إيلي شلهوببداية عام جديد تبدو مؤشراته الأولية لا تبشّر بالخير، وإن كان الظاهر منها حراكاً دبلوماسيّاً مكثّفاً غاياته المعلنة سلمية الطابع. حراك دبلوماسي محوره مصري ـــــ سعودي يستهدف، على ما يبدو، إبرام تسوية في اليمن تعيد الهدوء إلى الحدود مع السعودية، وتحفظ هذا البلد من خطر التفتت، وتعيد إحياء عملية السلام من سباتها، وإحقاق المصالحة الفلسطينية التي لفظت أنفاسها أكثر من مرّة.
الاستنفار العربي حيال الملف اليمني لا شك في أن مبرّراته كثيرة، لعل أهمها انكشاف مدى تغلغل «القاعدة» وإخوته في ثنايا قبائل اليمن، ملاذه الأخير بعد باكستان والعراق وأفغانستان، يضاف إليه تمرّد حوثي طال السعودية، وحركة انفصالية جنوبية لن تتورّع عن استخدام العنف والتحالف مع الشيطان لتحقيق مبتغاها، كل ذلك في ظل نظام تزداد عزلته يوماً بعد يوم بعدما انضم إلى العائلات الرئاسية العربية التي لا همّ لها سوى توريث السلطة.
استنفار ما كان ليأخذ هذا الطابع لولا التحفيز الأميركي، الذي انصبّ في معظمه على توفير الأرضية المناسبة لاستئناف المفاوضات الإسرائيلية ـــــ الفلسطينية. هنا تبدو الأمور مختلفة بعض الشيء. صحيح أن الأطراف المعنيين بهذا الملف كلهم لهم مصلحة في استئناف المباحثات:
- الإدارة الأميركية التي وضعت العملية السلمية في مقدّمة أولوياتها، وهي تراهن على إنجازات توفّر لها مقومات العمل على إعادة احتواء العالم الإسلامي، وتساعدها في حروبها المعلنة في أفغانستان والعراق، وغير المباشرة مع إيران. بل هي تنظر إلى المباحثات على أنها إنجاز بمجرد انعقادها على قاعدة أنها البديل من «العنف»، وتمثّل دينامية لا بد من أن تؤدي إلى تسوية من نوع ما في نهاية المطاف.
- وهناك السلطة الفلسطينية، التي باتت تستمد وجودها واستمراريتها من التفاوض (ولو كان من أجل التفاوض)، بعدما أسقطت الخيارات الأخرى، ووضعت بيضها كله في سلة ما يعرف بـ«مسار السلام».
- كذلك الأمر بالنسبة إلى حكومة نتنياهو، التي وإن كانت معادية لعملية السلام، إلّا أنها لا ترى ضرراً من استئناف المباحثات، ما دام ذلك يجري بشروطها، ويعيد مدّ الجسور بينها وبين إدارة أوباما بعد أشهر من التوتر.
- ولا ننسى طبعاً زعماء الاعتدال العربي المهرولين نحو تل أبيب، بدايةً للاستفادة من خيرات عصر الهيمنة الأميركي، ومن ثم نكايةً بإمبراطورية الفرس.
لكن سياق الأحداث يحمل في طياته مصادفات مريبة، في مقدمتها التوقيت: مع وصول المفاوضات مع طهران إلى طريق مسدود، بعدما تبيّن بطريقة لا لبس فيها أنها لن تقبل أبداً العرض الغربي للتخصيب في الخارج، بما يضمن عرقلة برنامجها النووي عاماً على الأقل.
وطريقة الإخراج: تسريبات إسرائيلية عن خطة سلام أميركية، سرعان ما أُرفقت برؤية مصرية المصدر، سعودية التسويق، عربية الرعاية، لضمانات تنتظر مباركة العم سام لها. علماً بأن البعد العربي لهذه العملية في مقدمة تبريراته توفير الغطاء لأبو مازن، لكي يتمكن من لحس تهوّره بالتعهد بعدم الجلوس إلى طاولة التفاوض ما لم يكن هناك تجميد كامل للنشاط الاستيطاني يشمل القدس المحتلة.
والآلية: العودة إلى نهج «تعدد المراحل» الذي كرّسته أوسلو وخريطة الطريق، بعدما حاول مؤتمر أنابوليس نسفه مع ما حمله من قفز إلى مفاوضات الوضع النهائي دفعة واحدة (للتذكير فقط، مضى على أوسلو 17 عاماً، والتفاوض لا يزال على المفردات الأولية التي يحتاج كل منها إلى مسار تفاوضي مستقل للاتفاق على مضمونها).
وأخيراً هناك ملف المصالحة الفلسطينية، الذي أفاقه ملك السعودية من حال الموت السريري التي كان فيها، مع استقباله العلني لخالد مشعل، الذي بشّر أمة العرب والمسلمين بإنهاء وشيك لحال الانقسام.
مهما يكن من أمر، فإن الحراك المصري السعودي كشف عن وجهه باكراًً هذه المرة، بما يوضح مآلاته المزعومة:
- القاهرة ببناء الجدار الفولاذي (الذي دافع عنه أبو مازن) وبطريقة تعاملها مع «شريان الحياة 3» والاعتداء على المتطوعين فيها بالضرب والاعتقال. هي الرسالة «المباركة» نفسها: كل من ينضوي تحت لواء المقاومة أو يدعمها مصيره الجوع والبرد والتشرد والضرب والاعتقال، بل الموت من قلة الحياة أو من غياب العلاج والدواء.
- الرياض بذاك السؤال المفصلي الذي طرحته على مشعل: هل أنت، ومعك حركة «حماس»، مع العرب أم مع إيران؟
وفي هذه الأخيرة بيت القصيد دائماً أبداً. لا تزال واشنطن عالقة ضمن معادلة أن ضرب الجمهورية الإسلامية وعدم مواجهتها خياران نتيجتهما كارثية. هي لا شك تستعد للخيار الأول، وتبحث في الوقت نفسه عن مبررات تقنع من خلالها نفسها بجدوى المضي في الخيار الدبلوماسي. آخرها تقول إن العقوبات، التي لم تنفع يوماً في مواجهة طهران، يمكن أن تكون أكثر نجاعةً مع نزول المعارضة الإيرانية إلى الشارع وصمودها فيه، وبالتالي لا بد من وجبة جديدة يأمل المنظرون لها أن تؤدي إلى إقناع الملالي بأن كلفة البرنامج النووي (انهيار النظام) أكبر بكثير من منافعه.
صدق من قال «الحمد لله الذي جعل أعداءنا من الحمقى».