عصام العريان *ثارت ضجة بسبب البيان الذي قرأه شيخ الأزهر ورئيس مجمع البحوث الإسلامية الدكتور محمد سيد طنطاوي فــي آخر يوم من أيام السنة الآفلة على أعضاء المجمع في اجتماعه العادي، وهو اجتماع لم يتضمن جدول أعماله أي ذكر للموضــــــوع الذي تنـــــاوله البيان، أي بناء مصر جداراً فولاذيــــاً عازلاً تحت الأرض لتدمير الأنفاق التي يجري عـــــــبرها التهريب إلى قطاع غزة وغمرها بالميـــــاه، مما يُعدّ إحكاماً للحصار المستمر على القطاع المنكوب منذ 3 سنوات أو يزيد.
لم يناقش أعضاء المجمع البيان، ولم يتداولوا فيه، بل قرأ الشيخ البيان أمام الأعضاء وبحضور كاميرات التلفزيون المصري الذي سارع بنقل الحدث إلى الجميع ليصبح البيان وما تضمنه من رأي سياسي محل جدل شديد في أوساط الفقهاء والعلماء، وكذلك الساسة والرأي العام.
من ناحية الشكل، فإذا صح أنه لم تجر مداولة ولا نقاش، فإن الشيخ يكون قد ارتكب في حق نفسه وأعضاء المجمع والمؤسسة الدينية كلها، بل الرأي العام خطأً كبيراً. كما أن إقحام المجمع في قضية لم يحط بها علماً ولم يطلع على تفاصيلها وليس متخصصاً فيها وتمس الأمن القومي، والتدليل على حجة وحل بناء الجدار بالأمن القومي، يُعدّ إقحاماً للمجمع وأعضائه في ما يجب عليهم الرجوع فيه إلى أهل الاختصاص، وإلا كان عليهم أن يؤكدوا على معانٍ عامة ومبادئ مجردة، دون تنزيلها على واقعة محددة كبناء جدار تحت الأرض لهدف محدد وهو منع التهريب ويؤدي إلى نتيجة واضحة وهي خنق مليون ونصف مليون في غزة وحصارهم.
ومن الواضح أن البيان جاء لدعم النظام المصري الذي تعرّض لانتقادات شديدة وحادة من الرأي العام، وصدرت فتوى فردية طبقت الآفاق من العلاّمة القرضاوي بحرمة بناء مثل ذلك الجدار لأنه يؤدي إلى إيذاء أبرياء ومنع وصول الإمدادات الضرورية لهم، ولأنهم يتعرضون لحصار شديد أغلق كل المنافذ الطبيعية، اضطروا إلى تشييد أنفاق تحت الأرض وتهريب كل ما يحتاجونه للبقاء على قيد الحياة والصمود ضد العدوان الهمجي الذي تشنه القوات الصهيونية عليهم منذ احتلال أرضهم المستمر منذ 60 سنة.
كان يمكن المجمع ورئيسه أن يقرر جملة من المبادئ العامة والقواعد المستقرة فقهاً دون تنزيلها على أي واقع. ويخرج بذلك من الحرج الشرعي والسياسي، مثل:
حماية الأمن الوطني والقومي ضرورة مستقرة بالوسائل التي لا تؤدي إلى ضرر أكبر.
دعم المستضعفين في الأرض وإمدادهم بالغذاء والدواء واجب شرعي لا يجوز التخلف عنه أو التقاعس فيه.
الرضوخ للضغوط الأجنبية التي تتدخل فى الشأن المصري حرام شرعاً أو مكروه جداً، إلا فى حالات الضرورة القصوى التي يجب أن تكون معلومة ويتم تقديرها بقدرها دون تجاوز.
لكن النظام أراد توظيف الأزهر ومجمع البحوث الإسلامية لمصلحة مواقفه السياسية المختلف عليها، وهذا أسوأ توظيف للعلماء والمؤسسة الدينية الرسمية لمصلحة مواقف عجيبة غير مفهومة.
لو أراد النظام منع التهريب، فأمامه وسائل طبيعية عادية:
يمكن أولاً فتح معبر رفح بطريقة طبيعية دائمة، وإذا كانت المعاهدة والاتفاقية الخاصة بالمعابر تمنعه كما يقولون، فلماذا لم يطالب بتعديل بنودها أو التفاوض حولها.
أراد النظام توظيف الأزهر لمصلحة مواقفه السياسية المختلف عليها، وهذا أسوأ توظيف للعلماء والمؤسسة الدينية الرسمية
ويمكن أيضاً فتح المعبر بطريقة متقطعة كما يفعل الآن، ولكن بوتيرة أكبر وأوسع بحيث لا يكون مجرد 3 أيام في الشهر تقريباً، وللأفراد فقط، ويترك للعدو الصهيوني التحكم في كل البضائع فلا يسمح إلا بالقليل من الدواء والغذاء وهو ما يكاد لا يسد الرمق.
ويمكنه أيضاً ــــ كما غض الطرف طويلاً عن التهريب ــــ أن يضبط العمل خلال الأنفاق ودس عملاء له لمتابعة المواد التي تُهرّب ليطمئن تماماً إلى أن المواد ليس فيها ما يمثّل خطراً على أمن مصر، وأن التهريب يتم في اتجاه واحد فقط، من مصر إلى غزة، ويمكن كذلك ضبط ذلك على الطريق الوحيد بسيناء.
وكان على شيخ الأزهر وأعضاء مجمع البحوث أن يتعرفوا على أبعاد المسألة التي لم يناقشوها ولا يجوز لهم الآن الصمت عليها لأنها جريمة نكراء. فسبب وجود الأنفاق هو ضرورات البقاء على قيد الحياة والصمود فى وجه آلة الحصار والحرب الصهيونية على شعب أعزل لا يجد سنداً ولا معيناً. وتقارير الأمم المتحدة ــــ وهي جهة غير متهمة إطلاقاً ــــ تقرر أن الأنفاق بمثابة شريان الحياة لمليون ونصف مليون إنسان وتدميرها أو هدمها أو إغلاقها هو قتل لهؤلاء.
والتهريب يتم من مصر إلى غزة وليس من غزة إلى مصر، لأن غزة ليس فيها أي شيء وهي تحتاج إلى كل شيء. وحتى ما يتردد من تهريب سلاح ومفرقعات لا يصدقه العقل لأن غزة تتعرض للحرب والهجوم، وهي تحتاج إلى كل قطعة سلاح أو مواد مفرقعة لصنع الصواريخ للدفاع عن نفسها. والادعاء أو القول إن أهل غزة يهددون الأمن المصري لا تسانده الوقائع الثابتة. فعندما اشتد الحصار قبل وجود الأنفاق بهذه الكثرة الشديدة اجتاح 750 ألفاً منهم الحدود البرية، وسمح لهم الرئيس مبارك وقال قولته الشهيرة «لن نسمح بتجويع أهل غزة». دخلوا إلى العريش وتزودوا ثم عادوا جميعاً ولم تسجل حادثة واحدة. فالسماح بتجويع أهل غزة سيكون هو المبرر الطبيعي لتهديد الأمن الوطني المصري، وذلك ما دعا الرئيس إلى السماح بالمرور الآمن ثم العودة، وهذا ما جعل مصر تغض الطرف عن الأنفاق وتسمح بحفرها وتراقب المرور عن بعد، لأن البديل هو الانفجار في وجه مصر.
في ضوء هذه الحقائق والمعلومات، يجب على شيخ الأزهر وأعضاء مجمع البحوث الإسلامية مراجعة ذلك البيان العجيب الذي لا ندري هل هو بيان أم فتوى شرعية؟ وهل يمكن إصدار فتوى بعد الإقدام على العمل أولاً وعدم انتظار الرأي الشرعي؟ والعمل بدأ منذ شهور وجاءت الفتوى لإسباغ المشروعية الشرعية عليه!
وإذا كانت الفتوى جماعية، فهل تكون بهذه السرعة ودون مناقشة أو حوار؟ لا يجوز الصمت الآن، والمراجعة ليست عيباً ولا خطأً، بل هي فضيلة مستحبة والحق أحق أن يُتبع، وإذا كان الشيخ طنطاوي لا يستطيع مراجعة نفسه لأنه صرّح أكثر من مرة أنه موظف وينتظر التعليمات، فإن بقية أعضاء المجمع لا يجوز لهم الصمت، لأن خطأ الفتوى سيلحق بهم وسيلطخ تاريخهم، وعار المشاركة في جريمة ضد الإنسانية بتجويع شعب محاصر وقتله قتلاً بطيئاً سيظل يلاحقهم في الدنيا ولن يفلتوا منه في الآخرة، حيث لا ينفع مال ولا بنون، ولا يدفع عن أحد حجة الخوف من السلطان الجائر. ولا يحق لهم أبداً أن يبيعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، فذلك أعظم ظلم
النفس.
* عضو مجلس شورى الإخوان المسلمين بمصر