حسان الزينمرّة أخرى تثبت السياسة في لبنان أنها بلا أخلاق. فعلت ذلك من دون جهد أو عناء، بطريقة طبيعية. فتاة، في العاشرة من عمرها (ديانا محمد زريق)، ينفجر وهي في طريقها إلى المدرسة تحت قدميها «جسم غريب» ويبتر ساقها، والسياسة لا من رأى ولا من سمع، لا يرتجف لها جفن، تتابع ممارسة أجندتها اليومية، العلنية والسرية. لكن الأقسى من ذلك هو أن المجتمع الذي بات لا يحس بجسده وبنفسه لم يلتفت إلى ما حصل في كفرفيلا مع تلك الفتاة وشقيقها (حسن محمد زريق 7 أعوام) ورفيقتهما (زينب هزيمة 16 عاماً)، تعامل مع الموضوع كحدث «أمني» في مكان ما، في هاييتي المنكوبة. كأن المجتمع اللبناني مخدر، أو كأنه يسترخص الموت، موت الأطفال وموت الإنسان عموماً. لقد بات علينا، فعلاً، أن نحدد مفهوم الجريمة والطفولة والحياة والإنسان عموماً. بات علينا أن نتدرب على الإحساس. بتنا، بكل جدارة، بلا إحساس، كما بتنا بلا دولة وبلا مواطنة. نحن نعيش في شركة فساد وآلة قتل وفي ساحة حرب تتحكم فيها الكراهية.
بأيّ ذنب تُهمل تلك الفتاة، وكل طفل هو في وضع مماثل لحالها، ونحن ندّعي أننا نواصل حياتنا؟ كيف ينفجر «جسم غريب» في طفلة ويبتر ساقها ولا نسأل، ولا نسأل عن شيء، لا عن الفتاة، ولا عن كيف ستُكمل حياتها، وكيف ستذهب إلى المدرسة، ولِمَ حصل معها هذا، ولِمَ يمكن أن يحصل هذا مع أيّ مواطن، كيف لا نسأل؟ وكأننا لا نسأل عن أنفسنا. لقد باتت المساحة العامة بين اللبنانيّين ميتة، حكراً للسياسة القاتلة.
رئيس المجلس النيابي يعقد مؤتمره الصحافي للحديث عن أمر استراتيجي (لمن؟)، ثم يخرج حليف حليفه ليرد عليه، وآخر يوافق أو يعارض، وكأنّ شيئاً لم يحصل، وكأنّ شيئاً مأسوياً لا يحصل في لبنان، وكأنّ انفجاراً لم يقع ولم يعطّل مسيرة طفلة ويعوقها. ومع أولئك السياسيين ثمة مطارنة يهتمون بصوغ بيانهم ببيروقراطية كاملة، سياسية وإدارية ولغوية، وكأن تلك الطفلة، وكل المواطنين مثلها، ليست موجودة أصلاً. فديانا زريق ليست من «الواجب المدرسي»، لهؤلاء، رئيس المجلس وحليف الحليف والمطارنة وكل سياسي حكى أول من أمس أو لم يحكِ. «الواجب» هو واجبها وحدها، وكانت قد أتمّته في اليوم السابق، وكانت في اليوم السابق تنوي أن تذهب إلى المدرسة مع رفيقيها لتلتقي رفاقاً أكثر ولتأتي بواجب مدرسي آخر. ولتعود في الأيام المقبلة إلى المدرسة والملعب... إلى الحياة، بجسد كامل وروح عادية.
انفصام كاذب وسياسة جوفاء وموت معلن. والمشهد السياسي، في يوم بتر ساق تلك الفتاة، ضمَّ أيضاً مؤتمراً عن الحقوق المدنية للاجئين الفلسطينيين. وماذا لو حصل انفجار «جسم غريب» في أحد المخيمات الفلسطينية وبتر ساق طفل! ماذا لو؟ ما الذي كان سيتغير في المؤتمر وجلساته، وفي السياسة اللبنانيّة عموماً؟ والكل يعرف أن بتر ساق بالنسبة إلى طفل فلسطيني، ومثله أطفال لبنانيون كثيرون، أشبه بلعبة، والموت بالنسبة إلى أولئك لعبة، فهل نقف عند ساق؟
الطاقم السياسي في لبنان يواصل لعبته: سرقتنا وتطيّفنا ومذهبتنا... وقتلنا بالطبع، فلِمَ نتحدث عن ساق قد بُترت؟ وقد بات الانفجار لا يعني من يصيب، إنما من يستهدف، وإذا كان يستهدف والد الفتاة تلك، ديانا، كما ادُّعي في وسائل إعلام عديدة، فلا همّ أن يصيب فتاة ويبتر ساقها. هو، المستهدف، والدُها. هذا الشعور اللبناني العام ليس من فراغ، هو من موت المجتمع وغياب الدولة: الأب بدل الدولة، المذهب بدل الدولة، العشيرة بدل الدولة، الزعيم بدل الدولة، المافيا والعصابة بدل الدولة. والدا شابين خُطفا في بدارو، تصرّفا من دون العودة إلى «الدولة» وتفاوضا مع خاطفي ولديهما ودفعا لهم المال المطلوب وتسلّما ولديهما، وبعد ذلك أخبرا «الدولة».
ووالد ديانا هو دولتها، مثل هذين الوالدين. في الأقل دلَّ على ذلك «الاستلشاق» اللبناني، السياسي والمجتمعي، الذي بات يسلّم أنّ لكلٍّ دولته.
يعرف اللبنانيون كافة أن لا دولة. هذه المقولة ليست جديدة بل رتيبة وبلا معنى أيضاً. لكن المشكلة، التي تكشف عن نفسها كل يوم، هي أن لا مجتمع. لا مجتمع، هذه عبارة ذات معنى ووقع قاسٍ. حقيقة مرّة. هناك، بمعزل عن المذاهب في السياسة، عشائر وعصابات وعائلات وأسر وأفراد، مذاهب في حد ذاتها، يدبّرون أنفسهم ويديرون أمورهم، في كل شيء، من توفير لقمة الخبز إلى تأمين «وسايط» تسخّر «الدولة» لحماية النفس أو الاعتداء على الآخر، على حدّ سواء. في كل بيت بات هناك مذهب، وربما مربّع أمني. المذهبية الكبرى، السياسية، مظلاّت لحماية المذهبيات الصغرى. والمربّعات الأمنية الكبرى، الموجودة في كل مكان، مظلات لحماية المربعات الأمنية الصغرى. هذه هي المعادلة في لبنان. المذهبيات استنسخت نفسها، وبات كل مذهب سياسي يتكوّن من مذاهب عدّة كطبق مسموم أو كجسم متفجّر. فمن كان في رأسه عقل لينتبه إلى ساقيه... إذا أمكن.