هل من تفاجأ من سماع كلام الامين العام لحزب الله يوم الجمعة 25 ايلول ورأيه بالحراك الراهن؟ اذا كان المقصود بالمفاجأة ان يمتلك المرء شعوراً بفقدان السيطرة مرفقاً بعلامة تعجّب ترتسم على الوجه، فالجواب لا، لم يتفاجأ أحد. ففئات جمهور الحزب والمتعاطفين معه، ممن يعرفون الحزب وهرمية قِيمه، والذين واللواتي يؤيّدون الحراك الراهن، انتظروا لا شك جواباً من اثنين: إما أن لا يتطرّق السيد نصر الله للحراك بتاتاً، وإما أن يؤيّده.
وقد اختار السيد موقفاً بين الاحتمالين، سنعود الى تفاصيله ادناه. اما فئات جمهور الحزب الذين رفضوا الحراك ودانوا مبدأه، فقد تفوّقت على الشعور بالمفاجأة عند بعضهم النزعة الاوتوماتيكية الشائعة هذه الايام، القائمة على شكل «لن أبدي علامات التعجّب، إن الامور بخير وتحت السيطرة بشكل عام، وسنكون منتصرين بإذن الله». وهي نزعة شجّع عليها الحزب في ساحات تنشئته في السنين الخمس الماضية، لأسباب عقلانية شتّى، آخرها ضرورات التعبئة العسكرية في سوريا، ولو استقرّت على «سوقها» عند الناس فئات من الطفيليات المُتبجحة في الاعلام وعند بعض الطبقات الوسطى والوسطى الدنيا. ماذا كان رأي السيد نصر الله تحديداً؟ اعتبر بعض المُتحمّسين أنه أيّد الحراك. شخصياً، اعتقد ان هذا الاستنتاج فيه مبالغة. ان مجموع تعليقات السيد على الحراك توحي بأنه اعتبر ان الحراك ومطالبه الاكثر بروزاً هي شيء «عادي» او «طبيعي»، لا اكثر. لو كان أيّد الحراك لقال بوضوح: «ان هذا الحراك هو شيء طبيعي»، او ما معناه ذلك، ما قد يفتح الباب لسماع اسباب الحراك والتوقّف عندها، ثم طرحها على باقي الطبقة السياسية. لكنه لم يقل ذلك. ربما لأنه لم يرد ان ينشب خلافاً مع خصومه السياسيين وبعض حلفائه.
كان تعليقه في خانة ما أسميه «الواقعية»، لا يخرج عن السياسة المُعتمدة من «حزب الله» في السنين السبع الماضية. والواقعية هنا تعني نظرة ترى السياسة بمثابة أمر واقع، وواقعٍ مُتعدّد التشعّبات والتجلّيات، ليس بمستطاع الحزب تعريفه بخطاب واحد يكون فعّالاً ويؤدي الى تغيير الأمور، وهو بالتالي قرَّر أن يحافظ على ثبات هذا الواقع بقدر المستطاع، ويحترم حيثياته عندما يقتضي الكلام، في ظل غياب اي افق لتغيير قواعد ومضمون النتائج. «ان هذه الامور تَحصل»، هذا ما قاله السيّد عن الحراك. بقوله ذلك، يحترم السيّد الحراك وجمهوره بقدر ما لطالما احترم الحيثيات الجماهيرية لحلفائه كما لأعدائه. في موضوع أعدائه مثلاً، اعتمد الحزب التقليل من اطلالات رسميّيه في الاعلام، في السنين السبع الماضية، تجنّباً للأبلسة، ولإدراك قيادته ان ليس بمستطاعها تخطّي منظومة التحريض التعبوية التي تم تشييدها منذ سنوات 2005 و2006. والسيد لا يريد ان يعطي خصومه مادة اضافية لتغذية الكراهية عند جمهورهم، لأنه يدرك ان للحيثيات الجماهيرية وزنها، حتى لو لم تُجرَ انتخابات. هو يدرك ان هناك مستويات أعلى من الكراهية والقطيعة الراديكالية الطائفية التي يستطيع حزب «المستقبل» أخذ جمهوره اليها، فاتحاً الباب امام السَلَفية الجهادية للمزيد من التوسُّع على الارض الشعبية اللبنانية.
ليس المقصود هنا إثبات صوابية مطلقة للسيد في قراءة الأمور، بما فيها حراك الصيف. وهناك بعض الحالات لم يتمكّن فيها السيد من قراءة الارض الشعبية الوطنية جيداً، ويكفي ان اذكر منها مؤتمره الصحافي الداعي إلى تظاهرة الثامن من آذار عام 2005، حيث كانت عبارته الشهيرة «زوم ان، زوم آوت» وغيرها، المستفزّة لفئات من الجمهور اصبحت على إثرها مُهيأة لاستعدائه. مع أن خطأه آنذاك، في ظل وضع لبناني وعربي متحوّل ومتوتّر، يبقى بعيداً عن مستويات الاستفزاز المقصود والعدائي التي نقابلها في خطابات غيره من الحقل السياسي اللبناني. لكن موقف السيد يوم الجمعة الفائت، وبالرغم من الإملاءات البنيوية التي تحدّ من حرية خطابه، ما زال يقيم تقديراً للبديهيات: ان التأثير بالارض الشعبية بتنوعاتها لا غنى عنه، حيث استطاع المرء ذلك، والا فليتجنب المرء معاداتها. بل اكثر من ذلك، في عرضه للامور يوم الجمعة الماضي، بدا السيد وكأنه يقول إن «حزب الله» سيأخذ على محمل الجد وحتى لدرجة التعاون السياسي مع اي قوى تنبثق من الحراك او من الارض التعبوية الوطنية، على شرط ان تأخذ هذه القوى شكلاً مطلبياً وتمثيلياً واضحاً، أي أن تتنظم كحزب سياسي يمكن المرء أن يتحاور معه وأن يحاسبه. حتى ملاحظته عن وجود اتصالات للبعض في الحراك بالسفارة الاميركية لم تخرج عن اطار «الواقعية» هذه، هناك ناس يتواصلون مع السفارة الاميركية، فهذا ما لا يفاجئ في بلد مثل لبنان، انما لا يجب ان يعمي هذا الواقع، على اهميته، عن اولويات المرحلة، في ضرورة ان لا يخسر المرء تأييد غالبية الناس له. بفضل القليل الذي حققته هذه السياسة على مدى نصف العقد الماضي، وعلى قدر طبيعتها المحدودة والمُحافظة، يمكن للسيد اليوم ان يدعو علناً الى اجراء انتخابات نيابية على اساس قانون نسبي. فقط بفضلها يمكن للحزب ان يثق بان غالبية الناخبين على المستوى الوطني ستصبّ معه، حتى في حال تكوّنت كتلة جديدة من عشرة الى خمسة عشر نائباً في البرلمان منبثقين من مجهول خارج عن الطبقة السياسية الراهنة. هذا أيضاً ما لا تدركه الطفيليات المتبجحة التي تدّعي الكلام باسم المقاومة والتي تساهم على طريقتها بتضييق الحصار على المقاومة في الارض التعبوية.