strong>معتصم حمادة*مرّ تاريخ 25/1/2010، موعد انتهاء الولاية القانونية للمجلس التشريعي الفلسطيني الثاني، دون أن يحدث ردود الفعل التي كانت متوقعة، وخاصة في ظل الانقسام القائم وصعوبة إجراء انتخابات لاختيار مجلس جديد. ويمكن القول إن أحداثاً أقل أهمية نالت من اهتمامات الصحافة الفلسطينية أكثر مما ناله هذا الحدث الدستوري والقانوني المفصلي الكبير. ومع أن المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية، في اجتماعه منتصف شهر كانون الأول (ديسمبر) الماضي، مدد ولاية المجلس التشريعي، إلا أن الواقع يؤكد أن أوضاع هذا المجلس باتت معلقة في الهواء. وقد زاد من تفاقم حالته أنه، بالأساس، مجلس مشلول، جلساته معطلة منذ منتصف حزيران (يونيو) 2007، أي منذ أن قامت حماس بانقلابها في قطاع غزة.
ولا يمكن الادعاء أنه ضحية الانقسام، كما كانت عليه، على سبيل المثال، حال مجلس النواب اللبناني خلال الحروب الداخلية وحتى عام 1992. بل يتوجب التأكيد أن المجلس التشريعي الثاني، وبدلاً من أن يمثّل صمام أمان للحالة الدستورية، كما فعل مجلس النواب اللبناني على سبيل المثال، كان مصدراً للقلق السياسي، ومصدراً رئيسياً من مصادر الانقسام في الحالة الفلسطينية. فمنذ جلسته العمومية الأولى، في آذار (مارس) 2006، انشق هذا المجلس على نفسه، بين كتلتين كبيرتين، هما كتلة فتح وكتلة حماس. وتعطلت جلساته. وفشل في توفير النصاب القانوني لاجتماعاته، بعدما قاطعته كتلة فتح، احتجاجاً على سلوك رئاسته، وسلوك كتلة حماس. إلى أن نجحت باقي الكتل البرلمانية في التوسط لدى الطرفين، وفي إعادته إلى الحياة.
ومع ذلك، يمكن القول، بكل ثقة، إن هذا المجلس أمضى سنواته الأربع في حالة من البطالة الكاملة، فلم يسنَّ طوال ولايته الدستورية قانوناً واحداً، ولم يلعب دور الرقيب المطلوب منه في مساءلة الحكومة الفلسطينية.
لقد ولد هذا المجلس بالأساس، منشقاً على نفسه، تتجاذبه كتلتا فتح وحماس. وهو مولود مشوّه لقانون انتخابي هجين، يجمع مناصفة بين التمثيل النسبي والدوائر، في ظل علاقات مجتمعية عشائرية، لعب فيها المال السياسي دور الناخب الأكبر في اختيار النواب. ودخلته كتلتا فتح وحماس، ولكل منهما دوافعها الحزبية الضيقة.
ــــ فتح التي انتقلت للمرة الأولى من مقاعد السلطة إلى مقاعد المعارضة، ترغب بجموح في إفشال تجربة حماس البرلمانية، ولو تطلب ذلك تعطيل المجلس على حساب مصالح الناس والناخبين. وتتطلع في الوقت نفسه إلى فرصة تتيح لها إجراء انتخابات مبكرة، علّها تستعيد بها مواقعها السابقة.
ــــ حماس، بدورها، أتت إلى السلطة وفي نيّتها الانتقام من الماضي الفتحاوي، عبر احتكار السلطة، وزرع جذورها فيها، وانتزاع ما يمكن انتزاعه من نفوذ ومكاسب ومناصب، تمثّل أساساً متيناً لإقامة مديدة للحركة الإسلامية في ربوع السلطة الفلسطينية ونعيمها. من هنا، سيطر على حماس هاجس مطاردة فتح في كل منصب تستطيع انتزاعه منها، وسيطر على فتح هاجس التصدي لحماس، وإن بتعطيل الحياة الدستورية نفسها. فتحوّل المجلس إلى ميدان الصراع الرئيسي بين الجانين، وفيه كادت أن تنطلق أكثر من مرة شرارة الاقتتال في الشارع.
هذه الأجواء غير الصحية والموبوءة سياسياً، عطلت دور المجلس، ليس فقط في سن القوانين، بل في مساءلة الحكومة أيضاً. أفرزت الانتخابات مجلساً بأغلبيته الحمساوية، كما أنتجت حكومة، كل وزرائها من حماس. وبدلاً من أن تقدم كتلة حماس البرلمانية نموذجاً ناجحاً في مساءلة الحكومة ومحاسبتها على أدائها، لعبت دوراً معاكساً، حين كوّنت لها شبكة أمان في السراء والضراء. ولم تتردد كتلة حماس، ولا للحظة واحدة، في نسف نصاب الجلسات المخصصة دورياً لمناقشة الحكومة على أدائها. وخاصة أنها حكومة فشلت في كسر الحصار الذي فرضته عليها اللجنة الرباعية، كما فشلت في تأمين الأموال اللازمة لتغذية الخزينة، وانعكس ذلك توتراً اجتماعياً في الضفة والقطاع، حين بدأت قطاعات الموظفين تعلن الإضراب تباعاً احتجاجاً على عدم توافر المال اللازم لدفع المرتبات.
واكتفت الحكومة بتحميل مسؤولية الوضع للولايات المتحدة ولإسرائيل، دون أن تطرح بدائل عملية. كما اتهمت في السياق نفسه حركة فتح باستغلال الوضع لأسباب حزبية.
الحل جاء من خارج المجلس التشريعي، لا من داخله، حين التقت الفصائل الفلسطينية على ضرورة تنظيم حوار وطني شامل، لإخراج الحالة الفلسطينية من أزمتها. وانعقد الحوار تحت سقف اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، وتوصل المتحاورون إلى الاتفاق على وثيقة الوفاق الوطني في 27/6/2006، دون أن يكون للمجلس التشريعي أدنى دور في هذا النجاح المميز، بل يمكن القول، إن ممثل رئيس المجلس في الحوار، أحمد بحر، وبدلاً من أن يلعب دور الوسيط بين الأطراف، كما يفترض به أن يكون، وقع في فخ الانحياز الفصائلي، ولم يتجاوز حدوده الضيقة باعتباره واحداً من ممثلي حماس إلى مائدة الحوار.
أول استحقاقات ولادة وثيقة الوفاق الوطني، كان تأليف حكومة وحدة وطنية ترث حكومة هنية الأولى ذات اللون الحمساوي الفاقع. وهو ما استدعى إجراء مشاورات اقتصرت على رئيس السلطة محمود عباس، ورئيس الحكومة، المعلق دورها، إسماعيل هنية، واستمرت ثمانية أشهر كاملة، انتهت في اتفاق مكة الشهير. وقد لوحظ طوال هذه المدة أن المجلس التشريعي كان أشبه بمن استقال من موقعه. فلا هو معني بمساءلة الحكومة على دورها المشلول طوال ثمانية أشهر كاملة، ولا هو معني بمساءلة عباس وهنية على مشاوراتهما التي دامت أكثر من اللازم، ولا هو معني باتخاذ القوانين والإجراءات اللازمة لمعالجة الأزمات الحياتية والمعيشية والسياسية والأمنية المتفاقمة في الضفة والقطاع.
اتسعت الإضرابات، وازدادت الأوضاع السياسية توتراً، وتحولت النزاعات بين فتح وحماس إلى جولات من الاقتتال الدموي، وتعرضت مناطق السلطة للعديد من الأعمال العدوانية الإسرائيلية. ومع ذلك، بقي المجلس التشريعي صامتاً لا حول له ولا قوة، غائباً عن الوجود، وتحول إلى عالة على الحالة السياسية الفلسطينية، بدلاً من أن يمثّل أحد المخارج المهمة لأزماتها. وتحوّل في الوقت نفسه إلى سبب من الأسباب الرئيسية لاستنزاف خزينة السلطة. (يبلغ المرتب الشهري لعضو التشريعي الفلسطيني 3،500 دولار، فضلاً عن مكافآت أخرى تعطى له شهرياً لا تقل عن 500 دولار، كما يمنح كل عضو جديد 15 ألف دولار حين دخوله المجلس بذريعة ترتيب أوضاعه بما يليق بموقعه عضواً في المجلس).
وحين ولدت حكومة هنية الثانية، تحت سقف اتفاق مكة، وتقاسمت مقاعدها الرئيسية حركتا فتح وحماس، ازداد موقع المجلس التشريعي تهميشاً، وعقد الطرفان صفقة قضت بالتواطؤ مع الحكومة وعدم مساءلتها على دورها. وبقي دور المجلس غائباً، حتى مع نشوب النزاعات بين طرفي الحكومة، هنية من جهة، ونائبه عزام الأحمد من جهة ثانية. كما بقي دور المجلس غائباً حين انتقلت النزاعات إلى الشارع، وتحولت إلى صدامات دموية انتهت بما انتهت إليه في 14/6/2007، مع انقلاب حركة حماس.
مع الانقسام، انفرط عقد حكومة هنية الثانية، فغادرها وزراؤها، بمن فيهم وزراء حماس المقيمون في الضفة الفلسطينية. ولم يبق مع هنية في غزة سوى أربعة وزراء، سمّى بعدها وزراء جدداً من داخل حركة حماس. وبقيت حماس تدّعي أن حكومة هنية هي الحكومة الشرعية، رغم أن معظم وزرائها دخلوها بعد الانقسام، ودون قرار من الرئيس عباس (كما يقتضي الأمر قانوناً).
الانقسام امتد إلى داخل المجلس التشريعي نفسه. ومع اعتقال رئيسه عزيز دويك في سجون الاحتلال، انفرد أحمد بحر برئاسة المجلس بالإنابة، وبدأ يعقد اجتماعات اقتصرت على نواب حماس في القطاع، وهو يزعم أنها جلسات قانونية بذريعة أن الحاضرين يحملون تفويضاً من النواب الأسرى. وبدأ هؤلاء يواصلون اجتماعاتهم المتقطعة في غزة، وسط تجاهل تام لزملائهم الآخرين في القطاع، وفي الضفة (بمن فيهم نواب حركة حماس في الضفة)، ويتخذون قرارات ذات طابع انقسامي، انحازت انحيازاً فاقعاً إلى «حكومة» هنية، وخضعت كلّياً لسياسة حماس، وبالتالي قضت على ما بقي من دور ولو هامشياً للمجلس التشريعي. الخطير في الأمر، أن في رام الله حكومة يترأسها سلام فياض، لا تجد من يسائلها، تراها تتحرك يمنة ويسرة دون رقيب أو حسيب، الأمر الذي يفتح الباب لممارسات ذات طابع قمعي ضد الحالة السياسية الفلسطينية أو ممارسات سياسية لا تجد من يقوّمها إذا ما خرجت عن الخط الصحيح (علماً بأنها خرجت عن هذا الخط، برأي بعض القوى الفلسطينية، أكثر من مرة).
وفي غزة «حكومة» يترأسها إسماعيل هنية، تعقد اجتماعات دورية تكتفي بإصدار البيانات السياسية والتعليق على الأحداث، بما في ذلك الأحداث الكبرى التي يهتز لها القطاع بين فترة وأخرى، كحادثة تصفية المجموعات الأصولية التابعة لعبد اللطيف موسى، في رفح. وتعد على الدوام في التحقيق في ملابسات هذه الحوادث، ثم تخلّ بوعودها. تعجز عن معالجة قضايا المجتمع في القطاع، وحجتها على الدوام الحصار والعدوان، وتوزع المسؤوليات على الآخرين، وتعفي نفسها من أية مسؤولية. ومع ذلك، لم تقف يوماً أمام نواب حماس في القطاع (باعتبارهم كما يزعمون هيئة تشريعية) لتقدم لهم كشف حساب عن أدائها.

أمضى المجلس التشريعي الفلسطيني سنواته الأربع في حالة من البطالة الكاملة
لقد سبق أن قلنا إن هذا المجلس هو المولود المشوّه لقانون انتخابات هجين، اعتمد مناصفة نظامي التمثيل النسبي والدوائر. الملاحظ أن الورقة المصرية للمصالحة الفلسطينية، تعتمد مرة أخرى نظاماً انتخابياً مشابهاً يعتمد التمثيل النسبي بنسبة 75% من المقاعد البرلمانية و25% لمصلحة الدائرة. وهو أمر لا يمكن أن يؤسس إلا لأزمة سياسية جديدة، فالورقة المصرية، في مشروعها هذا، رضخت لضغوط حماس وفتح معاً. ففي الحركتين نواب يعتمدون على العشائرية والجهوية والخدمات الفردية في الوصول إلى مقاعدهم في المجلس التشريعي. وهؤلاء النواب، كما أثبتت التجارب، يغلّبون على الدوام مصالحهم الفئوية على حساب المصلحة الوطنية، مع لفت النظر إلى أن الحديث يدور عن مجلس تشريعي لسلطة تحت الاحتلال، يفترض به أن يكون إحدى الأدوات النضالية للخلاص من الاحتلال والاستيطان، بكل ما يتطلبه هذا الأمر من تضحيات ومعاناة، لا أن يكون منصباً للمكاسب والغنائم والنفوذ وجمع الثروات.
أخيراً، وليس آخراً، إن ما يزيد القلق، في ظل هذا المجلس المشلول، هو أن الأفق الفلسطيني لا يحمل حتى الآن أية إشارة تفيد بأن الانتخابات التشريعية ستجري في موعد قريب، ما يعني أن الوضع الحالي، بكل تشوّهاته، مرشح لأن يطول أكثر من اللازم بكل ما يحمله ذلك من تداعيات سلبية على عموم الحالة الوطنية الفلسطينية.
* عضو المكتب السياسي للجبهة الديموقراطيّة لتحرير فلسطين