علاء اللامي*تُعرَّف المكارثّية بأنها تلك الممارسة التي ترتكز على اتهام الناس بصلات تربطهم بمنظمات سياسية، هي هنا «الحزب الشيوعي الأميركي»، دون إثباتات وأدلة كافية تدعم الادعاء. ومعروف أن مبتكرها هو السناتور الجمهوري اليميني جوزيف مكارثي الذي ادّعى عام 1950، فيما كانت الحرب الباردة بين الشرق الاشتراكي والغرب الرأسمالي على أشدها، أن مئتي شخص تقريباً من موظفي وزارة الخارجية الأميركية هم من المتعاطفين مع الشيوعية، وأن 57 آخرين هم أعضاء في الحزب الشيوعي الأميركي. تبعت هذا الإعلان حملة سياسية وأمنية شعواء هدفها التشكيك وإضعاف الثقة في أعضاء بارزين في الحزب الديموقراطي. وعندما أصبح مكارثي رئيساً «للجنة الفرعية الدائمة للتحقيق» سنة 1953، تكثفت هجماته فوجّه اتهامات بحق وزير الحربية الأميركي ستيفنز، وبحق العديد من المثقفين والرسميين. نتج من هذه الحملة ولادة «لوائح سوداء» بأسماء المتهمين والمشكوك في ولائهم، وقُضي على الحياة المهنية والثقافية لكثير من الأميركيين. في عام 1954، أدان مجلس الشيوخ نشاطات مكارثي، فتمادى هذا الأخير وهاجم هذه المرة الرئيس أيزنهاور.
الكاتب البريطاني المتخصص بالتاريخ الأميركي هارولد إيفانز يعطي تعريفاً جامعاً مانعاً للمكارثية مؤلفاً من كلمة واحدة هي «الخوف»، بل يتساءل بما لا يخلو من المكر وليس التبرير المباشر ما إذا كان ممكناً بروز نسخة جديدة من المكارثية في أميركا ذاتها، تستبدل الخطر الأحمر الشيوعي بالخطر السلفي الجهادي الإسلامي.
التطورات السياسية الأخيرة في العراق، وخصوصاً تلك المتعلقة بالانتخابات المقبلة وقوائم الأحزاب والشخصيات الممنوعة من المشاركة فيها بموجب قانون «اجتثاث البعث» الذي تغيّر اسمه إلى قانون «المساءلة والعدالة»، تنبئ بأن نسخة عراقية من المكارثية أخذت بالتكرس والرسوخ. ويبدو أنها تفاقمت في الآونة الأخيرة مع اقتراب الاستحقاق الانتخابي. فما وجه الشبه والعلاقة بين المكارثية الأميركية وامتدادها العراقي، وما دلالات نشوء هذه الممارسة، وما الآفاق التي يمكننا استشرافها لها، وهل يمكن أن نعتبر الحكم العراقي المسنود من الاحتلال مسؤولاً مباشراً ووحيداً عنها؟
ضمن استراتيجية الحذف والشطب والتدمير المنهجي، باشر الاحتلال الأجنبي للعراق عهده بقرارات خطيرة منها: حلّ الجيش العراقي والحزب الحاكم «حزب البعث» والعديد من المؤسسات المكوِّنة للدولة العراقية، الأمر الذي أظهر أن مهمة الغزاة الحقيقية لم تكن إطاحة نظام صدام حسين حصراً، بل هي في مخطط شامل لتدمير الدولة العراقية الهشة التي أثقلتها ممارسات ذلك النظام الشمولي المتخلف بالجراح والديون والخسائر والدمار. وبهذا، فإن الاجتثاث كممارسة سياسية وأمنية، لم يكن بضاعة عراقية خالصة، رغم أن له جذوراً مشابهة قديمة سنتطرق لها بعد قليل، بل هو، من حيث المنطلق والمسار والنتائج، بضاعة أميركية بحتة، لولاها ولولا غيرها من ممارسات، لما تمكن المحتل من «تصنيع وتركيب» نظام الحكم الطائفي العرقي بمواصفاته المعروفة اليوم. ثم إنه بضاعة أميركية لها ما يطابقها في التاريخ الأميركي الحديث. وبتدقيق أكثر يمكننا أن نتبين أن الاجتثاث العراقي أكثر اتساعاً وعمقاً من المكارثية الأميركية من حيث حساب أعداد الضحايا في التجربتين، وبتحليل الإجراءات العملية والوثائق القضائية والسياسية لكليهما. لقد قال أحد أقطاب الحكم العراقي كلمة حق أراد بها الباطل كله. فقد صرّح الطالباني أن صدام حسين هو من اجتثّ البعث لا نحن. أليس هو من قتل المئات من القيادات والكوادر البعثية في الحزب والدولة، بل بدأ حكمه بمجزرة دموية للعشرات من رفاقه بتهمة التآمر مع سوريا ضده في بداية الثمانينيات؟ وهذه الواقعة صحيحة، وهي تتعلق بالتراث القمعي لنظام شمولي قتل مئات الآلاف من العراقيين، من بينهم المئات وربما الآلاف من أعضاء حزبه، لكن ما علاقتها بخطة الاجتثاث التي وضعها الاحتلال الأجنبي وأخذت بها حكومة محلية متحالفة معه؟ نعم، يمكن اعتبار ما اقترفه صدام حسين بحق رفاقه، حين قتلهم دون محاكم شرعية ودون أن يتمتعوا بحق الدفاع الأساسي عن النفس، جرائم، ولكن هل تبرر هذه الجرائم مخططات الاجتثاث، وخصوصاً إذا أخذت شكل حملة سياسية وأمنية تشمل البلد من أدناه إلى أقصاه؟ إن هذه الجرائم وسواها، سواء ارتكبت في عهد صدام حسين، أو في عهد الاحتلال، مكانها الطبيعي هو ميدان القضاء والمحاكم. وحين يُدان المتهمون وتصدر بحقهم أحكام قضائية وتُنفّذ فسيكون تمجيدهم والترويج لنهجهم وأفكارهم ممارسة مدانة وإهانة كبيرة للضحايا العراقيين الأبرياء. أما المنع والحظر والإقصاء السياسي للأحزاب والأشخاص، فهي أمور مرفوضة، أو ينبغي أن تكون مرفوضة من لدن الديموقراطيين الحقيقيين في دولة تزعم الديموقراطية.
بكلمات أخرى، ينبغي التفريق بين الاجتثاث السياسي لحزب البعث كممارسة وقوانين مرفوضة ديموقراطياً، وممارسة أخرى مدانة، تنتج منها، أو بالتساوق معها، هي تمجيد مجرمين مدانين مهما كان موقعهم في الدولة، وإهانة ذكرى الضحايا الشهداء وتدنيسها.
إن انتقاد تجربة البعث في الحكم، والاعتذار للشعب العراقي عما فعلوه، هما من مسؤوليات البعث والبعثيين وإشكالاتهم. غير أن تراث نظام البعث القمعي هو في الوقت نفسه مشكلة وطنية تهم الشعب بأسره، وليست حكراً على البعث والبعثيين. أما حصر الحكم معالجةَ هذا الشأن بالأسلوب الجنائي والقمعي المضاد، فهو أمر لا طائل منه ويزيد من تعقيد الأمور، مع أن نقد تلك التجربة والاعتذار عن نتائجها المأسوية يبقى شرطاً لا بد منه على الديموقراطيين الحقيقيين اشتراطه لقيام أي حوار أو تعامل سياسي مع البعثيين كحزب سياسي.

اقتراح بايدن تقديم المهددين بالاجتثاث «براءة من البعث»، ينتمي إلى ترسانة التراث القمعي

ويبدو أن قيادة الاحتلال حاولت أخيراً إضفاء نكهة عراقية على هذا المخطط على يد نائب الرئيس الأميركي جوزف بادين الذي حاول أن يحل مشكلة قوائم الأحزاب والشخصيات الذين شملهم الاجتثاث، فاقترح أن يقدّم المهددون بالاجتثاث «براءة من البعث وجرائمه وقيادته». وتقليد البراءة في العراق نوع من انتزاع القناعات على طريقة محاكم التفتيش في القرون الوسطى، يتعهد بموجبه المتهم بالتبرؤ من الحزب أو الفكر السياسي الذي يتهم به. وقد أخذ به الحكم الملكي الهاشمي ضد الشيوعيين وجاراهم فيه نظام البعث ضد الشيوعيين أيضاً في العهد الجمهوري، وهو تقليد معيب ومرفوض أخلاقياً وسياسياً في الذاكرة الجمعية العراقية. إن هذا الأسلوب الذي اقترحه بايدن وتبنته حكومة المحاصصة القائمة ينتمي إلى ترسانة التراث القمعي الذي يجب دفنه ورفضه، لا إعادة إطلاقه من جديد.
إن الاستمرار بالتغني اللفظي بما يسمونه «المصالحة الوطنية» من جانب الحكم القائم لا يعني شيئاً ذا قيمة حقيقية، بل هو ليس إلا نوعاً من الدجل السياسي البعيد كل البعد عن أي مسار مفيد لمصالحة مجتمعية وسياسية تقوم على أسس التسامح وإحقاق الحقوق الدستورية والإنسانية للمواطنين العراقيين. ولنا أن نتوقع أن مساراً كهذا الذي أخذت به شعوب كثيرة منها شعب إسبانيا بعد زوال الفرانكوية وجنوب أفريقيا بعد الانتصار على الأبارتهايد وتشيلي بعد كنس دكتاتورية بينوشيه، هو أبعد ما يكون عن أن يتجرأ على الأخذ به سياسيون في حكم طائفي عرقي متحالف مع احتلال أجنبي ومعارضون لهم من بقايا نظام شمولي.
إذا كانت المكارثية قد لفظت أنفاسها، فإن الاجتثاث سيبقى متجذراً لفترة قد تطول كثيراً في نفوس أغلب السياسيين العراقيين من الجيل الذي عاصر الأنظمة الشمولية وعهد الاحتلال. ويبدو أن الجانبين، في حكم المحاصصة كما ورثة الحكم البعثي الصدامي، حريصان حتى الآن على إدامة بقاء هذه الشجرة المرة... الاجتثاث!
* كاتب عراقي