حسان الزينلم أفكّر قبل أن أبدأ عملي هنا، في «الأخبار»، قبل عام، في حجم حضور جوزف سماحة. أو بالأحرى، لم أتوقّع حضوراً يوميّاً قويّاً له، بالرغم من الدور التأسيسي الذي قام به. حسِبتُ أنّه رسمَ الكثير من ملامح مساري المهني، بل قدري المهني، وقبلت معترفاً شاكراً. ولعلّ الجريدة من بعيد، حيث كنت، لم تكن توحي كثيراً بأن ثمّة أثراً واضحاً له (حتى في أيامه)، كما في السياسة كذلك في المهنة، في الأقل بالنسبة إليّ متمنياً ذلك، مبرّئاً له، أنا الذي يدّعي، من بين كثيرين، أنه يعرفه وقد اختبر تأثيره في الناس، وقدرته على أخذهم أو دفعهم إلى آفاق رحبة في الحياة والثقافة والمهنة، والأهم قدرته على جعل الأحلام، كبيرة كانت أو صغيرة، توقعاتٍ بل محاولاتِ استكشاف واكتشاف للطاقات وفيها. فجوزف خير مَن جعل الأفكار بالمتناول والأشخاص في مسارات واختبارات أقرب إلى التصوّرات منها إلى واقعهم واختياراتهم أو أقدارهم التي سلّموا بها، أو كادوا يفعلون.
لذا، كنتُ وأنا أقرأ الجريدة، ولا سيما بعد غيابه المفاجئ، أقول لو أن جوزف موجود على رأس عمله فيها لما كانت تقبل نشر هذا، ولما كان هذا المنشور هكذا، ولما قََبِِل هو بالنشر لهذا أو ذاك. وهذا صحيح وليس افتراضياً، ولدى أيّ منّا الكثير من النماذج. وكلّ مَن عمل مع جوزف، أو قرأ له وأطلّ على تجربته في نبش الناس وإخراج أفضل ما لديهم، يؤمن بذلك. وغالبيّة هؤلاء لا ينسونه وهم يعملون، في أيامهم، وخصوصاً المهمّة منها، يسألون ماذا كان يفعل جوزف في هذا الأمر، ماذا كان سيقول أو يكتب أو يوجّه، كيف كانت ستخرج الجريدة لو كان موجوداً؟
الأسئلة هذه، التي تفتقد جوزف وربما توسّلت حضوره، حاضرة وكذلك روحها، لكن الآليّة تفتقده، وما زالت أقل من أن تُخفي ذلك. والجميع كأنه في حالة تعويض. توقّعت هذا من بعيد، وأفهمه الآن من الداخل. لا تبرير في القول لأخطاء وقصور، لكن لا إدانة، كلّ ما في الأمر حاجة إلى التفكير وممارسة للنقد ورغبة في الشفافيّة. وهذه لحظة توافق سماحة. فالجريدة استمرّت، وهي تحاول يومياً الاقتراب من طموح سماحة فيها. فسماحة، وهذا هو دائماً، حين يفاضل بين بقاء الحلم حلماً والولادة المتواضعة التي تنشط وتجتهد وتخطئ وتتعلّم في طريقها إلى مطابقة الحلم أو ملامسته، يؤثِر الولادة والتواضع والنشاط والاجتهاد والأخطاء والتعلُّم.
لكن، لم تكن هذه مشكلتي مع الجريدة. مشكلتي كانت مع الجريدة، أنها انحازت إلى السياسة والموقف على حساب المهنة، وبما أنها ولدت قبل الأوان، تعمّق ذلك (وآلمها)، وصار الاستمرار حياتياً صعباً. أُدركُ ذلك وأقدّر مَن وقف وعمل. لقد خفضت الجريدة السنّ في كل شيء، ومع غياب سماحة، وجد الشباب أنفسهم في مسؤولية أكبر ممّا يرغبون ومختلفة عمّا يريدون لأنفسهم (أما الأكبر سنّاً ـــــ المخضرمون، فبقيت عيونهم على البوصلة وقاموا بمهماتهم). والتعلُّم أمام القارئ أمر مضنٍ وشاق. لقد تيتّمت الجريدة بعد الحَمْل بها بأشهر قليلة، وأصلاً الجنين ولد قبل إتمام فترة الحمل. لا جريدة أو مولود بهذه الحياة العلنية والقسوة الوجودية... وتستمر ويستمر. الاستمرار في حد ذاته إنجاز. وكَثُرَت المعارك، منها ما وجدت الجريدة نفسها فيه، ومنها ما «اشترته» وجَنَته على نفسها. وهذه من أهونها. أهون المعارك في السياسة. التحدي الأصعب في المهنة. والعاملون في الجريدة يدركون ذلك يومياً، ويواجهون أنفسهم والتحديات. فمن دون مواجهة تحديات المهنة ما كانت الجريدة لتستمرّ. الجريدة استمرّت، بقوّة مَن فيها، وبتحويلهم الضربة على الرأس إلى مشروع نضال وحياة مهني. قد تستمر جريدة بدعم مادي، لكن لا تنجز ما حققته «الأخبار». جريدة عصرية شبابية مفتوحة بديناميّة على التجديد وتهتم بالقارئ وذائقته وهمومه وتطلّعاته، كما في الإعلام كذلك في المجتمع والثقافة. وفي الوقت ذاته، تنمّي قدرتها على ممارسة صحافة الموقف إلى أقسى درجات النقد وتحمي تحرّرها من أيّ سقفٍ سياسي. فالجريدة، التي ارتكبت وترتكب أخطاءً مهنية وسياسية عديدة وتتعلّم منها بشفافية أمام القارئ، تدرك (من اللحظة الأولى) أنها مشروعٌ إعلاميّ وسياسي في آن واحد، وأن هذين الركنين أو البعدين لا ينفصلان، وحين يضعف واحدٌ منهما تختلّ معادلة وجودها. لكنها، وهذا ما يميّز «الأخبار»، لا تبحث عن رافعة سياسية (أي حاضنة مادية) ولا عن قواعد مهنية جامدة. هذه لعبة مكشوفة ملّ منها القارئ. «الأخبار» نقدية في البعدين. وعندما عاشت مرحلة غلبت فيها السياسة المهنة، آثرت القفز إلى الأمام في المهنة لتقدّم نموذجاً مهنياً جديداً في مواكبة السياسة والمجتمع والثقافة ومقاربتها ونقدها. لقد وسّعت «الأخبار» صدورها المهني والسياسي، مفضّلة ذلك على تكبير النهود، وتركت لمرآتها البوح بشبابها، مفضّلة ذلك على عمليات التجميل.
اليوم، مشكلات «الأخبار» موضعية. داخلياً، تجري يومياً عملية دوزنة المهني والسياسي. ففي الوقت الذي «نكره» فيه تعقيم الكتابة السياسية والاجتماعيّة والثقافيّة وتعليبها، نهذّب أنفسنا تجاه مغريات الشتم، وفيما ندّعي أننا نأخذ من التجديد المهني شعاراً، لا يغرينا وحده من دون الشروط المهنية العلمية. وفي الوقت الذي ندّعي فيه أننا جريدة جوزف سماحة، ترهقنا المسؤولية ونرفع رؤوسنا لنقابل القارئ.
* * *
جوزف، لا ألومك على الغياب، لكننا أصغر ممّا فكّرتَ فينا، وبشرٌ أكثر ممّا تمنّيتَ ودارَيْنا.