يحتاج القرار 1559 إلى كتاب شامل ليروي ملابسات تبلور فكرته وصوغ نصّه ومشروع أراده ممهوراً بختم مجلس الأمن الدولي. وضع لينورد ستاين كتاباً وافياً (ومنحازاً) عن وعد بلفور، وعن مفاوضات شملت قارّات ثلاثاً. والتوصّل إلى القرار 1559 انطوى على مفاوضات جرت بين (وفي) قارات ثلاث. لكن الخداع والسريّة والنفاق وسمت وضع القرار 1559 أكثر من وعد بلفور. واضع القرار نفى علمه به ودانه، ومعارضو القرار عادوا ووجدوا فيه حكمة السيادة. إنه لبنان
أسعد أبو خليل*
لا يعلم شعب لبنان الكثير عن كيفيّة ولادة القرار 1559. التمويه والمداورة والسجال والتقيّة تحوط بكلّ الكلام اللبناني عنه. يحاول الكثيرون اليوم إما إحياءه وإمّا استباق عمليّة دفنه. الأمانة العامّة لـ14 آذار ـــــ وهي نسيت أن تغلق اجتماعات أعلنت قبل أشهر أنها كانت مفتوحة ـــــ تؤكّد أن القرار دولي وما علينا إلا الانصياع. وعميد ما بقي من ورثة «الكتلة الوطنيّة» لم يجد ما يستحقّ التعليق عليه في مجريات الأحداث الإقليميّة والتهديدات شبه الأسبوعية من العدوّ الإسرائيلي إلا التأكيد على الالتزام اللبناني بالقرار 1559. وحتى خالد ضاهر، الذي كاد أن يعلن الجهاد ضد الشيعة بعد 7 أيّار، أعلن تمسّكه بالقرار 1559 لأنه دولي. ومنطق خالد ضاهر يعني الالتزام بتأييد إسرائيل وتهديد العرب في ما يصدر من قرارات دوليّة.
والأمانة العامة لـ14 آذار أعلنت أن موقف وزير الخارجيّة اللبناني من موضوع القرار «خارج» عن صلاحيّاته، فيما لم تعتبر أن موقف سفيرة أميركا الكامن في إصرارها على تطبيق القرار يدخل في «داخل» صلاحيّاتها كسفيرة دولة أجنبيّة. أي أن قريحة فارس سعيد (الذي تلقّى النيابة هديّة من رستم غزالة ـــــ العائد؟) تفتّقت عن مفهوم مبتكر للسيادة: فللسفيرة الأميركيّة في لبنان صلاحيّة التقرير في الشؤون اللبنانيّة أكثر من وزير خارجيّة لبنان. وكل ذلك، باسم السيادة وباسم استقلال لبنان. أي السياسة على الطريقة الأميركيّة في تعاطيها مع شؤون لبنان. وقد نقلت جريدة «الديلي ستار» ـــ التي نطقت باسم المحافظين الجدد على مرّ سنوات بوش العجاف ـــ عن مسؤول أميركي قوله إن أميركا لا تدعم أي طرف في لبنان، ما خلا دعمها لسيادة لبنان.

واضع القرار نفى علمه به ودانه ومعارضوه عادوا ووجدوا فيه حكمة السيادة
وعندما كانت مدافع النيوجرزي تقصف الضاحية والجبل، كان ذلك أيضاً باسم الدفاع سيادة لبنان واستقلاله. ولو فكّكنا اللغة الكوديّة للدبلوماسيّة الأميركيّة نحو لبنان لاكتشفنا أن «سيادة لبنان واستقلاله» لا يعنيان إلا الدفاع عن احتلال إسرائيل وحقها في ترويع لبنان، والسيطرة عليه بكل الوسائل. سيادة لبنان، بالمقياس الأميركي، لا تعني أكثر من سيادة إسرائيل على لبنان.
ووائل أبو فاعور، الذي استفاق هو وأكرم شهيّب من الغشاوة التي أثقلت ناظري وليد جنبلاط في وقت واحد، أعلن اختلافه مع فريق 14 آذار في مطالبته بالتمسّك بالقرار 1559 بينما أعلن تمسّكه بـ«الشرعيّة الدوليّة» التي تحمي لبنان. نودّ لو أن واحداً يعطي دليلاً واحداً عن موقف من الشرعيّة الدوليّة ـــــ حتى في حقبة الحرب الباردة ـــــ تعارض مع مصالح إسرائيل. أين ومتى وكيف حمت الشرعيّة الدوليّة لبنان؟ وشفيق المصري أفتى قبل أعوام ضدّ القرار، وهو اليوم يفتي إلى جانبه. قل إنه الوحي والإلهام. هذا الكلام هو في السياق ذاته لعناوين أسبوعيّة في جريدة «المستقبل» أو موقع «ناو حريري» عن نيّات لانسحاب إسرائيلي، ساعة من الغجر، وساعة من شبعا، وساعة أخرى من فلسطين برمّتها. هذا الكلام في التطبيق العملي يوازي كلام إلياس المرّ عن تصميم جيشه على الدفاع عن لبنان بوجه أي اعتداء من إسرائيل. وهل يودّ الوزير أن يستعمل عربات الهمفي المستعملة (والمُدمّرة في أكثرها في العراق حيث يبدّل الجيش عربات همفي قديمة بجديدة ومُصفّحة) لصدّ العدوان؟ أم أن خبرته في مواجهة خطر عبدة الشيطان تكفي للردع؟
أما بيار عطا الله (الذي تشغله ليل نهار مسألة لجوء عملاء إسرائيل وجزّاريها في جيش لحد)، فقد بحث وفتش ووقع على واحد من المساعدين الصغار للمحافظين الجدد في أميركا، واسمه وليد معلوف (وقد خاض الانتخابات النيابيّة الأخيرة في لبنان ولم يسمع به أحد). ومعلوف الذي كان مُحرِجاً في صرعاته الإعلاميّة حتى للمحافظين الجدد، أعطى دروساً لعطا الله عن ضرورة تطبيق القرار وعن أهميّة القرار وعن رفض الإدارة الأميركيّة المساومة عليه. كان على بيار عطا الله أن يُقابل أنطوان لحد ويستفتيه في موضوع سيادة لبنان. (ولا علاقة لعطا الله بحزب حرّاس الأرز الإسرائيلي، وإن كان مؤيّداً بريئاً لثورة (حرّاس) الأرز). وفي هذا السياق، ذكّر فؤاد السنيورة بأن القرار موجود، مثلما كان السنيورة «موجوداً» أثناء العدوان على لبنان.
لا شكّ في أن القرار كان نتيجة طبخة لبنانيّة ـــــ سعوديّة ـــــ فرنسيّة ـــــ أميركيّة ـــــ إسرائيليّة. والكل كان يسعى لتحقيق مكاسب ما. ففرنسا في عهد شيراك لا تتعامل في السياسة إلا بحسابات البيع والشراء. وجاك شيراك، منذ كان عمدة لباريس، اكتشف الكرم العربي الذي يتطابق مع حسابات الفاسدين من السياسيّين في الغرب. وفضيحة «أبسكام» في أميركا اعتمدت على الخنوع الذي يظهره السياسي الفاسد في الغرب لمن ينطق باسم المال النفطي. وكتاب رئيس تشريفات صدّام حسين (الذي شارك الحزب الشيوعي اللبناني في تكريمه أخيراً مع أنه ارتكب مجازر ضد الشيوعيّين)، فضح درجة الإغداق المالي من صدّام على عائلة جاك شيراك ـــــ والأخير ارتبط بعلاقة وثيقة مع صدّام عبر السنوات، قبل وصوله إلى سدّة الرئاسة في فرنسا. شيراك شعر أنه بحاجة لفعل شيء ما لتصويب علاقته مع إدارة بوش. وكانت الولايات المتحدة عامي 2003 و2004 تزخر بحملات شبه عنصريّة ضد كل ما هو فرنسي إلى درجة أن أسماء بعض الأطباق في مطعم الكونغرس غُيِّرت لاستبعاد اسم فرنسا منها. كما أن محطّة فوكس اليمينيّة (وهي بإمرة روبرت مردوخ الذي سيوجِّه العديد من الشاشات العربيّة عمّا قريب) احتضنت حملة مقاطعة البضائع الفرنسيّة في أميركا.
وكان شيراك قد أغضب إدارة بوش بسبب معارضته الشديدة (مبكّراً) للحرب الأميركيّة على العراق، كما أن وصفه للعراق بأنه تحت الاحتلال الأميركي أثار غضب اليمين الأميركي. أصبحت عبارة «صندوق باندورا» على كلّ شفة ولسان حول العالم. شعر بوش أن شيراك يؤلّب الرأي العام الدولي ضدّه. لكن شيراك لم يستسغ العزل والإهانة اللذين لحقا بنظامه من قبل أميركا. أدرك أن بوش يبحث في جدولة عدائه ضد سوريا بصورة خاصّة، لأن الحساب الأميركي توقّع سهولة وقوع الثمرتيْن السوريّة والإيرانيّة، إذ توقّع نجاحاً باهراً في تجربة استعمار العراق. أدركت إدارة بوش أن خيار الحرب على سوريا بات مستحيلاً في ظل التعثّر الأميركي في العراق. تطوّع شيراك بإدارة ملف سوريا وفق أجندة بوش والمحافظين الجدد. وهذه الأجندة لم تكن يوماً ـــــ خلافاً لحسابات وليد جنبلاط ـــــ تسعى لإسقاط النظام في سوريا. وفي مسألة تحديد وجهة السياسة الخارجيّة الأميركيّة نحو الشرق الأوسط، هناك اختبار أو معيار بسيط يتجسّد بالسؤال عن «مصلحة إسرائيل في هذا الأمر». وبناءً عليه، فإن إسرائيل تفضّل نظاماً متماسكاً على حدودها على بديل غير واضح المعالم.
أرادت إدارة بوش إذلال النظام في سوريا لفرض تعاونه في الملف العراقي ومن أجل الرضوخ للشروط الإسرائيليّة في ما يتعلّق بمسألة الصراع العربي الإسرائيلي ـــــ أي على نسق الانصياع المصري والأردني والـ«أوسلوي» في رام الله. لبنان شكّل منذ عام 1976 عنصر قوّة في يد النظام السوري. كما أن إدارة بوش كانت مدركة أن إسرائيل تريد وبسرعة القضاء على حزب الله ـــــ أو على أيّة قوّة مقاومة ضدّها في لبنان، لبنانيّة كانت أم فلسطينيّة، شيعيّة أم بوذيّة، دينيّة أم علمانيّة، يمينيّةً أم يساريّة ـــــ من أجل توفير الأمن لاحتلالها الغاصب في أرض فلسطين، ومن أجل العودة إلى معادلة قمع الشعب الفلسطيني في لبنان، التي رتّبها فؤاد شهاب برضى أميركي بعد ولادة الكيان الغاصب.
أما السعوديّة، فدورها ضروري لأن رفيق الحريري لم يُقدم على أي خطوة في السياسية الخارجيّة (وحتى في السياسة الداخليّة وشؤونها، كما روى الياس الهراوي في أكثر من حديث) من دون التنسيق أو الموافقة من الحاكم السعودي (ينطبق هذا على مسلك سعد بن رفيق، أيضاً طبعاً). والسعوديّة تعلم ـــــ مثلما تعلم كل الأنظمة العربيّة، وخصوصاً تلك التي تسعى للتوريث ـــــ أن أقرب طريق إلى قلب واشنطن يمرّ عبر تل أبيب. ومثل فرنسا، فإن السعوديّة كانت تسعى لإرضاء واشنطن بعد غزو العراق. ليس لأنها عارضته ـــــ هي لم تعارضه إلا بلطف ولفظيّاً فقط إذ إنها قدّمت تسهيلات عسكريّة واستخباراتيّة للقوّات الأميركيّة الغازية ـــــ بل لأنها لم تؤيّده جهاراً، وخصوصاً أن آل سعود جهدوا لإرضاء واشنطن بكلّ الوسائل بعد 11 أيلول. وعلمت السعوديّة لا شك أن انسحاب القوات السوريّة ونزع سلاح حزب الله، وسلاح أهل المخيّمات، يلخّص وبإيجاز كل المطالب الإسرائيليّة في لبنان. كلّها من دون استثناء.
أما إسرائيل، فقد زهت عبر دبلوماسيّيها بدورها في توليد القرار 1559 بعد اغتيال الحريري، إلا أن الصحافة الإسرائيليّة نقلت عن مسؤولين أميركيّين طلبهم من الحكومة الإسرائيليّية عدم الترويج للدور الإسرائيلي في توليد القرار خشية إحراج حلفاء أميركا في لبنان. وإسرائيل قدّمت لرؤيتها للبنان من خلال القرار. أي إن القرار هو نسخة معدّلة واستهلاليّة عن اتفاق 17 أيّار الإسرائيلي الصنع.
لكن دور رفيق الحريري هو الدور الأبرز لأن القرار كان يحتاج إلى تغطية من شريك لبناني يتمتّع بشرعيّة شعبيّة لم يتمتّع بها أمين الجميّل عام 1982، ممّا خذل راعيه الأميركي رغم حصوله على مباركة سعوديّة ـــــ كما أن رفيق الحريري عمل للترويج لاتفاق 17 أيّار بين الزعماء المسلمين، وقد تعرّف إلى مهندسي 17 أيّار ومروّجيه في حكم الجميّل من طراز زاهي بستاني وداوود الصايغ. لكن رفيق الحريري لم يكن في وارد المجاهرة بدوره. على العكس: لجأ إلى الخديعة عبر نفي دوره وإعلان معارضته لقرار شارك هو في طبخه من حيث نقش العبارات بطريقة تتوافق مع رؤيته للواقع اللبناني. وقد وصف مسؤول في الأمم المتحدة في حديث مع جريدة الـ«تايمز» اللندنيّة (18 آذار، 2005) القرار 1559 بـ«طفل» الحريري، وأضاف أنه كان «فخوراً جدّاً به» (يبدو من المقال أن المسؤول الذي لم يودّ الإفصاح عن اسمه هو تيري رود لارسن مُنسّق سياسات أميركا الصهيونيّة في الأمم المتحدة).
وتوقيت طبخ القرار تزامن ليس مع حرص طارئ من رفيق الحريري على سيادة لبنان، التي ساهم مع كل حلفائه الخارجيّين، وخصوصاً في النظام السوري، على خرقها وذلك بالتوافق مع مصالحه السياسيّة والاقتصاديّة، بل مع تفاقم الخلاف بين قوى متصارعة داخل النظام في دمشق. ويظن الزميل جاشوا لاندس أن رفيق الحريري كان يعمل مع حلفاء له داخل النظام (مثل عبد الحليم خدّام وغازي كنعان وحكمت الشهابي) من أجل تدبير انقلاب لإطاحة بشّار الأسد بالتوافق مع السعوديّة وأميركا، ولكن لا دليل على ذلك حتى اليوم. ومن المستبعد أن يكون الحريري البعيد عن المغامرة قد حضّر لانقلاب داخل سوريا. الأصح أن الحريري كان يعمد من خلال سلاحه القوي (الرشى على نطاق واسع، وخصوصاً مع رموز الفساد مثل خدّام الذي كان يقبل بـ«هدايا» من نوع صناديق خضر وفواكه ومعلّبات من سياسيّين لبنانيّين) إلى التأثير على النظام في سوريا عبر ترجيح كفّة الجناح الذي يأتمر بأمواله الوفيرة. وقد يكون الحريري الذي بدأ بمعاناة عقد نابوليونيّة (تجلّت من خلال علاقات وثيقة مع الفريق الدحلاني في فلسطين، والعلاّوي في العراق المُحتلّ، بالإضافة إلى توثيق العلاقة مع الهاشميّين ظنّاً منه أن أميركا ستنصّبه والياً في الشرق)، ظنّ أنه يستطيع الدخول إلى البيت الأبيض بعدما تعرّض للمهانة في آخر لقاء له مع بوش عندما كان يعدّ لباريس 2. كبرت طموحاته وكبر إيمانه بقدرته على الحصول على موقع حظوة في إدارة بوش.
الحريري عكس توافقاً فرنسيّاً ـــ أميركيّاً أراد أن يقطف ثماره. أراد اللعب على الحبليْن: قبل بأن يمدِّد للحّود (ويريد مريدوه أن يقنعونا بأنه كان مُرغماً مع أن عشرات من النوّاب لم يمدِّدوا) في العلن مقابل أن يعمل على إقصائه، أو إضعافه في السرّ. لكن أسلوب الحريري في الفصل بين السياسة العلنيّة والسياسة السريّة كان صنواً لدخوله معترك العمل السياسي. رفيق الحريري عمل بجهد ولشهور وعبر رحلات مكوكيّة للتوصّل إلى القرار 1559 (وبهندسة من صديقه الصهيوني المتطرّف، تيري رود لارسن الذي لا يغمض جفناً في خدمة المصالح الإسرائيليّة في الأمم المتحدة) مع أنه قرّر أن يعلن معارضته له علناً، متمرّساً في النفاق السياسي، وخصوصاً في التعامل مع سوريا. علم الحريري أن غاياته تتوافق مع المصالح الأميركيّة ـــــ الإسرائيليّة وأن شيراك كان مستعدّاً لدفع أي ثمن سياسي للتقرّب من بوش، ولخدمة صداقته مع الحريري، وهي صداقة منزّهة عن الغرض المالي طبعاً لأن بين شيراك والمال نفوراً منذ أيام عمدة باريس.
والنظام في سوريا استهان بالقرار منذ البداية، ربما لعلمه بأن الخيار العسكري الأميركي زال. وطلع المحلّل «الرسمي» عماد فوزي الشعيبي بتحليل أن القرار لم يشر إلى سوريا وإلى جيشها في لبنان وكأن في الأمر غموضاً، مع أن بصمات إسرائيل تبدو في كل كلمة في القرار رغم الغياب المشبوه لكلمة إسرائيل في نص القرار. أي إن الغياب أكثر خبثاً من الإيراد.
القرار 1559 يجب أن يُدرّس في كتب تاريخ لبنان. هو درس في الإيغال في خرق سيادة لبنان منذ إنشاء الكيان. يمكن الأمم المتحدة أن تأخذ قرارات تتعلّق بشؤون بين الدول في أمور التدخّل بين الدول (إلا إذا كان التدخل مأذوناً له من الإمبراطور الأميركي، مثل القصف السعودي الجوّي لمواقع في اليمن أو تدخّل القوات الأردنيّة في النزاع هناك)، لكن القرار في جوانب أخرى منه يتدخّل في تفاصيل تتعلّق بالحدّ الأدنى من السيادة الوطنيّة لأي دولة مهما كانت صغيرة وهامشيّة مثل مسخ الوطن، لبنان. يطالب القرار بنزع السلاح عن فئات لبنانيّة، وهذه سابقة، لكن أي دولة تستطيع أن تسبغ شرعيّة السلاح على أية فئة من شعبها، كما أن الميليشيات ـــــ من دون الدخول في تفصيل تعريفها ـــــ حق من حقوق السيادة الوطنيّة، مثلما سمح الدستور الأميركي بإنشاء ميليشيات. ومقاومة الاحتلال لا تستجدي شرعيّة من دولة، بل تستقيها من المقاومة نفسها. ولا تستطيع دولة في العالم وعظ دولة أخرى في أمور تتعلّق بحقوقها في الدفاع عن أرضها في وجه عدو كامن على الحدود، وله من تاريخ الغزو والاحتلال والقصف ما له. والولايات المتحدة تنشئ الميليشيات الخاضعة لها في رام الله وفي قندهار وفي الأنبار، من دون أن يصدر قرار عن مجلس الأمن للمطالبة بنزع سلاح الميليشيات. أي إنه يحقّ للولايات المتحدة في ربوعنا ما لا يحقّ لنا.
لكن المأخذ أو الاعتراض على التعاطي اللبناني مع القرار المذكور ينطبق على الموالاة وعلى «المعارضة في الحكم». وبدلاً من الصراخ بضرورة الثلث المُعطّل، كان من الأجدى تسجيل سابقة غير مألوفة في التاريخ اللبناني عبر الإصرار على ضرورة نسف القرار من أساسه وعلى ضرورة مبدئيّة رفضه من أساسه لمخالفته الشروط الأولى للسيادة. لكن لبنان بلد يقبل بممثّل ـــــ وليّ أمر ـــــ للأمم المتحدة فوق أراضيه، كما كانت حال الدول المُستعمَرة في حقبة عصبة الأمم. وممثل الأمين العام في لبنان يجول على كل الأطراف ويبدي آراء في كل المواضيع بما فيها موضوع تأليف الحكومة والانتخابات والنزاع بين أطرف مختلفة في لبنان. لو كان هناك فريق سيادي في لبنان ـــــ في كلا المُعسكريْن ـــــ لتجلّى إصرار على ضرورة طرده من دون كياسة من الأراضي اللبنانيّة لأن وجوده يتنافى مع أبسط شروط السيادة.

أسلوب رفيق الحريري في الفصل بين السياستين العلنيّة والسريّة كان صنواً لدخوله معترك العمل السياسي
لكن القرار 1559 بلغ سابقة أخرى في قضيّة الانتخابات الرئاسيّة. كان تيري رود لارسن يكرّر ضرورة إجراء انتخابات رئاسيّة في لبنان دون تعديل الدستور. ولارسن لا يطلّ على المنطقة دون المرور على خادم الحرميْن لأخذ النصيحة والإرشاد. لا ندري إذا كان يبحث معه هو أيضاً في قضيّة إجراء انتخابات رئاسيّة في الرياض، أو أنه يبحث ذلك مع حلفاء أميركا من ذوي الآجال الرئاسيّة والملكيّة الأبديّة. وفي إمرار القرار في موضوع انتخابات داخل بلد معيّن خرق فاضح لميثاق الأمم المتحدة من حيث استقلال الدول الأعضاء في المنظمة الدوليّة وسيادتها. لم تصدر الأمم المتحدة قراراً يدين التزوير في «انتخابات» حميد قرضاي (ندّ السنيورة في عهد بوش) الأخيرة، ولم تصرّ على حق الشعب المصري، ولو مرّة واحدة في تاريخه، بإجراء انتخابات حرّة ونزيهة.
الدول ذات السيادة ـــــ ولبنان لم يكن واحداً منها ولا مرّة في تاريخه ـــــ تقبل من القرارات الدوليّة ما يتناسب مع قوانينها ومصالحها، وترفض منها ما تشاء. وإسرائيل تملك من السيادة في هذا الصدد أكثر من كل الدول العربيّة جمعاء. لكن السيادة قرار، وليست هبة ولا حظوة.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)