محمد بنعزيز *في 28/11/2009 اختُطف ثلاثة سياح إسبان في موريتانيا، ثم اختطف إيطالي وزوجته يوم 19/12/2009، وحين اعتقل أحد المشاركين في العملية اتضح أنه من مالي. في 25 كانون الأول/ ديسمبر، اعتقل مسافر حاول تفجير طائرة متجهة إلى مطار ديترويت في الولايات المتحدة الأميركية. المسافر عبد الفاروق عبد المطلب كان نيجيرياً، وفي 28 من الشهر نفسه قتل أربعة سعوديين وجرح اثنان آخران في النيجر... وقد كانوا في طريقهم إلى بلدة مالية.
ما الذي يجمع بين الفاعلين في كل هذه الوقائع المتناثرة؟ المكان. موريتانيا ومالي والنيجر ونيجيريا دول متجاورة في الصحراء الكبرى بأفريقيا.
حتى ردود الأفعال الأولية يجمعها المكان. فالطالب النيجيري مر باليمن، ووكالة أخبار موريتانيا ذكرت نقلاً عن مصادر متطابقة أن مسلحين يُفترض انتماؤهم لتنظيم القاعدة قاموا بعملية الاختطاف، والتعليقات على نشر خبر القتل في جريدة الرياض السعودية تفسره بأن القاعدة تنتقم لهزيمتها في صعدة! كتب معلق على موقع الجريدة «حقد القاعدة على السعوديين تأجج بعد هزيمة الحوثيين»، بينما أضاف آخر «دم السعوديين ما يروح هدر».
هذه خيوط متباعدة تتشابك، وهي تقود إلى مكان واحد، جرت فيه عمليات اختطاف وقتل لكن صداها كان باهتاً. الآن، حين وصل نصل السكين إلى ديترويت والرياض، سيصبح المكان تحت الأضواء بقوة. لنلق نظرة على ساحة العمليات:
مساحة موريتانيا 1030700 كلم مربع وهي غير مستقرة، عرفت محاولات انقلابية عدة، بعضها فشل وبعضها نجح فتبعته عملية انقلاب، جرى فيها قتل فرنسيين واختطاف إسبان والآن ما زال الإيطالي وزوجته رهائن، وقد قرر وزير الخاريجية الإيطالي أن التفاوض مع الخاطفين يعطي شرعية للإرهاب. ولكنه قال أيضاً إن سلامة الرهائن لها الأولوية. كالعادة سيدفع الأوروبيون فدية وينكرون ذلك. مساحة مالي 1241238 كلم مربعاً، وهي تعيش حرباً أهلية مستترة بين السلطة والطوارق المسلحين والعارفين بمسالك الصحراء. ولهذا امتداد في النيجر التي تبلغ مساحتها 1267000 كلم مربع حيث تواجه السلطة مشاكل مع الطوارق الذين يطالبون بنصيبهم في مناجم الأروانيوم. أما نيجيريا ومساحتها 923768 كلم مربعاً، فهي تعرف مشاكل بين ولايات الجنوب وولايات الشمال التي أعلنت سابقاً تطبيق الشريعة الإسلامية، ما سبّب مواجهات طائفية.
الآن، حين وصل نصل السكين إلى ديترويت والرياض، سيصبح المكان تحت الأضواء بقوة
هذا هو المكان الذي ستُسلط عليه الأضواء الكاشفة في الأشهر المقبلة. مكان تصل حرارته إلى خمسين درجة مئوية، جحيم يتكوّن من سهول محجوجرة وهضاب وأخاديد لا نهاية لها تصلح لخلوة العبادة وطبعاً للاختفاء والتربص، مكان يوازي مساحة نصف أوروبا، مع فارق أن فضاءات الصحراء الكبرى تتسيّدها دول فاشلة، غير مستقرة، وتواجه عوائق جغرافية لا يمكن تخيل احتمال السيطرة عليها. كمثال، تمتد الحدود بين موريتانيا ومالي 2000 كلم. والخطير أن مشكل الحدود يشمل دول الجوار أيضاً، فالجزائر تَحد مالي شمالاً وهي لا تسيطر على حدودها تماماً. ففي نهاية شباط/ فبراير 2008، اختُطف سائحان نمساويان من تونس، وتمكن الخاطفون من عبور آلاف الكيلومترات في الجزائر ودخلوا مالي، وحينها شرعوا يتفاوضون مع السلطات النمساوية لإطلاق سراحهما...وقد تم ذلك من مالي! ويقدم هذا التنقل فكرة واضحة عن مساحة المناورة المتوافرة للخاطفين المحترفين. عملياً الحدود موجودة على الورق فقط، أما على الأرض فالعناصر الإرهابية تتحرك بكامل الحرية، بل إن تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي يتخذ المنطقة كخلفية للاختباء حين تقوم السلطات الجزائرية بحملات تمشيط ضد العناصر المسلحة.
وعلى الأرض أيضاً، وحده المغرب محصن بفضل جدار أمني من الرمل والحجر والحفر والألغام طوله 2500 كلم، بُني أصلاً لصد هجمات جبهة البوليساريو. ووحدها الجزائر تملك الوسائل والتمويل اللازم لمطاردة عناصر القاعدة في المغرب الإسلامي، القاعدة التي يبدو أنها خرجت من أفغانستان إلى العراق، ومن هناك أخرجتها العشائر نحو اليمن غير السعيد، والآن تتعاون السعودية وأميركا، حسب نيويورك تايمز، لمحاصرة عناصر القاعدة في اليمن وتدرب أمثال الأخ النيجيري الذي حاول تفجير طائرة ديترويت.
ستعيد العمليات الإرهابية الأخيرة الروح لسياسة الرئيس باراك أوباما. سيقول إنه على حق، وسيطالبه الجمهوريون بالمزيد من الخطوات لحفظ سلامة أميركا. وحين سيترجم ذلك في منطقة الصحراء الكبرى، فإنه سيحيي نقاشات غطاها بعض الغبار ولم تختف تماماً. فمن زمن، في يوم 7/4/2005، تحدثت وكالة المغرب العربي للأنباء، الناطقة باسم الحكومة المغربية، عن «الأهداف الإنسانية» التي ينوجد بسببها الجنود الأميركيون بمنطقة طانطان جنوب المغرب، ونوهت الوكالة بأن القوات الأميركية قدمت «كمية من اللوازم المدرسية» لمصلحة تلاميذ إحدى المدارس الابتدائية بالمدينة. غير أن منابر إعلامية مستقلة لم تتبن اللغة الإنسانية لوكالة الأنباء الرسمية، بل تحدثت عن خطط لإنشاء قاعدة عسكرية أميركية باسم الأفريكوم في أفريقيا، وعن اختيار المغرب، الحليف الاستراتيجي لأميركا في محاربة الإرهاب، مقراً لهذه القاعدة. وقد عزز أصحاب هذا الموقف توقعاتهم بتصريح قائد قوات الأطلسي في أوروبا، الجنرال جونز، الذي قال «لم يعد بمقدور أميركا أن تبقى بعيدة عما يحدث في أفريقيا. وليس بوسع القوات الأميركية أن تظل تراقب الوضع انطلاقاً من البحر. لقد آن لها أن تحط في اليابسة في تلك المناطق الشاسعة من الصحراء التي أصبحت مرتعاً للجريمة والاتجار بالمخدرات والأسلحة. ولم يعد بمقدور دولها أن تفرض عليها سيطرتها ومراقبتها». وكان ذلك في آذار/ مارس 2003.
بالنظر للمعطيات الجديدة، سيعود موضوع القاعدة الأميركية إلى الواجهة، وسيكتشف المتحمسون لأفريقية أوباما علاقته بأصله. وكانت الحكومة الأميركية قد طلبت من الكونغرس اعتماد 389 مليون دولار لعمليات أفريكوم عام 2009. وقد لمحت بعض الصحف المغربية إلى أن الأميركيين موجودون فعلاً في منطقة طانطان ويديرون التجسس بمنطقة الساحل والصحراء، وهم مستاؤون من توتر العلاقات المغربية الجزائرية الذي يعرقل التعاون الأمني... لكن من المتوقع أن يتفاءل الأميركيون لخططهم، لأن مشاكل المغرب مع الانفصاليين في صحرائه ستسهل ليّ ذراعه ولغته للحديث عن «حفظ الأمن في منطقة الساحل والصحراء الكبرى»، وقد يساعد استضافة المغرب للقاعدة الأميركية في تليين مفاصل علاقته مع الجزائر.
وإذا تجاوزنا الحالات الفردية للاختطاف التي تكررت سابقاً وألقينا نظرة شاملة على الوضع الجيوستراتيجي للدول العربية شمال أفريقيا، يظهر أن القلاقل تقترب منها. ففي سبعينيات القرن العشرين كانت الحروب في أنغولا وإثيوبيا وحتى جنوب السودان. الآن أصبحت الحروب على حدود مصر في دارفور، وعلى حدود ليبيا في تشاد بين القبائل، وعلى حدود الجزائر في مالي بين الحكومة والطوارق، وعلى حدود المغرب في موريتانيا حيث مسلسل الانقلابات متصل، وقد تدخلت قوات كوماندوس مغربي في موريتانيا لإفشال محاولة انقلابية قادها الضابط ولد حنانا في 2003.
لكل هذه الوقائع، القديمة والجديدة، سيعمل الجميع تحت ضغط الهدف لتجفيف منبع العنف، ستعمل أميركا والسعودية ودول الساحل والصحراء معاً، سيتوافر التمويل والسلاح والجنود. وهكذا سيزداد التوتر في المنطقة، لتكون القاعدة قد فتحت جبهة أخرى... وهذا ما يضع منطقة شمال أفريقيا والصحراء الكبرى أمام تحديات أمنية هائلة، أما التحديات التنموية فستبقى في الظل.
* صحافي مغربي