عبد العلي حامي الدين*كشفت قضية آمنتو حيدر وطريقة التعاطي الرسمي معها عن ضعف فظيع في طريقة تدبير الأزمات، لا يضاهيه إلا هذه القدرة العجيبة على افتعال المشاكل وسوء تقدير المآلات الناجمة عنها، وضعف القدرة على توقع حجم التهديدات التي تحيط بقرار معين، وحجم الفرص التي تُهدر في لحظات انفعالية. لقد اعتقد البعض أن الدبلوماسية المغربية بدأت تروّض نفسها على تبني لغة الحزم تجاه بعض التصرفات المسيئة إلى الوحدة الترابية، وأن لغة خطاب 6 تشرين الثاني/ نوفمبر ستلقي بظلالها على الأداء الدبلوماسي الخارجي، وعلى طريقة التعامل مع انفصاليي الداخل. لكن اكتشفنا في ما بعد أن المغرب في وضعية معقدة لا تسمح له بارتكاب أخطاء جديدة في تدبير ملف القضية الوطنية، وأن اللعب في ساحة الكبار يتطلب مجموعة من المقومات بدأ المغرب يفرّط فيها، وعلى رأسها قوة النظام السياسي، وهي لا يمكن أن تتأسس إلا على أرضية دولة المؤسسات واحترام حقوق الإنسان.
لقد خسر المغرب في هذه القضية، ليس لأنه اتخذ قراراً بإرجاع أمينتو إلى منزلها، بل لأنه لم يتصرف منذ البداية في نطاق القانون واحترام حقوق الإنسان.
ليس الغرض من هذا المقال أن نعيد تركيب الأخطاء التي وقعت فيها السياسة الخارجية المغربية في تدبيرها هذه الأزمة، ولكنها مناسبة لإعادة طرح أسئلة السياسة الخارجية المغربية على طاولة النقد والمساءلة، وخاصة في تعاطيها مع قضية الصحراء وما يرتبط بها من قرارات. السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه هو: هل لدينا بالفعل سياسة خارجية؟ وعلى ضوئه تتناسل مجموعة من الأسئلة الفرعية: ما هي مرتكزات هذه السياسة وما هي مرجعياتها الكبرى؟ ما هي الدوائر المساهمة في بلورتها وصياغتها؟ ما هو دور الأجهزة الحكومية في ذلك؟ كيف تشتغل باقي المؤسسات الدستورية في مجال السياسة الخارجية، وخاصة منها مؤسسة الوزير الأول والبرلمان بمجلسيه؟ هل هناك دور مستقل للأحزاب السياسية وللمجتمع المدني في ذلك المجال؟ أم أنها لا تتحرك إلا تحت الطلب وفي لحظة الأزمات، وبطريقة فجة تفتقر إلى الذكاء والإبداع؟
في السابق، كان مجال السياسة الخارجية في المغرب محفوفاً بعبارة «المجال المحفوظ لرئيس الدولة» والدوائر الضيقة المحيطة به. وكانت آلة التواصل لدى الملك الراحل تشتغل بطريقة سريعة، وكان يحيط شعبه في اللحظات الحرجة بالمعلومات التي تمكنه من الفهم، وإن كانت تحرمه من المشاركة في صناعة القرار. اليوم هناك الكثير من الغموض واللبس الذي يكتنف السياسة الخارجية، وأصبح العديد من المراقبين يعترفون بعجزهم عن فهم مجموعة من القرارات، وعن خلفياتها الحقيقية! وهل تقف وراءها اعتبارات عقلانية مؤطرة بعنصر المصالح الوطنية أم هي تعبير عن قرارات سريعة تتخذ في لحظات الغضب والانفعال؟
ما الذي تحوّل في حقل السياسة الخارجية المغربية في السنوات العشر الأخيرة؟ كيف نقرأ بعض القرارات التي اتخذت، ومنها على سبيل الاستئناس لا الحصر قرار سحب السفير المغربي من مدريد للتشاور مرتين بين سنوات 2001 و2007، قبل اندلاع أزمة جزيرة تورا في تموز/ يوليو 2002 وفي أعقاب زيارة الملك الإسباني خوان كارلوس لمليلية المحتلة في خريف 2007؟ كيف نفسر قطع العلاقات الدبلوماسية مع جنوب أفريقيا سنة 2005؟ كيف نفسر قرار قطع العلاقات مع جمهورية إيران وما هي المصالح التي كانت متوقعة وراء ذلك، هل استفاد المغرب فعلاً من قطع العلاقات الدبلوماسية مع دولتين لهما أدوار متنامية في كل من آسيا وأفريقيا، سواء على مستوى منظمة الاتحاد الأفريقي، أو على مستوى منظمة المؤتمر الإسلامي، وخاصة في منظومة عالم الجنوب ومن بينها منظومة حركة عدم الانحياز، بل حتى على مستوى هيئة الأمم المتحدة؟ أم أن الرابح الأكبر من وراء هذه القرارات هو الجزائر التي باتت تتحرك بدون إزعاج في هذه الدول؟ وقبل ذلك هل كان قرار استدعاء السفير المغربي في السنغال قراراً عقلانياً أم كان قراراً مزاجياً كلفنا الكثير من أجل إعادة ترميم العلاقات المغربية السنغالية من جديد؟

السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه هو: هل لدينا بالفعل سياسة خارجية؟
وإذا تجاوزنا مستوى القرارات الانفعالية والسريعة، كيف يمكن تفسير التراجع الواضح للمغرب في الساحة العربية والإسلامية؟ هل هو اختيار استراتيجي جديد يقطع مع إحدى ميزات السياسة الخارجية المغربية كما تبلورت مع الراحل الحسن الثاني؟ أم هو تعبير عن بعض الإشكالات البنيوية داخل العلبة السوداء لصناعة القرار؟ أم أن منظري العهد الجديد يحلمون بأن يصبحوا قطعة من أوروبا؟
بكلمة أخرى، ما هي الرهانات والتحديات الآنية والمستقبلية المطروحة على أجندة الدبلوماسية المغربية في أبعادها الإقليمية والقارية الأفريقية والدولية؟
لقد مرّت عشرون سنة على احتضان المغرب معاهدة مراكش التي أنشأت اتحاد المغرب العربي والتي كانت من إبداع الحسن الثاني في ظروف لا تقل صعوبة عن الوضع الراهن. كيف يمكن تطوير تحرك المغرب ضمن الجوار المغاربي، وكيف يتحرك المغرب في البعد الغربي بشقيه الأوروبي والأميركي على ضوء المركز المتقدم الذي أصبح يحتله مع الاتحاد الأوروبي، وعلى ضوء اتفاقية التبادل الحر التي تربطه بالولايات المتحدة الأميركية منذ سنة 2004، وعلى ضوء صفة الحليف الاستراتيجي للحلف الأطلسي التي تعطيه هامشاً ينبغي استغلاله.
إن المطلوب من المغرب استثمار كل هذه المعطيات الاستراتيجية الهامة وتحويلها لمصلحته. لكن ذلك متوقف على مجموعة شروط باتت حاسمة في الساحة الدولية. فليس للمغرب إمكانيات اقتصادية ضخمة ولا يمتلك إمكانيات عسكرية هائلة، وما عليه إلا احترام ورقة حقوق الإنسان وإصلاح مؤسساته السياسية والقضائية حتى يتمكن من اللعب في ساحة الصغار من الأقران، أما اللعب في ساحة الكبار فلا يبدو متاحاً لأمثالنا في المنظور القريب والمتوسط.
* باحث، وعضو المجلس الوطني
لحزب العدالة والتنمية المغربي