سعد الله مزرعاني *بعد اتفاقية كامب دايفيد عام 1978، حذّر الشاعر المصري المبدع أحمد فؤاد نجم وغنّى الشيخ إمام: «يا خوفي من يوم نصر: ترجع سينا وتروح مصر»!
لخّص ذلك واقعًا واشتقّ له معادلة سياسية ونضالية زادت في سنوات الاعتقال للشاعر وللمغنّي الثائرين، وألهمت أجيالاً من المصريين لمن اعترضوا على نظام أنور السادات وما فرضه على مصر وشعبها من القيود والعهود والعلاقات والارتهانات.
وفي ما يشبه سيناريو أعدّه القدر، أو على الأرجح رتّبت حلقاته واستغلّت أحداثه يد أميركية ماهرة، مثّل اغتيال أنور السادات في حادث المنصّة الشهير عملية ترسيخ وتوكيد لاتفاقية كامب دايفيد، وبوجوه «مقبولة» أكثر ممّا كان عليه السادات. ولقد استمرّ هذا الأمر إلى اليوم مكرّساً معادلة الشاعر والشيخ، حيث إنّه بالفعل، كان ثمن عودة سينا ثم «طابا» (بالتحكيم الدولي) إلى السلطة المصرية (ولا نقول السيادة لأنّ تلك العودة كانت مشروطة) إخراج مصر نهائيًا من الصراع مع العدوّ الصهيوني.
ليس هذا فقط، أي إنّ مصر لم تخرج إلى حياد وإلى ابتعاد، بل انتقلت بالمعاهدة وإملاءاتها وبسياسة سلطتها والتزاماتها، إلى موقع الحليف لإسرائيل. حصل ذلك مداورة في البداية، ومباشرة، لاحقًا، وعلى نحو متصاعد ومتفاقم دائمًا، كما هو الأمر عليه اليوم في آخر الأمثلة، وهو التصدّي لمنع قافلة «شريان الحياة» المتوجّهة إلى «غزة» لتقديم المساعدات البسيطة لشعبها المحاصر حتى الموت وقمعها. وكانت السلطات المصرية قبيل ذلك قد باشرت في بناء جدار فولاذي، مكمّل في الواقع لجدار الفصل والقتل والخنق الإسرائيلي الذي يشتّت الضفة الغربية ويبدّد معالم الدولة الفلسطينية الموعودة وعناصرها.
إنّ الانخراط الرسمي المصري في المخطّط الأميركي ــــ الصهيوني، قد فاق كلّ التصوّرات والتقديرات. وفي امتداد صراع ضار على السلطة في بلاد النيل، تحوّل الالتزام الرسمي إلى خيار وجود، موت أو حياة، وهذا أخطر ما في المعادلة التي حذّر منها نجم وإمام قبل حوالى ثلاثين عامًا!
نعم، لقد بات بقاء النظام المصري المثقل والمرهق أيضًا برغبة التوريث مع الأثمان الإضافية التي تتطلّبها أميركيًا وإسرائيليًا، مشروطًا بتبنّي كامل السياسات الأميركية والإسرائيلية.
وليس من قبيل الصدفة أنّ بنيامين نتنياهو قد سارع فور انتخابه رئيسًا لحكومة إسرائيل، إلى كشف حقيقة العلاقة مع نظام مبارك، حين جاهر بحلف بين الطرفين لمواجهة الخطر الشيعي الفارسي الإيراني... لقد كان يشير في الواقع إلى حلف قوى «الاعتدال العربي» الذي تبلور في السنوات القليلة الماضية وبرعاية وتشجيع مباشرين من الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش. فمنذ لقاءات العقبة برئاسة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون في أواسط التسعينيات، إلى لقاءات شرم الشيخ وسواها برئاسة جورج بوش الابن، تبلور الحلف الأميركي ــــ الإسرائيلي ــــ الرسمي العربي الذي كانت القاهرة أحد أعمدته الرئيسية على المستويين الإقليمي والعربي.
الانخراط الرسمي المصري في المخطّط الأميركي الصهيوني، فاق كلّ التصوّرات والتقديرات
لقد أُعيد تنشيط هذا الحلف وتعزيزه في مرحلة اندفاعة مشروع «الشرق الأوسط الكبير» الأميركي بدءًا بغزو العراق في ربيع عام 2005. ونتذكّر في مجرى ذلك الدورين السعودي والمصري حتى في تبرير العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز عام 2006، وفي محاولة عزل سوريا وتطويعها بعدما تعذّر إسقاط نظامها بالضغوط وبالتهديدات الأميركية، وأيضًا بالمناوشات عبر الفريق اللبناني الشريك في محور «الاعتدال» العربي. لكنّ الأمور لم تجرِ كما تشتهي الرياح الأميركية، لا في العراق ولا في أفغانستان ولا في السودان ولا حتى على المستوى الفلسطيني، ومن ثمّ اللبناني. وبسبب التعثّر الأميركي حصلت الانحناءة السعودية في السعي نحو التهدئة وفي المصالحات تداركًا لانعكاسات الإخفاقات الأميركية على الداخل السعودي نفسه...
إلا أنّ القاهرة واظبت على السياسات نفسها: من إيران إلى فلسطين إلى سوريا... ولقد لمسنا هنا في لبنان، التحفّظات المصرية المتعدّدة على التحوّلات والمتغيّرات التي كرّست توازنًا جديدًا على مستوى السلطة لم يعد فيه للسفير الأميركي أفضلية قول الكلمة الفصل في السياسة الرسمية اللبنانية، وخصوصًا الشق الخارجي منها.
هذا يؤكّد أيضًا أنّ النظام المصري قد كبّل نفسه فضلاً عن شروط اتفاقية كامب دايفيد، بشروط الاحتفاظ بالسلطة ومن ثمّ بشروط التوريث لجمال مبارك في مواجهة تنامي قوة المعارضة المصرية من جهة. والرفض الشعبي المصري العام لسياسة مبارك ولوريثه خاصة.
من هنا تنبع شراسة النظام المصري في القيام بالمهمات الصعبة أي الأكثر إحراجًا له، لأنّها الأسوأ والأقذر بالمقاييس القومية والوطنية، وخصوصًا عندما يتعلق الأمر بالتواطؤ مع الصهاينة وأسيادهم على نضال الشعب الفلسطيني وحقوقه الممنوع من نيل الحدّ الأدنى من حقوقه في أرض ووطن وكيان سياسي. ويستغلّ نظام مبارك عوامل الضعف العربي وغياب التضامن مع الشعب الفلسطيني. وهو يستقوي ضمنًا بدعم وتواطؤ من شركائه في «حلف الاعتدال». كما يستغلّ الانقسام الفلسطيني ويسعى إلى تغذيته ولو تظاهر بدعم المصالحة بين حركتي «فتح» و«حماس». فهو يدعم حصريًا ذلك النوع من المصالحة الذي يؤدّي إلى لجم المقاومة وإلى إغراق الطرف الفلسطيني في مفاوضات لا آخر لها ولا ثمرة، فيما الجانب الصهيوني يواصل تبديد ما بقي من المقوّمات الجغرافية والسياسية والاقتصادية والأمنية لقيام الدولة الفلسطينية الموعودة وتصفيته.
شراسة النظام المصري هي الثمرة الطبيعية لجملة اختلالات في الوضع المصري والعربي والدولي، منذ تراجع حضور ودور حركة التحرّر العربية التي ما توافر لها يومًا تكامل عناصر النضال وشروطه في مستويات الشعار والممارسة والعلاقات وما سواها. حتى في مرحلة الذروة، أي في مرحلة بزوغ الناصرية وبروز القائد الراحل جمال عبد الناصر عملاقًا تحرّريًا تخطّى تأثيره الإقليم إلى كلّ العالم، تكشف المشروع التحرّري عن اختلالات عميقة لم تجعل الناصرية تمضي في إنجازاتها إلى مستوى المواجهة، ولم تمكّنها من البقاء بعد غياب المؤسّس والرمز.
إنّها مرحلة تاريخية لا يمكن فيها إحلال الرغبات الذاتية محلّ الوقائع الموضوعية، والوضع العربي على قدر شديد من التعقيد. ويقع في سياق ذلك أنّ القوى التحرّرية لم تستفد من تجاربها. وجناحها المهيّأ أكثر من سواه للإمساك بالدفّة وقيادة السفينة نحو شاطئ الأمان، سقط ولم ينهض بعد. لكنّ الآفاق، أو بعضها، ما زال مفتوحًا. في القاهرة نفسها تبرز استعدادات شعبية هائلة محورها شأنان: أوّلهما قوميّ تحرّري عبّر عن نفسه مرارًا وتكرارًا برفض التطبيع مع العدو وبالتضامن مع كلّ حركات المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق... وثانيهما اجتماعي يتمثّل في الحركة الواسعة التي تنتشر في مصانع مصر وأحيائها الشعبية احتجاجًا على تردّي الأوضاع المعيشية والخدماتية وعلى الفقر والبطالة والبطر والاستغلال...
لقد تنبّه الوطنيون المصريون لهذين البعدين اللذين كان أضاف إليهما أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام مسألة الحريات السياسية حتى في الحقبة الناصرية. وهذه الأبعاد الثلاثة: التحرّري الوطني والقومي والاجتماعي الاقتصادي والسياسي، هي اليوم ما يتوقع أن يؤحّد حركة المعارضة المصرية بقواها المتضرّرة كلها، في عمل تاريخي يجعل الشعب المصري شريكًا، أيضًا، في تقرير مصيره، لا «لجنة السياسات» فيه فحسب، ولا حتمًا قوى العدوان والهيمنة الخارجية الأميركية والصهيونية.
إنّها، كما يتأكد تكرارًا، معركة تحرّرية عربية شاملة وليست معركة الفلسطينيين أو المصريين وحدهم!
* كاتب وسياسي لبناني