ناهض حتر* هذا السؤال مركزي، ليس بالنسبة للاقتصاد الأردني وحسب، بل للدولة الأردنية نفسها. فما دامت البلاد بحاجة للمساعدات الخارجية التي ينفقها الوسيط الحكومي، سيكون من العبث البحث في تغيير جوهري في السياسات الخارجية لجهة الدفاع عن المصالح الوطنية الاستراتيجية في مواجهة الخطط الأميركية ــــ الإسرائيلية، أو في السياسات الداخلية لجهة الديموقراطية والاندماج الوطني والتحديث.
وهذا السؤال ليس جديداً. لقد كان مطروحاً دائماً على اقتصاد مموّل من الخارج. لكن الجديد يكمن في أن مصدر المساعدات، منذ 2003، بات محصوراً بالولايات المتحدة، باستثناء هبات سعودية وخليجية موسمية. وهي تمنح الأردن، بالمتوسط، مساعدات تبلغ قيمتها حوالى 700 مليون دولار سنوياً، أي ما يعادل تقريباً قيمة خدمة المديونية العامة المترتبة على الخزينة. إنه وضع يائس يجعل المزيد من الاقتراض الحكومي خياراً إلزامياً. ففي العام المنصرم، بلغ عجز الموازنة، بعد المساعدات، أكثر من ملياري دولار اقتُرضت بشروط تجارية، لترتفع المديونية العامة، عن الرقم الذي كان قائماً الأسبوع الماضي! إلى حوالى 16 مليار دولار. ولا معطيات لخفض عجز الموازنة العامة لسنة 2010 أو تغطيتها من موارد محلية متراجعة بشدّة، ما يجعلنا نتوقع انفلات المديونية العامة عن خط الخطر.
لقد كان الهدف المعلن من الخصخصة، التي تمت بأسرع وأعمق ما يمكن خلال العقد الماضي، وتحرير التجارة والاستثمارات الأجنبية، هو خفض حجم القطاع العام بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي، وتصغير الحكومة، وتجاوز عجز الموازنة، وتوفير فرص العمل لدى القطاع الخاص. إلا أن المفاجأة هي أننا توصّلنا إلى نتائج عكسية: فحجم القطاع العام ازداد، والحكومة تضخمت، وعجز الموازنة تفاقم. وفيما لا تزال نسبة البطالة ترتفع فعلياً عن 15 بالمئة، فإن 43 بالمئة من العاملين الأردنيين المقيمين موظّفون لدى الحكومة!
تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن حجم الإنفاق الحكومي المباشر (عدا غير المباشر وغير المعروف) بلغ في 2009 ما نسبته حوالى 37% من الناتج الإجمالي المحلي، على رغم الإصلاحات الهيكلية التي جرّدت الموازنة العامة من معظم بنود الدعم الاجتماعي، وعلى رأسها دعم المواد الغذائية، وهو ما ينبّهنا إلى ضرورة فضح واقع أن البرنامج النيوليبرالي، كما طُبّق في الأردن ودول عالمثالثية عديدة، مصمّم لتغيير المواقع الطبقية للإنفاق الحكومي لا لتقليص هذا الإنفاق. فبدلاً من البرامج الاجتماعية ودعم السلع الضرورية وزيادة الرواتب، يتجه الإنفاق الحكومي إلى دعم المستثمرين الأجانب ووكلائهم المحليين والفئات المثرية وكادراتها الإدارية المعولمة وإعلامييها. وفي مقابل بيع شركات الاتصالات والمناجم والمطارات والموانئ وسواها من المرافق الإنتاجية والخدمية، يجري إنشاء هيئات إدارية رديفة للوزارات (بحجة التسريع والتحديث وتلافي البيروقراطية وإدارة المناطق الاستثمارية...) وملؤها وسواها من المؤسسات الحكومية، بإداريين معولمين برواتب ضخمة خارج نظام الخدمة المدنية. وسوف تبرر تلك الهيئات نفسها بالمزيد من الإنفاق على «الدراسات» وإطلاق المشاريع غير المجدية والباهظة الكلفة في آن والعلاقات العامة والإعلان.
لندع الفساد جانباً، ولنتحدث عن ماكينة الإنفاق القانونية، المصاحبة بالدعاية، والمصممة لخدمة المستثمرين الأجانب والوكلاء التجاريين. وعلى سبيل المثال، فإن تطوير البنى التحتية لا يتم وفقاً للضرورات الوطنية التنموية، بل لتهيئة المواصلات والخدمات للمشاريع العقارية، بينما التحديث التربوي ينصبّ على تكثيف استيراد الحواسيب وتخزينها في مدارس يعاني طلبتها سوء التغذية، ويختنق معلموها من الفقر!
للأردن احتياجات وميزات استثمارية ممكنة في ظل نموذج تنموي وطني: مشاريع المياه والري، الزراعة المتعددة المواسم، التصنيع الزراعي، الطاقة البديلة، المعادن، تكنولوجيا المعلومات، السياحة البيئية والعلاجية، مع توافر جيش من ذوي الياقات البيضاء المؤهلين في نظام تعليمي تأسس على توفير الكادرات الإدارية والفنية للخليج، وابتعد عن توفير المهارات الحرفية.
لكن هذه الاستثمارات التي تصب في بناء نموذج وطني، أي ينطلق من الاحتياجات والميزات المحلية ويعتمد على الخبرات والعمالة المحلية، وتعقده طبقة وسطى واسعة، لا يمثّل إغراءً للمستثمرين الأجانب الباحثين عن أرباح سريعة ومضمونة وغير معنية، بالتالي، بالشروط الجغراتنموية والاجتماعية والبيئية المحلية. ولذلك، أتت الاستثمارات في حقول محددة هي الاتصالات والمناجم والبنوك والشركات المالية والصناعات التصديرية، القائمة على اتفاقات تفضيل دولية ومدخلات مستوردة، والعقارات والمنتجعات السياحية. وبالفعل، ولّدت هذه الاستثمارات، والاستثمارات الحكومية اللازمة لها في البنى التحتية المرافقة، حوالى ربع مليون فرصة عمل جديدة خلال العقد، تبين أن 80 بالمئة منها شغلتها عمالة وافدة، مصرية وآسيوية، تماماً كما هي الحال في النماذج النفطية الخليجية، بينما كانت البطالة المحلية في صفوف الجامعيين والمؤهلين تتزايد سنة بعد أخرى، مع تزايد الإنفاق على نظام تعليمي انقسم إلى مستويين، أحدهما ارستقراطي، مرتبط عادة بمدارس أجنبية، ويعتمد اللغة الإنكليزية والمناهج الحديثة، ويستخدم وسائل ذات جودة عالية ومدرسين مؤهلين. وهذا المستوى، المرتفع الكلفة، والمجسّر عادة مع جامعات غربية، معدّ لتخريج نخب معولمة، بينما يتكلّس المستوى الحكومي من التعليم الثانوي والجامعي، ويتراجع، ولا يخرّج سوى المتعطلين الباحثين عن وظائف حكومية دنيا. ولتلافي الانفجار الاجتماعي، وتحت الضغوط السياسية المحلية، تُستوعب أقسام من هؤلاء سنوياً في جهاز حكومي متضخم وغير منتج.
بالإضافة إلى ذلك، كان لاتجاهات الاستثمار الأجنبي نتائج كارثية على حاضر الاقتصاد الأردني ومستقبله. فالانتشار العقاري، المكلف من زاوية ما يرافقه من بنى تحتية، استنزف ويستنزف الأراضي الزراعية والمياه. ولم يعد إرواء عمان ممكناً الآن من دون جرّ مياه حقل الديسي من أقصى الجنوب. والحقل الذي استولت على أراضيه الخصبة المروية بالمياه الجوفية، بواسطة النفوذ السياسي والفساد، شركات زراعية رأسمالية هدفها تصدير منتجات مرتفعة الثمن، كان يمكن أن يعيد، بالقليل من الاستثمارات الوطنية، بناء مجتمع ريفي زراعي ــــ صناعي في المنطقة.
هل نستطيع العيش من دون إعالة؟ برأيي أن ذلك ممكن، ولكن، فقط، في إطار نموذج بديل، وطني وديموقراطي واجتماعي، يضع حدّاً للفساد الكبير وخصوصاً للهدر، سواء في الإنفاق الترفي أو في الإنفاق على النخبة المعولمة وهيئاتها الحكومية المستحدثة ومشاريعها، أو في الإنفاق على بنى تحتية ليست ضرورية إلا للمستثمرين العقاريين. نموذج يقطع مع الاستثمارات العقارية والسياحة والصناعة والخدمات الكمبرادورية، المعتمدة على مدخلات

حجم الإنفاق الحكومي المباشر بلغ في 2009 حوالى 37 % من الناتج الإجمالي المحلي
وعمالة مستوردة، ويعتمد على الميزات النسبية للموارد وطاقات العمل المحلية، ويستعيد السيطرة على القطاعات الاستراتيجية، بما فيها القطاع المصرفي، لضمان تمويل شبكة زراعية ــــ صناعية ــــ خدمية متعاضدة من المؤسسات المتوسطة والصغيرة والتعاونيات، بدلاً من وضع المدّخرات الوطنية بتصرّف الرأسماليين الأجانب ووكلائهم المحليين وتجارتهم الكمبرادورية ومشاريعهم المستنزفة للموارد الوطنية. نموذج يضبط السوق ويسيطر على العلاقات الاقتصادية والمالية مع الخارج، ولا يتخلى عن الحق السيادي والاجتماعي في الضريبة التصاعدية على الدخل وعلى أرباح الشركات. نموذج يصدِّر القوانين من برلمان منتخب كامل الصلاحيات لمصلحة التنمية الوطنية، وعلى رأسها قانون استعمال الأراضي للحد من تغوّل الأنشطة العقارية على الموارد الزراعية من أرض ومياه.
يبقى علينا أن نشير، في النهاية، إلى أن الدولة الأردنية لا تزال تتهاون، بصورة مؤسفة، إزاء حقوقها الجيوسياسية في جيرة أكبر بلد نفطي في العالم. إن الأردن الذي يحمي حدوداً صحراوية واسعة وممتدة مع المملكة العربية السعودية ليس في موقع تلقي الإحسان منها، بل في موقع المتخلي عن تحصيل التكاليف الباهظة لحماية حدود النفط من التهريب والتسلل الديموغرافي والأمني. وهو ما ينبغي لعمان وضع حد له. كما ينبغي للرياض أن تتحسّب إزاء تقصيرها في الالتزام بواجباتها نحو الأردن، وخصوصاً مع اتضاح حجم التهديدات القبلية الآتية من جوار المملكة وصعوبتها، كما نراها الآن على الحدود السعودية ــــ اليمنية.
* كاتب أردني