص الرئيسية لهذا النظام. ففي أواخر 1997، أدخلت تعديلات على قانون ضريبة الدخل، بحيث خفضت معدلات الضريبة على دخل المؤسسات الفردية وشركات الأشخاص، وخفض كذلك معدل ضريبة الدخل المقطوع على شركات الأموال، وألغيت الضريبة على الفوائد. كما خفضت الضرائب على الأملاك المبنية وربح التحسين وانتقال الملكية (انظر الجدول).
وفي ما يتعلق بالضرائب غير المباشرة، تضمنت قوانين الموازنة التي صدرت خلال فترة 1993ـــ 1998 الكثير من التعديلات على معدلات وقيم الضرائب والرسوم الداخلة في هذا النطاق. وذهبت هذه التعديلات بمعظمها نحو زيادة الرسوم التي يتضمنها ما يعرف بالجدول الرقم 9 في الموازنة، لا سيما الرسوم على المحروقات والتبغ والكحول ومركبات السير، بالإضافة إلى بعض الرسوم الجمركية.
نتيجة لهذه الإجراءات، وخصوصاً بسبب استعادة الدولة قدرتها على التحصيل، تضاعفت الإيرادات الضريبية ما بين 1993 و1998. ولكن هذه الزيادة جاءت خاصة من الضرائب غير المباشرة التي تضاعفت أكثر من ثلاث مرات ونصف مرة، فيما زادت الضرائب المباشرة بنسبة 67% فقط.
المهم في الأمر هو أن الخصائص الرئيسية للنظام الضريبي في 1998 بقيت تقريباً كما كانت عليه قبل الحرب (1974). فالاقتطاع الضريبي صار يمثّل نحو 12,5% من الناتج المحلي الإجمالي بعدما كان في حدود 11,5%. وانخفضت حصة الضرائب غير المباشرة من مجموع الإيرادات الضريبية من 77% إلى 75%، وارتفعت بالمقابل حصة الضرائب المباشرة من 22,5% إلى 24,5%. لكن حصة الضريبة على الدخل انخفضت من 15% إلى 12,7%. أي إن خصائص النظام الضريبي في لبنان بقيت شبيهة بخصائص الأنظمة الضريبية في البلدان النامية ذات الدخل المنخفض، بالرغم من أن لبنان كان قد استرجع مكانته في عداد البلدان النامية ذات الدخل المتوسط من الشريحة العليا.
معدل الضريبة الذي تدفعه شريحة الدخل الدنيا يصل إلى 13,5 % فيما لا يتجاوز 6,6 % للشريحة العليا
من ناحية ثانية، نلاحظ أن الإجراءات التي اتخذت في المجال الضريبي في فترة 1993ــ 1998 لم تستطع تحقيق الأهداف التي حددت لها. فعجز الموازنة استمر بالارتفاع. ولم يكن للخفوضات على ضريبة الدخل من أثر يذكر على تشجيع الاستثمار في القطاعات الإنتاجية الخالقة لفرص العمل. فالرساميل الخاصة أقبلت على التوظيف في سندات الخزينة والمضاربات العقارية المعفية من الضرائب. وإذا كان من الواضح أن الإعفاءات والخفوضات الضريبية التي لحقت بالشطور الدنيا من الرواتب والأجور قد حررت جزءاً لا يستهان به من مداخيل أصحابها، فممّا لا شك فيه بالمقابل، أن ما أعطي لهم من هذه الجهة عادوا ليخسروا أكثر منه من جراء ارتفاع الضرائب والرسوم غير المباشرة وأسعار الخدمات الأساسية، مضافاً إليها التضخم الذي استمر ينهش مداخيل هذه الفئة.
الخلاصة هنا هي أن النظام الضريبي لم يلعب الدور الذي كان من المفترض أن يلعبه في دفع عملية النهوض الاقتصادي وإعادة الإعمار، لا مالياً ولا اقتصادياً، وبالطبع لا اجتماعياً.
ولم تستطع حكومة الرئيس سليم الحص التي جاءت في أواخر عام 1998 أن تحقق الإصلاح الضريبي الذي وعدت به في برنامجها الخماسي للتصحيح المالي. فجلّ ما تمكنت من تحقيقه خلال عامين، هو رفع طفيف لمعدلات الضرائب المباشرة (انظر الجدول) وزيادة بعض الضرائب النوعية على الاستهلاك، وبخاصة على المحروقات.
النظام الضريبي في الوقت الحاضر
مع عودة الرئيس رفيق الحريري إلى الحكم، جرى التخلي عملياً عن برنامج حكومة الحص للإصلاح المالي، وأصبح الرهان، في ما يتعلق بمعالجة مشكلة العجز في الموازنة، على «تفعيل الدورة الاقتصادية وتحقيق النمو المستدام». وفي إطار هذا التوجه، تضمن مشروع قانون موازنة 2001 خفضاً للرسوم الجمركية. وصرف النظر عن تضمينه استحداث الضريبة على القيمة المضافة، وخُفضت أيضاً اشتراكات أرباب العمل في الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي من 38% إلى 23%. ولكن مع اشتداد الضغوط على احتياطي البنك المركزي من العملات الصعبة، تحولت الحكومة، نزولاً عند رغبة مؤسسات التمويل الدولية، إلى سياسة التقشف التي كانت معتمدة من الحكومة السابقة (لجم الإنفاق وزيادة الإيرادات الضريبية).
وفي هذا السياق، بدأ العمل بضريبة القيمة المضافة في أوائل عام 2002 بمعدل 10% مع إعفاءات طاولت بعض السلع الأكثر استهلاكاً من ذوي المداخيل المنخفضة. علماً بأن بعض السلع الأخرى كالبنزين، طالته ضريبة القيمة المضافة دون إلغاء الرسوم التي كان يخضع لها. وإذا استثنينا الضريبة على الفوائد المصرفية بمعدل 5%، يمكننا القول بأنه منذ عام 2004 بقيت التشريعات الضريبية على حالها تقريباً. وكانت المحصلة أن ارتفع العبء الضريبي من 13,7% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2001 إلى 17,8% في عام 2009. ولكن بالرغم من هذا الارتفاع الملحوظ، فإن نسبة الاقتطاع الضريبي إلى الناتج المحلي الإجمالي بقيت في لبنان أدنى من مثيلاتها في معظم البلدان التي تقترب من هذا البلد لجهة متوسط الناتج المحلي الإجمالي للفرد وليس لديها من سلع أو خدمات عامة قابلة للتصدير. فهذه النسبة كانت على سبيل المثال في عام 2004، 20,7% في تونس، و21,1% في تركيا. أما لناحية هيكل الإيرادات الضريبية، فنلاحظ أن نسبة الضرائب المباشرة من مجموع الإيرادات الضريبية قد انخفضت بين عامي 2001 و2009 من 33,7% إلى 31,5 %، وارتفعت بالمقابل حصة الضرائب غير المباشرة من 66,5 إلى 68,5% (في تونس كانت هاتان النسبتان على التوالي: 36,4% و63,6%، علماً بأن متوسط دخل الفرد في لبنان هو أعلى بوضوح من مثيله في تونس).
الخلاصة هنا هي أن السياسة الضريبية المعتمدة في السنوات الأخيرة بقيت مجرد أداة في خدمة السياسة المالية الرامية دون جدوى، إلى خفض العجز في الموازنة، وذلك دون الأخذ في الاعتبار الثمن الاقتصادي والاجتماعي لهذه السياسة. نقصد عدم الفعالية على المستوى الاقتصادي وعدم العدالة على المستوى الاجتماعي.
أــــ الضرائب المباشرة والتوزيع:
هنالك مصادر دخل عديدة، خارج الرواتب والأجور، وتمثّل جزءاً لا يستهان به من الدخل الوطني (حوالى الثلث)، لا تزال في لبنان معفاة أو شبه معفاة من الضرائب. فالفوائد التي تناهز قيمتها 20% من قيمة الناتج المحلي الاجمالي، تخضع لضريبة مقطوعة قدرها 5% فقط. ولجهة الضريبة على الأرباح، نلاحظ أن معدل الضريبة المقطوع على أرباح الشركات في لبنان البالغ 15% هو، كما تقول إحدى الدراسات، من أدنى المعدلات في العالم (1). وعلى سبيل المثال، يبلغ هذا المعدل 20% في تركيا، و30% في تونس وما بين 15 و35% في الأردن، وما بين 25 و40% في السعودية، و35% في إسرائيل، و26% في كل من سنغافورة وكوريا و30% في كل من ماليزيا وتايلند.
ومعدلات الضريبة على دخل الأفراد (رواتب وأجور وأرباح فردية)، التي تتراوح ما بين 2 و20% (6 شطور)، هي أيضاً من أدنى المعدلات. فعلى سبيل المثال، فإن معدل الضريبة على الشطر الأعلى يصل إلى 30% في الأردن و35% في كل من تونس وتركيا، و50% في إسرائيل. كما أظهرت إحدى الدراسات (2)، أنه على الرغم من تصاعدية الضريبة على الدخل في لبنان، فإن وقعها على توزيع الدخل يبقى في حده الأدنى، علماً أن دراسة أخرى صدرت أخيراً (3)، أظهرت أن درجة عدم المساواة في توزيع الدخل لا تزال مرتفعة في لبنان. ففي الأسفل هنالك 20% من السكان لا ينفقون سوى 7,1% من مجموع الإنفاق، مقابل 20% في أعلى السلّم ينفقون 43,5% من مجموع الإنفاق (معامل جيني 0,375).
ب ــــ الضرائب غير المباشرة والتوزيع:
أظهرت دراسة غسان ديبه نفسها، أن الضريبة الموحدة على القيمة المضافة (10%) هي ضريبة تراجعية حادة (مفعول توزيعي سلبي)، حيث تدفع الشريحة الدنيا من الدخل (التي تمثّل 8,6% من الأسر وتحصل على 1,6% من الدخل) معدلاً قدره 7% من الضريبة على القيمة المضافة، بينما تدفع الشريحة العليا (التي تمثّل 12,65% من الأسر وتحصل على 41,54% من الدخل) معدلاً قدره 4,1% من الضريبة على القيمة المضافة. وإذا أخذنا بعين الاعتبار الضرائب النوعية على بعض السلع كالبنزين والدخان، تكون النتيجة أن معدل الضريبة الذي تدفعه شريحة الدخل الدنيا (ضريبة القيمة المضافة والرسوم على البنزين والدخان) يصل إلى 13,5%، فيما لا يتجاوز 6,6% للشريحة العليا.
ومن ناحية ثانية، أظهرت دراسة صدرت أخيراً (4) أن ارتفاع الضريبة على القيمة المضافة بنقطتين مئويتين (من 10% إلى 12%) من شأنه أن يرفع نسبة اللبنانيين الذين يعيشون تحت خط الفقر المدقع (2,4 دولار في اليوم للفرد) من 8 إلى 10% وإلى 16% إذا ارتفعت الضريبة على القيمة المضافة إلى 15%. أما نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر الأعلى (4 دولارات في اليوم للفرد) فسترتفع من 28% إلى 35% و47% تباعاً، إذا ما رُفعت الضريبة على القيمة المضافة من 10% إلى 12% و15%.
ج ــــ الفعالية الاقتصادية للنظام:
لعلّ أحد المبررات الرئيسية لخفض معدلات الضريبة على دخل الشركات والأفراد هو تشجيع الاستثمارات الخاصة المحلية والأجنبية ودفع عملية النمو الاقتصادي. لكن هذا لم يحصل عملياً. وبقيت القطاعات الإنتاجية الخالقة فرص العمل تشكو من شح التوظيفات. علماً بأن الدراسات الميدانية، لا سيما المتعلق منها بتجارب البلدان الأكثر نجاحاً في استقطاب الاستثمارات الخاصة، تجمع على أن مستوى ضريبة الدخل لا يأتي في عداد العوامل الرئيسية المؤثرة في خلق مناخ استثماري مناسب، إذ تسبقه، على رأس قائمة محفزات الاستثمار، عوامل أخرى كثيرة مثل الاستقرار السياسي والاستقرار الاقتصادي ومعدلات الربح ودرجة تطور البنية التحتية ومستويات أجور اليد العاملة ودرجة تأهيلها...الخ.
على كل حال، فإن معدلات النمو الاقتصادي في لبنان في السنوات الأخيرة لا يمكن مقارنتها بمعدلات النمو التي شهدتها بعض البلدان، كتشيلي والبرازيل وماليزيا وتايلند وتركيا وحتى تونس، حيث نسب الاقتطاعات الضريبية ومعدلات الضرائب على الدخل أعلى بوضوح منها في لبنان. ليس هذا فحسب، بل إن السياسة الضريبية المعتمدة عندنا، عملت على زيادة التشوهات التي تشوب أصلاً تخصيص الموارد، فأدخلت المزيد من المعوقات أمام النمو الاقتصادي المولد لفرص العمل. ذلك أن إعفاء المعاملات العقارية وسندات الخزينة وشبه إعفاء الفوائد من الضرائب، يساعد، بل يشجع، التدفقات المالية على أن تتوجه إلى التوظيف في النشاطات غير القابلة للتبادل الدولي (غير قابلة للتصدير) مما ساهم بصورة مباشرة وغير مباشرة (من طريق ارتفاع سعر صرف الليرة وزيادة الرسوم على الخدمات الإنتاجية) في ارتفاع المستوى العام لأسعار المنتجات المحلية، وقلّص بالتالي من الطلب الداخلي والخارجي عليها، وزاد في الوقت نفسه في حجم الاستيراد (الظاهرة التي تعرف بالمرض الهولندي).
من جهة ثانية، ومهما قيل في فضائل الضريبة على القيمة المضافة، فإن التحول من الرسوم الجمركية إلى هذا الشكل من الضريبة من شأنه معاقبة الإنتاج المحلي. لأن الضريبة على القيمة المضافة تطال هذا الأخير، كما تطال الإنتاج الأجنبي المستورد (فيما لا يخفى الدور الذي يمكن أن تلعبه السياسة الجمركية في تحفيز الإنتاج الوطني).
الإصلاح المطلوب للنظام الضريبي
المطلوب بكل بساطة هو إحداث نوع من التوازن في هذا النظام، بحيث لا يبقى مجرد أداة في خدمة السياسة المالية الرامية إلى زيادة إيرادات الموازنة، بصرف النظر عما يترتب على هذا الأمر من آثار اقتصادية واجتماعية سلبية. أي إن المسألة تتلخص بكيفية إرساء معالم سياسة تهدف إلى جعل النظام الضريبي في لبنان أداة فاعلة من أدوات النهوض بأوضاعه المتردية على الصعد الثلاثة: المالية والاقتصادية والاجتماعية.
برأينا أن التعديلات المطلوب من السياسة الثلاثية الأبعاد إدخالها على النظام الضريبي الحالي هي، عموماً، التعديلات التي تجعل النظام المذكور يقترب بخصائصه الرئيسية من خصائص الأنظمة الضريبية في مجموعة البلدان المتوسطة الدخل من الشريحة العليا (إيرادات ضريبية لا تقل عن 25% من الناتج المحلي الإجمالي وإيرادات ضريبية مباشرة لا تقل عن 40% من مجموع الإيرادات الضريبية).
إن معالجة مشكلة المديونية المتفاقمة تتطلب العمل المتواصل على خفض العجز في الموازنة، وبالتالي تأمين المزيد من الإيرادات الضريبية، وخصوصاً أن اللجوء إلى خصخصة بعض المرافق كقطاع الاتصالات، سيعمل على خفض حجم الإيرادات غير الضريبية. من هنا، فإن الدواعي المالية تدفع باتجاه العمل على زيادة نسبة الاقتطاع الضريبي لتبلغ (بما فيها نسبة اقتطاع الضمان الاجتماعي) حوالى 25% من الناتج المحلي الإجمالي (22% للاقتطاعات الضريبية و3% لاقتطاعات الضمان الاجتماعي).
إن ارتفاع العبء الضريبي ليمثّل 22% من الناتج المحالي الإجمالي، من شأنه أن يزيد الإيرادات الضريبية في مشروع موازنة عام 2009 بنسبة 23% (1925 مليار ليرة) وأن يقلص العجز في الموازنة من حوالى 30% إلى حوالى 18% (من 10,9% إلى 6,5% من الناتج المحلي الإجمالي)، غير أن هذا الارتفاع في العبء الضريبي يجب عدم البحث فيه عملياً إلا في ضوء مقتضيات النمو الاقتصادي وإعادة توزيع العبء على فئات الدخل.
من الواضح أن الإطار العام لجعل النظام الضريبي في لبنان أكثر عدالة توزيعية يتطلب إعادة هيكلة الإيرادات الضريبية، بحيث ترتفع نسبة الإيرادات المباشرة فيها إلى ما لا يقل عن 40%، لكن السؤال المحوري هنا هو كيف يمكن زيادة الإيرادات المباشرة في ضوء مقتضيات نمو الاقتصاد الحقيقي؟
الواقع أنه، في ضوء مستوى الدخل في لبنان (حوالى 7000 دولار للفرد حسب الإحصاءات الرسمية) والتفاوت الكبير في توزيعه (معدل جيني 0,375 وحوالى 30% من الأسر تحت خط الفقر) يبقى لدى صاحب القرار هامش واسع للتحرك في الاتجاه المطلوب. أما مكوّنات هذا الهامش الرئيسية فهي الآتية:
سترتفع نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر الأعلى من 28 % إلى 47 % إن رُفعت الضريبة على القيمة المضافة إلى 15 %
أ ــــ في ما يتعلق بالضريبة على أرباح الشركات: نعلم أن تأثير معدل الضريبة على الشركات، لناحية استدراج الاستثمارات، محدود جداً. ولذلك يمكن رفع معدل الضريبة المقطوع على الشركات إلى ما بين 25 و30%، علماً بأن هذا المعدل الأخير يبقى أدنى من المعدلات المعروفة في مجموعة البلدان النامية التي ينتمي إليها لبنان، وأدنى كثيراً من المعدلات المعروفة في البلدان المتقدمة. أضف إلى ذلك أنه يمكن خفض هذا المعدل للقطاعات التي يجب مساعدتها. لكن بالمقابل، وللحد من التأثير السلبي للمضاربات العقارية على تخصيص الموارد والأسعار، يقتضي الأمر فرض معدلات ضريبية أعلى من 30% على الشركات العقارية (بما فيها سوليدير).
ب ــــ في ما يتعلق بالضريبة على دخل الأفراد: لقد رأينا أن معدل الضريبة على الشطر الأعلى من دخل الأفراد هو في لبنان الأدنى عالمياً. لذلك فإنه بالإمكان أن يرتفع إلى ما يقل عن المستوى الذي كان عليه قبل عام 1993 (32%). لكن الأهم من ذلك هو أن تطال هذه الضريبة، بالمقادير نفسها (على الأقل)، مصادر الدخل التي لا تطالها في الوقت الحاضر. ونقصد الفوائد، بما فيها الفوائد على سندات الخزينة وأرباح البورصة والصفقات العقارية. كما رأينا أن الفوائد بمفردها تمثّل نحو 20% من الناتج. ولا يخفى ما لهذا التوسع في قاعدة ضريبة الدخل من أثر إيجابي، ليس فقط على إعادة توزيع الدخل، بل خصوصاً على عملية تخصيص الموارد. ويرتفع حجم الواردات من ضريبة الدخل أكثر إذا طُبّقت معدلاتها التصاعدية على مجمل الدخل (اعتماد الضريبة الموحدة على مجمل الدخل)، وجرى في الوقت نفسه، توسيع قاعدة المكلفين لتكوين الكثير من أصحاب المهن الحرة وغيرهم من المكتومين.
ج ــــ في ما يتعلق بالضريبة على الأملاك:
هنالك مصدر مهم لا يزال طي الكتمان، وهو التعديات على الأملاك البحرية.
د ــــ ذكرت دراسة صادرة عن صندوق النقد الدولي (5) أن نسبة اقتطاعات الضمان الاجتماعي إلى الناتج المحلي الإجماعي في 16 بلداً من البلدان ذات الدخل المتوسط بلغت كمتوسط نحو 4,2% من الناتج المحلي الإجمالي، فيما لا تتجاوز في لبنان في أعلى تقدير 2,6%، وقد لا يكون من المناسب في الوقت الحاضر زيادة هذه النسبة لتصل إلى حوالى 4% من الناتج، لأن ذلك من شأنه أن ينعكس زيادة في الأعباء والتكاليف التي يتحملها الإنتاج الوطني. إلا أن الدواعي المالية والاجتماعية (عجز الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي) تدفع على الأقل لإعادة نسبة اشتراكات أرباب العمل إلى ما كانت عليه قبل خفضها أي إلى 38% بدلاً من 23% حالياً.
هـ ــــ في ضوء الثروات الكبيرة التي تراكمت خلال الحرب الأهلية، وبعدها لدى فئة واسعة نسبياً من اللبنانيين وبطرق غير مشروعة في معظم الأحيان، يكون من المناسب استحداث ضريبة تطال مظاهر الثروة كامتلاك القصور والفيلات واليخوت والطائرات الخاصة وأكثر من سيارة فخمة وإقامة الحفلات الباذخة... الخ.
و ــــ بالرغم من الجهود الكبيرة التي بذلت بهذا الخصوص، فإن الإدارة الضريبية لا تزال بحاجة إلى المزيد من التفعيل، إن كان على الصعيد البشري أم على صعيد التجهيزات وتقنيات الجباية. وإذا ما أعطي لهذه الناحية العناية الكافية، فإن الإيرادات من الضريبة المباشرة ستحقق زيادة إضافية ملحوظة.
ز ــــ وإذا كان الإصلاح الضريبي يجب أن يتركز أساساً على الشق المتعلق بالضرائب المباشرة، فلا يعني ذلك إغفال الشق الآخر المتعلق بالضرائب غير المباشرة. فهنالك الكثير مما يمكن عمله. فقد رأينا أن الدراسات المتوافرة بيّنت الطابع التراجعي الواضح للضريبة غير المباشرة في لبنان (الضريبة على القيمة المضافة والضرائب النوعية كالضريبة على البنزين). وعليه، فإنه يجب التخفيف من هذه التراجعية، وذلك بالعمل من جهة على تطبيق الضريبة على القيمة المضافة تطبيقاً صحيحاً على البنود التي طالتها هوامش عالية من الرسوم الجمركية والضرائب النوعية، ومن جهة ثانية العمل على إعادة هيكلة نظام الرسوم النوعية بحيث يجري تصنيفها إلى سلع فاخرة ونصف فاخرة وعادية وتطبق عليها معدلات ضريبة مختلفة. كما يمكن الضريبة على القيمة المضافة أن تكمل الدور التصاعدي الذي تلعبه ضريبة الدخل، فيما لو حُوّل نظام المعدل الواحدة لهذه الضريبة إلى نظام معدلات مختلفة حسب حاجة فئات الدخل المختلفة إلى السلع والخدمات التي تطالها هذه الضريبة.
(1) – ESCWA: Comparative Study
on Corporate Tax‚ by A.M. Abdel-
Rahman NY2000
(2) – غسان ديبه، «الأثر الاجتماعي للسياسات المالية والنقدية في لبنان ما بعد الحرب»، في «الرؤية الاقتصادية والاجتماعية واثر السياسات المالية في لبنان»، الأسكوا، الأمم المتحدة.
(3) - UNDP: Poverty, Growth and Income
Distribution in Lebanon2000
(4) - من Yعداد الجامعة الأميركية في بيروت (كلية الاقتصاد) وبالتنسيق مع وزارة الشؤون الاجتماعية – مشروع بناء القدرات للحد من الفقر.
(5) – NASHASHIBI.K: «A Fiscal
Revenues in South
Mediterranean Arab Countries: Vulnerabilities and Growth
potential» IMF. Working
Paper WP 02/67.

* أستاذ جامعي وباحث اقتصادي