نهلة الشّهالبات عنوان الخطة الأميركية لحل المسألة الفلسطينية هو «رؤية الغابة». فقد اقترحت السيدة هيلاري كلينتون ذلك، داعية إلى الكف عن «النظر إلى أسفل وتأمّل الأشجار». وهو المخرج من ورطة المطالبة بتجميد المستوطنات الذي انتهت إليه أخيراً الدبلوماسية الأميركية. هكذا نفهم أن المستوطنات هي الأشجار والاتفاق على ترسيم الحدود هو الغابة. بل استرسلت الوزيرة الأميركية في الإيحاء إلى الصور المعبّرة واستحضارها، فأملت أن تلك الحركة من الرأس ارتفاعاً نحو الأفق، ستسبّب انطلاق لعبة الدومينو الشهيرة، فتكرّ الأحجار وتتموضع بلا عناء حيث ينبغي لها. وشجّعها على ذلك «نظيرها»، وزير الخارجية الأردني، الذي جاء يستلهم آراء واشنطن، كما فعل قبله وزير الخارجية المصري ومدير استخبارات أمّ الدنيا.
تخلّت واشنطن إذاً عن الضغط على إسرائيل لتجميد الاستيطان، بعدما فشلت في انتزاع موافقة نتنياهو على أي صيغة من صيغه. ومن المدهش حقاً أنه، بالتلازم مع هذا التطوّر، هدّد المبعوث الأميركي، السيّد ميتشل، بتهديد (التكرار ليس خطأً مطبعيّاً) تل أبيب بقطع المساعدات الأميركية عنها. أما الدلالة، فليست سوى أنه لن يحتاج إلى وضع التهديد موضع التطبيق! فقد طوّرت واشنطن، بناءً على ذلك الفشل، إطاراً استراتيجياً يتألّف من ثلاث نقاط، هي «لا شروط مسبقة، واعتراف بحدود 1967 مع تبادل أراض، واعتراف بيهودية إسرائيل». ومن المرجّح أن يتبع اجتماع الرباعية هذا الأسبوع في بروكسل التوجّه «الجديد»، وأن تبدأ حفلة تحركات نشطة لاستئناف المفاوضات «على هذا الأساس»! وفي واقع الأمر، فالمسألة الفلسطينية باتت تُضجر هؤلاء السادة، وجلّ همّهم هو ضبطها في إطار ما، وتركها تعيش حياتها هناك إلى أن يحدث ما يسمح بسوى ذلك. وهو ما يناسب تماماً إسرائيل المهيّأة للخوض في مفاوضات دائريّة إلى ما شاء الله. بينما تحوِّل هذه الدينامية السلطة الفلسطينية، الممعنة أكثر فأكثر في الغرق في حلقة مفرغة من انتظار «الحل» ورجاء حصوله، إلى شريك موضوعي في تحقيق المصلحة الإسرائيلية، سواء كانت تريد ذلك أو تكرهه.
الحركة بين العواصم العربية وواشنطن تبدو محمومة. والهمس والتلميح أعلى من التصريح، وهذا ما يزيد في الإثارة. لن يجدي نقاش تلك النقاط الثلاث والتعب في البرهان على ظلمها للفلسطينيّين، وعلى تحقيقها للمطالب الإسرائيليّة. لن يجدي لسببين: أولهما أن تلك النقاط ليست موضوعة كي تؤدّي إلى نهاية، وأنها ليست بالتالي حلاً وراء الباب، مهما كان مجحفاً. وليس من المبالغة القول إن إسرائيل لا تريد اليوم أي حل يُثبِّت واقعاً ما، حتى لو كان لمصلحتها. فهي تنتظر تطورات تأمل أنها ستقع في المنطقة (كأن تغور إيران، أو يُدمَّر حزب الله، أو تُكسب سوريا أو تغور هي الأخرى، وكأن يصل الإنهاك الفلسطيني إلى قاع جديد أكثر عمقاً...). وإن لم تحدث تلك الكوارث، فهي تثق بقدرتها على تسجيل مزيد من المكاسب غداً أو بعد غد، نتيجة الخط الانحداري الذي يحكم مسار الوضعين العربي والفلسطيني.
أما ثاني السببين، فهو أن الفضح لم يعد مفيداً ولا كافياً، فهو مجرد تقرير للواقع. أكثر من ذلك، بات الفضح يؤدّي دوراً سلبياً في تعزيز الإحباط العام! فما يترك الملعب شبه طليق أمام الأميركيين، هو عجز القوى المناهضة لواشنطن عن تحويل وجودها (وهو بحد ذاته معطى هام)، وقوتها الفعلية، إلى برامج بالمعنى الإيجابي للكلمة. وهي لا تفعل. وربما يعيبها ويحول دون ذلك عطب تكويني. فهي تكتفي بالمراوحة بين اللفظية الثورية والتمكن من «الممانعة»، أي العرقلة. واليوم، فالانتقال من هذا الموقع المهدَّد تعريفاً، والمكتفي بالحد الأدنى الممكن، إلى موقع إيجابي فاعل، أصبح ضرورياً حتى لا تُستنزف تلك القوى ويُحكَم انغلاقها على نفسها، بينما تسود في الفسحة العامة حالة من الانفكاك عن الموضوع برمته بسبب الضياع، والإحساس بالعجز، والتخوف من خطر وقوع المزيد من التردي.
يعني ذلك في ما يعنيه أموراً عديدة ملحّة يتكوّن منها أي برنامج وطني عام: أولها أن مقاربة الوضع الداخلي الفلسطيني يجب أن تتمحور على غاية رئيسية، وإن كان إنجازها شديد الصعوبة، وهي السعي إلى تعطيل الصراع بين السلطة وحماس. لأنه، من دونه، يتغير تماماً دور السلطة ومكانها من تلك الحركة الدبلوماسية الجارية. ومن دون هذا الصراع، سيحيط الارتباك بالسلطة، وتتكشف طبيعة العروض التي يُلوّح لها بها وأمامها، وسيمكن التفاوض مع قطاعات من الشعب الفلسطيني لاستعادة ثقتها ولتحفيزها نحو الأمل. فما هي آليات تعطيل ذلك الصراع؟ وثانيها أنه بات من المستحيل مقاربة المسألة الفلسطينية بمعزل عن محيطيها العربي والإسلامي، وعن العالم. وهي حقيقة كانت قائمة دوماً، ولكن جرى التغاضي عن مترتباتها، وهي عالم فسيح يفترض تفحصه بعناية. ولكن أول هذه المترتبات هو الإقرار بأن التعامل مع القوى المساندة للحق الفلسطيني، على تنوعها، يجب أن يتم على قاعدة أنهم شركاء في الصراع وليسوا عناصر ديكور، وليسوا ملحقين بلهاء يُفرض عليهم إبداء الدعم والتصفيق، وهو موقف كولونيالي مقلوب! فإذا انطلق النقاش من تلك النقطتين، ومن تمفصلهما مع التصور العام، يكون قد بدأ تلمس المخرج من التصورات الذهنية والمفتقِدة الخيال التي ينتجها الأميركان ويصفّق لها (بعض) العرب.