هزت عملية اغتيال الكادر في حركة حماس، محمود المبحوح صورة الموساد. وصورة الموساد تهتز باستمرار، وإن كانت إسرائيل تسعى ــ بالاستناد إلى وسائل الإعلام الإسرائيليّة والغربيّة الخانعة وبعض «العربيّة» ــ إلى تجميل صورة الذراع الإرهابية والتجسّسية للدولة العدوّ. وتحرص إسرائيل على ذلك لأن صورة الموساد ــ لا دوره الحقيقي ــ كانت جزءاً من الرادع الصهيوني الاستراتيجي في المواجهة مع العرب. لكن الموساد نعِم بسمعة تفوّق لم يستحقّها. الموساد أخاف العرب بسبب الحرب النفسيّة، لا بسبب مهارته
أسعد أبو خليل *
اعتمدت إسرائيل في مواجهتها الطويلة مع العرب على عناصر استراتيجيّة ثلاثة: 1) التفوّق النوعي في تكنولوجيا السلاح. وكان ذلك بداية نتيجة الاستفادة من الجاليات اليهوديّة في أوروبا وعلاقاتها هناك، بالإضافة إلى دعم من دول، مثل فرنسا حتى 1967 والولايات المتحدة منذ ذلك الحين. 2) الوحشيّة المُفرطة والتنعّم بالتغطية الأميركيّة المُستمرّة لكل جرائم الحرب الصهيونيّة التي بدأت قبل إنشاء الكيان. أي إن إسرائيل تعتمد على المبالغة المقصودة في القتل وارتكاب المجازر والتدمير بهدف إيقاع الرعب في قلب العدو. تحدّث مناحيم بيغن عن ذلك بصراحة في تطرّقه إلى مجزرة دير ياسين، في كتابه «التمرّد». 3) اعتمدت إسرائل بشدّة على الحرب النفسيّة، لا لإحداث الذعر في صفوف العدوفقط، بل لدفعه إلى الاستسلام واليأس والخيبة (ومتابعة المسلسلات وبرامج الرياضة). كانت الصحافة العالميّة والعربيّة تزخر بقصص، معظمها مُختلق، عن نجاحات لجهاز الموساد. وهذا العمل سهّل على العدو مهمة السيطرة والهيمنة في المنطقة العربيّة، وأسهم كذلك في إضعاف وسائل مقاومة الخصم.
كان المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزيّة الأميركيّة، الأدميرال ستانسفيلد ترنر، يقول إن نجاح الموساد يكمن في العلاقات العامّة، لا في مجال التجسّس والعمليّات السريّة الفعليّة. وحده الملك حسين ظلّ مبهوراً بالموساد حتى آخر رمق. استطاعت إسرائيل إيهام العرب بأن لديها ذراعاً طويلة تستطيع أن تصل إلى من تشاء من الأعداء والمقاومين العرب. طبعاً، هذا لا يعني أنه ليس لإسرائيل نجاحات في عمليّات استخباراتها، وخطف إيدولف أيخمان كان واحداً منها. لكن الكثير من نجاحات إسرائيل المفترضة كان جزءاً من الكذب والمبالغة التي برع فيها العدوّ. روايات خيال موسادي لا أساس له من الصحة تستطيع أن تأخذ قصة الجاسوس السوري إيلي كوهين. كم بالغت الروايات الغربيّة في أهميّة هذا الرجل. بعض الكتب الصهيونيّة (ومنها ما تحوّل إلى أفلام سينمائيّة وتلفزيونيّة مضجرة) ذهبت إلى حدّ الزعم أن كوهين كان مرشحاً لتوليّ رئاسة الوزراء في سوريا. ومسألة علاقة كوهين بالرئيس السوري الأسبق، أمين الحافظ، ألّفها خصوم الحافظ أو هي إسرائيل، أو الاثنان، وذلك إما لإلصاق صفة مشينة بالحافظ، أو لترفيع موقع كوهين في المجتمع السوري (من المعلوم أن قصّة معرفة الحافظ بكوهين في الأرجنتين كاذبة، وتاريخ خدمة الحافظ هناك يدحض الرواية). إن أحمد السويداني استطاع كشف تجسّس كوهين رغم التفوّق النوعي الذي كانت تتمتّع به إسرائيل مقارنة بسوريا (ربما كان هذا التفوّق العسكري قد ازداد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي). لكن كتب التاريخ (العربي والغربي) تذكر «إنجاز» كوهين ولا تذكر إنجاز السويداني.
وزادت الدعاية الصهيونيّة في مبالغتها في قصّة كوهين إلى درجة أنها أرادت إقناع العرب بأن نجاحها في هزيمتهم يعود إلى خطط سريّة قدّمها كوهين إلى الموساد. هنا أيضاً نقع في حبائل الأكاذيب الصهيونيّة، فالهزيمة تعود إلى تقصير الأنظمة العربيّة وغبائها (بالإضافة إلى الدور المشبوه كالعادة للنظام الهاشمي في الأردن) لا إلى عبقريّة إسرائيليّة. وما هي الخطط العسكريّة العربيّة السريّة التي استفادت منها إسرائيل، فيما لم يكن هناك خطط سريّة تُذكر؟ ثم ما نفع الخطط السريّة عندما قررت الأنظمة العربيّة أن تؤخذ على حين غرّة؟ وفي المحطّات الرئيسيّة للصراع بين العرب وإسرائيل ينكشف مدى قصور أجهزة الاستخبارات الإسرائيليّة. نستطيع أن نقارن بين العلم الاستخباري العربي في 1967 عندما بادرت إسرائيل إلى شنّ الحرب، وبين 1973 عندما بادر العرب (متأخّرين جدّاً) إلى شن الحرب. نقول إن عبد الناصر حدّد بدقّة تكاد تصل إلى تعيين اليوم، موعد شنّ إسرائيل الحرب بناءً على معلومات استخبارية وعلى تحليلات وصلته. (طبعاً، بدّد النظام في مصر مصدر القوة هذا وتمنّع، تصديقاً منه لوعود أميركيّة بأن واشنطن ستعاقب من سيبادر إلى شنّ الحرب، وفوّت فرصة فريدة لضرب إسرائيل)، فيما لم تكن إسرائيل تعلم بموعد شن الحرب في 1973 ولا بالحدث كله. ولم يكن لديها أي مصدر استخباري عربي لينبئها بموعد الحرب، ما عدا صديق الصهيونيّة المطيع، الحسين الهاشمي الذي استقلّ طائرة هليكوبتر على عجل ليخبر غولدا مئير أنه اشتمّ شيئاً ما (يذكر نيل أشتون في كتابه عن الملك حسين أن المصدر كان ضابطاً في الجيش السوري)، لكن الحكومة الإسرائيليّة ـــــ لحسن الحظّ ـــــ لم تصدقه أو لم تحمله على محمل الجدّ.
أكثر ما يظهر فشل الموساد وغباؤه في عملية ملاحقة «أيلول الأسود»
مع أن الحكومة الإسرائيليّة تتمتّع برصيد استخباري هائل يكمن في الجاليات اليهوديّة حول العالم، وفي داخل العالم العربي حتى السبعينيات. وعندما جنّدت الاستخبارات الإسرائيليّة في الخمسينيات فريقاً من اليهود المصريّين للقيام بتفجيرات تهدف إلى تخريب العلاقات المصريّة ـــــ الأميركيّة، سارعت الاستخبارات المصريّة إلى كشف الشبكة وفضح الخطّة عام 1954. طبعاً، لجأت حكومة العدو التي لا تتورّع عن الاستغلال الرخيص للمحرقة وضحاياها لأغراض سياسيّة، إلى الصراخ بأعلى الصوت، متهمة الحكومة المصريّة وجمال عبد الناصر بمعاداة اليهود والتنكيل بهم، مع أن عبد الناصر خلافاً للكثير من الزعماء العرب لم يكن يستعمل لغة معادية لليهود كيهود (لم تجد الدعاية الصهيونيّة إلا مقابلة يتيمة أجراها صحافي هندي مع عبد الناصر، جاء فيها كلام مهين لليهود كيهود). طبعاً، تحوّلت قضيّة شبكة اليهود المصريّين إلى فضيحة لافون الشهيرة. لو كان الليبراليّون العرب من شلّة خالد بن سلطان ومقرن بن عبد العزيز صادحين يومها، لشنّعوا بالنظام المصري وأتهموه بمعاداة اليهوديّة، ولطالبوا بإطلاق المعتقلين اليهود.
لكن في المقابل، أدّى ترحيل أو رحيل اليهود العرب من البلاد العربيّة (التي أسهمت إسرائيل في تهجيرهم من خلال الدعاية أو حتى الإرهاب كما حدث في «عمليّة بابل» السريّة في العراق) إلى فقدان الاستخبارات الإسرائيليّة لعناصر تطويع سهل نتيجة التعاطف أو التعصّب الذي يكنّه معظم اليهود ـــــ لا كلّهم ـــــ لدولة الكيان الغاصب على أرض فلسطين. لبنان كان قضيّة أخرى تماماً لأن فريقاً من اللبنانيّين الفينيقيّين أقنع نفسه بأنه أوروبي وسهل هذا اعتناقهم الصهيونيّة، وخصوصاً أن فريقاً في الكنيسة المارونيّة اعتنق الصهيونيّة مبكّراً. تعود إلى الستينيات لترى استسهال إسرائيل القيام بعمليّات تفجير واغتيالات في لبنان تجاه مقاومين لبنانيّين وفلسطينيّين. كذلك فإن عقيدة الجيش اللبناني قبل الحرب اللبنانيّة أبعدت لبنان عن أي التزام بالقضيّة الفلسطينيّة (وقد وضع أسس هذه العقيدة المقيتة فؤاد شهاب الذي يستحق منزله أن يتحوّل إلى مطعم ومرقص وملهى بسبب خذلانه لقضيّة فلسطين منذ 1948 وبسبب استخدامه للمكتب الثاني في سبيل التسلط داخل المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان).
لم تخترق الاستخبارات الإسرائيلية الأنظمة العربيّة، وفاتها الكثير من الأسرار في مرحلة الصراع الجدّي بين العرب وإسرائيل، الذي انتهى على الصعيد الرسمي عندما وطئت قدما السادات أرض فلسطين الغالية. الاختراق الحقيقي الذي حققته الاستخبارات الإسرائيليّة كان في صفوف المنظمات الفلسطيّنية، وخصوصاً تلك التي كانت تعتمد على الارتزاق لا على العقيدة. كانت الاستخبارات الإسرائيليّة، ولا تزال، تجد صعوبة بالغة في اختراق المنظمات العقائديّة مثل الحزب الشيوعي اللبناني أو الجبهة الشعبيّة أو حزب الله أو حماس أو الجبهة الديموقراطيّة، حتى لو نجحت في تجنيد عميل هنا أو هناك. ويعترف هاني الحسن في كتاب هليلينا كوبان عن منظمة التحرير الفلسطينيّة بأن قيادة المنظمة وجدت صعوبة بالغة في غربلة المتقدمين بطلبات انتساب إلى صفوف المنظمات الفلسطينيّة، لأن الأعداد ـــــ بعد مواجهة الكرامة في الأردن ـــــ كانت بعشرات الآلاف. كذلك، إن إسرائيل كانت دائماً ترمي عبر الحدود بعدد من الفلسطينيّين الذين تزعم أنهم مساجين. من يدري كم سرّبت إسرائيل بينهم من عملاء؟ ويلاحظ المرء أن أبشع رموز السلطة الأمنيّة الدحلانيّة في رام الله كانوا في عداد «المساجين» في إسرائيل.
وتستطيع أن تتبيّن فشل الموساد وغبائه في أكثر عملياته شهرة، أي في ملاحقة «أيلول الأسود». لم تعلم إسرائيل، ربما حتى طلع أبو داود بمذكّراته، أن أبو أياد كان القائد الفعلي. لم تعلم إسرائيل أن أبو حسن سلامة كان يزهو ويتبجّح. قتلت إسرائيل الكثيرين في ملاحقتها لأيلول الأسود وفيهم كثيرون ممن لم يكن له أي علاقة: مثل النادل المغربي أحمد بوشيكي، الذي قتله الموساد في النروج أمام زوجته الحامل عام 1973 لأنه ظن أنه سلامة (مثلما خطف المواطن حسن نصر الله من بعلبك عام 2006 ظناً من الموساد أن هناك حسن نصر الله واحداً).
الحرب اللبنانيّة فتحت أبواب لبنان أمام إسرائيل، لتقتل وتجنّد وتقيم تحالفات مع أحزاب أساسيّة في لبنان. تنافس بعض اللبنانيّين (واللبنانيّات حتى لا ننسى تلك السيّدة التي لم تُعاقب بعد لإعدادها أطعمة لأرييل شارون) على التعامل مع الاحتلال الإسرائيلي. لكن مقاومة إسرائيل أنشأت ثقافة جديدة (أو أعادت الروح إلى ثقافة رفض إسرائيل التي سادت بعد 1948)، كذلك فإن حزب الله تعلّم من تجربة منظمة التحرير الفاشلة (عرفاتيّاً) في مواجهة إسرائيل، ولجأ إلى العمل السرّي. حاول أبو إياد وغيره من القادة الحفاظ على السريّة، لكن قادة آخرين من شاكلة أبو الزعيم (وحتى أبو حسن سلامة) ضعفوا أمام الأضواء. غير أن التفوّق العسكري الإسرائيلي كان يعود في حقيقته إلى الضعف السياسي العربي والالتزام الأميركي المطلق منذ 1967 بحق إسرائيل في العدوان المطلق، بالإضافة إلى إيلاء الأنظمة العربيّة الأهميّة القصوى للحفاظ على العرش، لا للدفاع عن الحدود أو لتحرير الأرض المحتلّة. لكن الأنظمة العربيّة بالغت هي أيضاً في الترويج لنظريّة عبقريّة الموساد ومهارته. أرادت أن تُشعر الشعب العربي بالعجز الشديد ليسهل تطويعه، ولتسهل عمليّة التخلّي عن قضيّة شعب فلسطين برمّتها. لا شك في أن الأنظمة العربيّة أرادت أن تسهم في تعظيم القدرة الاستخباريّة الإسرائيليّة لتقول لشعوبها: لا حول لنا ولا قوة.
لكن هناك عاملاً آخر يبرز أكثر ما يبرز في لبنان. نجحت الدعاية الصهيونيّة، المُباشرة والمُداورة، في تبخيس وعدم تصديق أي إعلان عن كشف شبكات تجسّس إسرائيلي. ما إن يهم الواحد بلفت النظر إلى مخطّط إسرائيلي مزروع أو إلى ملاحظة التطابق التام بين بعض المطالب في بلد عربي ـــــ لنقل لبنان، لسبب واضح ـــــ ومطالب إسرائيل داخل ذلك البلد حتى يُقال (من أدعياء السلام مع إسرائيل أو من أدعياء النضال بالرخاء ضد إسرائيل ـــــ كما نادت نايلة تويني) إن التخوين ممنوع. وإذا كان التخوين ممنوعاً، فالاستنتاج أن تسويق إسرائيل يصبح مسموحاً ومباحاً كما هو حاصل في لبنان حيث يتخفّى بعض أوثق حلفاء إسرائيل التاريخيّين وراء شعار «لبنان آخر دولة توقّع اتفاق سلام مع إسرائيل». هذا لا يعني أن الأنظمة العربيّة، بما فيها النظام اللبناني في عهد لحّود عندما رتّب رستم غزالة (الذي ينتظر دعوة قريبة لحضور اجتماعات الأمانة العامّة لـ14 آذار لإعادة وصل ما انقطع مع أصدقاء الأمس) أمر اتهام تحسين خيّاط بالعمالة لإسرائيل فقط لأن «نيو تي في» تجرّأ في زمن جبُنت فيه الشاشات الأخرى. والأنظمة البعثيّة وتنظيمات الاستخبارات العربيّة في منظمة التحرير هي أيضاً استسهلت تهم العمالة لإسرائيل، وهذا الاستسهال يؤدّي في النهاية إلى إمرار العمالة لإسرائيل لأن الاتهام الباطل يستوي مع الاتهام ذي الصدقيّة والقرائن في ذهن العامّة. بناءً على ذلك، يصبح كل اتهام باطلاً، ما يدع الموساد يسرح ويمرح في الشوارع العربيّة. لكن الأنظمة العربيّة لا تمانع في استسهال الدخول الإسرائيلي إلى الشوارع العربيّة، وخصوصاً إذا كان هذا الدخول ضد أعداء مشتركين.
ومسألة غضب الملك حسين (أو «خسين»، كما يسميه شمعون بيريز) من الحكومة الإسرائيليّة بعد تعثّر محاولة اغتيال خالد مشعل في عمّان كانت بسبب انفضاح العمليّة، لا بسبب حدوثها، وخصوصاً أن النظام في الأردن كان متعاوناً لعقود مع الموساد ضد الخطر الفلسطيني المُشترك. والنظام المغربي تعاون مع الموساد لعقود أيضاً، والحرب السعوديّة في اليمن (الأولى والثانية، على الأرجح) استفادت من تعاون إسرائيلي. ومن المرجح جدّاً أن يكون نظام جمال وعلاء مبارك يتلقّى معونات موساديّة، فيما هو يقوم بما يُطلب منه في الحدود مع رفح.
احتقار العنصر العربي يساعد العربي وأكبر دليل هزيمة إسرائيل في حرب 1973
صمتت الأنظمة العربيّة إثر اغتيال المبحوح في دبيّ. وقائد شرطة دبي الكفوء بدا كأنه الحاكم الفعلي لأن رئيس الدولة وحاكم دبي تمنّعا عن التعليق، ربّما لعدم إحراج إسرائيل، وخصوصاً أن أولاد زايد ينافسون النظام الأردني في التقرّب من إسرائيل. وقد يفقد قائد شرطة دبيّ وظيفته لقيامه بواجب الوظيفة على أكمل وجه. التغلغل الموسادي ما كان يجب أن يظهر للعلن. لكن الإحراج الأكبر أصاب إسرائيل. هذه هي المنظمة التي تباهي بنجاحاتها الحقيقية والمُختلقة تظهر مثل ما كانت تظهر به الاستخبارات العربيّة في حقبتها البدائيّة. من كان يتوقّع من شرطة دبيّ أن تنشر أمام الإعلام العالمي صوراً وأشرطة فيديو لعملاء الموساد وهم يتجوّلون ويتنكّرون ويتعقبّون. يمكن عزو الفشل الموسادي في جانب منه إلى العنصريّة الكامنة في الصهيونيّة. إن احتقار العنصر العربي يُساعد العربي، والاستهانة بالقدرات العربيّة ساعدت العرب في حرب 1973 (التي نجح السادات في تحويلها من فوز مظفّر إلى هزيمة للعرب) كما ساعدها في حرب تمّوز التي خيّب حزب الله في نجاحه فيها آمال فريق «الأمير مقرن أولاً». واضح أن الحكومة الإسرائيلية تعاملت مع أجهزة الأمن في دبيّ باحتقار شديد، ما ساعد في افتضاح أمرها. كذلك فإن عملاء لم يحاولوا الاختفاء فيما هم يتجوّلون ويتعقّبون ضحيّتهم. كادوا يضحكون أمام الكاميرا ويلوّحون لعائلاتهم في الكيان الغاصب. انكشف أمرهم.
هناك من سيقول إن الموساد نجح في اغتيال ضحيّته، وهذا صحيح. كل ضحيّة تسقط برصاص العدو أو سمه أو يده يجب أن تسجّل على دفاتر كما نصح شاعر فلسطيني. لكن الموساد خسر العملاء ـــــ القتلة الذين نشر قائد شرطة دبيّ صورهم حول العالم. وهناك في الإعلام العربيّ من لم يستطع أن يفوّت الفرصة ليسجّل نقاطاً لإسرائيل. محطّة «العربيّة» تدخّلت بعد أيام لتكرّر في نشرات أخبارها أن «القاتل الفعلي» هو عضو في حماس. نوّهت جريدة «يديعوت أحرونوت» بانبهار «الشرق الأوسط» باغتيال الموساد، كذلك فإن مصطفى العاني (الخبير «الاستراتيجي» المفضّل في إعلام آل سعود وآل نهيان) حاول في كلام في جريدة النيو يورك تايمز (أو في ما اختارت الجريدة المذكورة أن تعزو له من كلام) أن يفسّر وأن يهوّن من الفشل والفضيحة الإسرائيليّة. الصحافة العبريّة، كعادتها، تستكين في الأمور الاستخباريّة ولا تنشر إلا ما يليق بالمصلحة الدعائيّة لاستخبارات العدوّ. وأبواق الموساد في الإعلام الغربي، مثل إيان بلاك في «الغارديان»، يجهدون في اختلاق أعذار الفشل وفي التغطية وبث الحرب النفسيّة. هناك اختار العدوّ أن يلفّق تشنيعة اعتقال دمشق لمسؤول في حماس زعم (أو كذب) بلاك أنه مسؤول عن الاغتيال. مهما قالوا، العدوّ في ورطة.
يكفي أن تقول إنه في عام 2010 تغلّبت الشرطة اللبنانيّة (التي درج الجاسوس فيلبي على السخرية منها على مرّ السنين) وشرطة دبيّ على الموساد. (هناك مصدر «عليم جدّاً» في بيروت أخبرني أن واحداً من أجهزة الاستخبارات اللبنانيّة وقعت بالصدفة على شبكة تجسّس على حزب الله، عندما كانت هي تقوم بالتجسّس على حزب الله). ليس بالأمر الهيّن أن لبنان كشف وقبض على أكثر من 80 عميلاً إسرائيليّاً. ساعدنا احتقار العدو لنا، كذلك فإن الهوّة التكنولوجيّة بين المواطن العادي وأجهزة الاستخبارات تضيق (من كان يتوقّع أن المزارع في قرية صغيرة في لبنان يحمل جهاز تليفون يستطيع أن يلتقط صوراً وشرائط فيديو ويستطيع أن يحدّد الموقع عبر القمر الاصطناعي، ويستطيع أن يتراسل عبر الإنترنت ويستطيع أن يفجّر عبوة، لو أراد)، والهوّة بين استخبارات إسرائيل وأجهزة استخبارات الأنظمة العربيّة وحتى استخبارات المقاومة تضيق هي أيضاً. والحافز الأيديولوجي يخفت عند العدوّ حيث هاجر مئات الآلاف من روسيا والاتحاد السوفياتي السابق بهدف الرزق، لا لتحقيق حلم هرتزل: والتراخي الأيديولوجي يظهر في ساحات القتال، فيما يزداد العامل الأيديولوجي شدّة عند فصائل المقاومة الأساسيّة ممن يؤمنون بحتميّة زوال الكيان الغاصب. هذا يختلف مقارنةً بالسقف الذي وضعه عرفات فوق رؤوس المقاومين، السقف الذي ينتهي بعودته لترؤس دويلة ذليلة على ورق غير مقوّى.
لا يمكن أن نتوقّع أن يؤدّي الاغتيال في دبيّ وفضيحة الغباء الموسادي إلى عقاب إسرائيل. هذه دولة لا تُعاقب على جرائم حربها (ماذا حدث بزعم السنيورة وشارل رزق عن نيّة لبنان تقديم شكوى في مجلس الأمن ضد جرائم حرب إسرائيل؟ وكيف لا يكون هذا الأمر المهمّة الأولى للبنان في مجلس الأمن؟ أم أن «العزيز جيف» طالبهم بغضّ النظر لأنه كان من الفريق الذي تبنّى العدوان وأجّج له؟) ومن المستبعد أن تُعاقب على جريمة الاغتيال هذه. لكن صورة الموساد تكسّرت، وهذه خسارة إسرائيليّة استراتيجيّة لا تُعوّض. الحرب النفسيّة عماد للصهيونيّة، ومقاومتها لا تحتاج إلى أسلحة متطوّرة أو إلى طائرات الهزل التي يلوّح بها الياس المرّ. مواجهة الحرب النفسيّة تحتاج إلى ذكاء وعلم وتنبّه. كذلك فإنها تحتاج إلى ثقة بالنفس وإلى عدم التقليل من قدرات العدو، وعدم المبالغة في قدرات العدو.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)