لا جدار فولاذياً سيحجب شمس المقاومة». تحت هذا العنوان، نفّذ أمس الحزب الديموقراطي الشعبي اعتصاماً أمام السفارة المصرية في بيروت. والخميس، تنطلق حملة «وقف جدار العار» (الساعة 11، مقهى ة مربوطة). هنا مقال لرئيس تحرير مجلّة «الآداب» عن السياسات المصريّة تجاه الشعب الفلسطيني
سماح إدريس
ما يَحدث في مصر الآن ينتمي إلى الخيال العلميّ، ولكنْ من النوع القبيح والسمج والمقرف والمغيظ.
فبإملاءات أميركيّة، ولتوريث جمال مبارك، أغلق النظامُ المصريّ معبرَ رفح أمام الشعب الفلسطينيّ في غزّة، حارماً إيّاه الدواءَ والطعامَ والسلاح.
وبإملاءات أميركيّة، ولتوريث جمال، يضغط النظامُ المصريّ على حركة حماس (المنتخبة ديموقراطيّاً منذ عام 2006) للقبول بشروط «المصالحة» مع سلطة محمود عبّاس، المنتهية ولايتُها، والتي لا تعدو أن تكون «العمّ توم» خادمَ السيّد آرثر شلْبي (في رواية الكاتبة الأميركيّة هارييت بيتشر ستو الشهيرة). وشروطُ هذه المصالحة المزعومة هي قبولُ حماس بشروط الرباعيّة الدوليّة، أيْ: نبذ العنف (المقاومة)، والاعتراف بإسرائيل، وإقرار الاتفاقيّات المجحفة السابقة (كأوسلو)... أي القبول بما يُنهي القضيّة الفلسطينيّة فعليّاً بوصفها حركة تحرّر وطنيّ. ولا تخجل افتتاحيّةُ جريدة الجمهوريّة، الناطقة بلسان مبارك، بتاريخ 17/12/2009، من ربط فكّ الحصار المصريّ عن غزّة بهذه المصالحة ربطاً مباشراً حين تقول بالحرف: «على حماس أن تبادر بتوقيع اتفاقيّة المصالحة من أجل فتح المعابر»!
وبإملاءات أميركيّة، ولتوريث جمال، يسدّ النظامُ المصريّ الأنفاقَ التي اجترحتْها العبقريّةُ الشعبيّةُ الفلسطينيّة للتعويض من سدّ المعابر. فمن بين 3000 نفق، دَمّر النظامُ «الحريصُ» على المصالحة (والمصلحة) الفلسطينيّة أكثرَ من 2850 نفقاً: إمّا بتفجيرها بمن فيها، أو بإغراقها بالماء، أو برشّ الغاز فيها وإبادة «المتسلّلين» عبرها (الجزيرة نت). الواجب ذكرُه أنّ الأنفاق الفلسطينيّة هي مصدرُ 60% من حياة سكّان غزّة، بحسب كارين أبو زيد، المفوَّض العامّ للأمم المتحدة لإغاثة اللاجئين وتشغيلهم (الأونروا)؛ ومنها «تهرَّبُ» إلى الشعب الفلسطينيّ المحاصَر علبُ الحليب، والأطعمةُ، وموادُّ البناء، والقرطاسيّةُ، والكتبُ، والوقودُ، والأحذيةُ، وقطعُ غيار السيارات... ومنها أيضاً يهرَّب، على الأرجح، السلاحُ إلى المقاومة الفلسطينيّة في غزّة.
أيُّ نابغة هو جمال مبارك حتى تفتدي مصر عروبتَها وكرامتَها وأرواحَ الشعب الفلسطينيّ في سبيله؟
وبإملاءات أميركيّة، ولتوريث جمال، يستكمل النظامُ المصريّ في هذه اللحظات بناءَ جدار فولاذيّ تحت الأرض على طول الحدود الفاصلة بين مصر وغزّة. هذا الجدار هو من تصميم «سلاح المهندسين في الجيش الأميركيّ»، ويُشْرف عليه ضبّاطُ استخبارات أميركيّون وفرنسيّون، ويهدف إلى هدم الأنفاق الفلسطينيّة ومنع إقامة غيرها. وطبقاً للتقارير الكثيرة (من الصحافة العربيّة والإسرائيليّة والأميركيّة)، فسيُغرس الجدارُ على عمق 20ـــــ30 متراً، وهو مصنوعٌ من صفائحَ فولاذيّة، يبلغ طولُ الواحدة منها 18 متراً وسمكُها 50 سنتيمتراً، وتحيط بهذا الجدار «مجسّاتٌ» تنبّهُ رجالَ الأمن المصريّ والإسرائيليّ والأميركيّ والفرنسيّ إلى محاولات خرقه. الجدير قوله إنّ ضخّ المياه المصريّة عبر الجدار الجديد، على ما يبيّن الخبيرُ المائيّ نزار الوحيدي، قد يلوِّث الخزّانَ الجوفيّ على الحدود الجنوبيّة لقطاع غزّة، لكونه خزّاناً داخليّاً «مشتركاً ومتداخلاً»!
وبإملاءات أميركيّة، ولتوريث جمال، يُضرَبُ متظاهرون أجانب في العريش وفي ميدان التحرير وسطَ القاهرة، لا لسبب إلا لأنّهم أرادوا إيصالَ بعض الدواء والغذاء إلى أطفال غزّة المحاصرين. الطريف أنّ السفارات الغربيّة، التي ينتمي بعضُ المتظاهرين إلى دولها، لم تحرِّكْ ساكناً ضدّ وحشيّة رجال الأمن المصريّ في حقّ رعاياها، الأمرُ الذي يؤكّد التواطؤ الغربيّ ــــ المصريّ ــــ الإسرائيليّ على شعب فلسطين، فضلاً طبعاً عن زيف دفاع الدول الغربيّة عن حقوق بعض «الغربيين» أنفسهم!
أيستحقّ جمال مبارك كلَّ هذا يا ناس؟ أيُّ نابغة هو حتى تفتدي مصر عروبتَها وكرامتَها وأرواحَ الشعب الفلسطينيّ في سبيله؟ بل أيُّ شرف يبقى لمصر، نظاماً ودولة، بعدما تحالفتْ تحالفاً مباشراً وسافراً مع أعتى أعداء العرب: إسرائيل والحكومة الأميركيّة ذات الجلد الأسود والأقنعة البِيض (إنْ كان لنا أن نستخدم عنوانَ كتاب فرانتز فانون الشهير)؟
النظامُ المصريّ اليوم شريكٌ مباشرٌ في مخطّط أميركيّ ــــ إسرائيليّ للقضاء على حركة حماس أولاً، وعلى المقاومة الفلسطينيّة ثانياً. وتفوح رائحةُ التواطؤ هذه مع قرار الحكومة الإسرائيليّة، قبل أيّام، بناءَ جدار إلكترونيّ على طول الحدود مع مصر (250 كيلومتراً) يمتدّ من نقطة أمّ الرشراش/إيلات إلى نقطة معْبر العوجة. هذا الجدار الإلكترونيّ الإسرائيليّ، كما هو واضح، يكمِّل الجدارَ الفولاذيّ المصريّ. إنها، إذاً، «حربُ جدران» تُشَنّ على شعب فلسطين ومقاومته: من جدار الفصل العنصريّ الذي نصبه العدوُّ الإسرائيليّ قبل أعوام داخل حدود الضفّة الغربيّة بين هذه الضفّة والكيان الصهيونيّ، إلى الجدار المصريّ الفولاذيّ، فالجدارِ الإسرائيليّ الإلكترونيّ.
■ ■ ■
لكنّ لنظام مبارك شركاءَ مباشرين وغيرَ مباشرين بين ظهرانينا، ويتمثّلون في:
1 ــــ سلطة أبي مازن. فهذه لا سلطة لها إلا على شعبها، ومع ذلك لا تتورّع عن تأييد حصار غزّة من أجل إسقاط «عدوّتها» حركة حماس وتنصيب نفسها سلطة لا شريكَ لها. ولم يتردّدْ أبو مازن شخصيّاً في تأييد الجدار المصريّ بوضوح (جزيرة نت 19/12/2009). أمّا نبيل عمرو، أحدُ الأبواق الرسميّة الفلسطينيّة التي زعمت «استقلاليّتها» ذاتَ يوم، فيَرجم الأنفاقَ، مصدرَ حياة شعب غزّة، ويتّهمها بجميع الموبقات: «لقد أضحت مداخلَ ومخارجَ لأمراض فتّاكة، تصيب الفردَ والمجتمعَ وحتى الأخلاقَ والدينَ. فما الذي يُنقل عبر هذه الأنفاق؟ هل الخبزُ والدواءُ والماء، أمْ أنّ في الأمر غيرَ ذلك تماماً؟» (جريدة الغد، 30/12/2009).
2 ــــ المؤسّسة الرسميّة الدينيّة. فقد جاء في بيان رسميٍّ صادر عن مجْمع البحوث الإسلاميّة (التابع للأزهر) أنّ ما «تقوم به مصرُ تأمر به الشريعةُ الإسلاميّةُ التي كفلتْ لكلّ دولة حقوقَها وأمنَها وكرامتَها». بل ذهب البيانُ إلى أنّ «الذين يعارضون ذلك يخالفون ما أقرّت به شريعةُ الإسلام من أنّ لكلّ دولة أن تصونَ حقوقَ أبنائها...» واحتجّ البيانُ، الذي تتصاعد منه رائحةُ النظام، بأنّ الأنفاقَ تُستخدم في «تهريب المخدِّرات وغيرها ممّا يهدِّد أمنَ مصر واستقرارَها ومصالحَها». الطريف أنّ هذا البيان، الذي عارضه 25 أزهريّاً، بينهم عضوان من أعضاء المجْمع المذكور، ينحو منحى قطريّاً، فيتحدّث عن «مصالح مصر»، والمقصود ليس شعبَ مصر بل نظامها. كما يتحدّث عن أبناء «الدولة» المصريّة، لا عن أبناء الأمّة الإسلاميّة كما قد يتوقّع المرءُ من أعلى مرجع إسلاميّ. ومن جديد، يُثبت الأزهرُ (الرسميّ) تبعيّتَه للنظام القُطْريّ المصريّ، بدلاً من أن يكون معبِّراً عن تطلّعات كامل الأمّة (مهما كان تعريفُها) في التحرّر ورفع الظلم.
على أنّنا نسارع إلى القول إنّ مئات الفقهاء وأئمّة المساجد ورجال الدين العرب جهروا بموقف مختلف عن بيان الأزهر الذيليّ البائس وعن محمّد سيّد طنطاوي (الذي سبق أن صافح مجرمَ الحرب شيمون بيريز). فإلى جانب الأزهريين الخمسة والعشرين الوارد ذكرُهم أعلاه، كان الشيخ يوسف القرضاوي، رئيسُ الاتحاد العالميّ لعلماء المسلمين (وهو مصريُّ الجنسيّة كما نعلم)، قد أفتى قبل بيان الأزهر بأنّ الجدار المصريّ «عملٌ محرّمٌ شرعاً»، مضيفاً: «صحيح أنّ مصر حرّةٌ ولها حقُّ السيادة على بلدها، لكنها ليست حرّةً في المساعدة على قتل قومها وإخوانها وجيرانها من الفلسطينيين». ومن لبنان شجب السيّد حسن نصر الله والشيخ ماهر حمّود وآخرون جدارَ العار المصريّ؛ ومثلهم فعل الشيخ عبد الرحمن شيبان (رئيسُ جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريين)، وعبد المجيد الزنداني (جزائريّ أيضاً)، والدكتور عبد الصبور شاهين (داعية إسلاميّ وأستاذٌ متفرّغٌ بكليّة دار العلوم بجامعة القاهرة).
3 ــــ مؤسّسة الجامعة العربيّة. هذه المؤسّسة الفاقدة الأهليّة، بشخص أمينها العامّ عمرو موسى، اصطفّت، كعادتها، إلى جانب حسني وجمال مبارك، بدلاً من أن تنتمي إلى الحسّ الشعبيّ العربيّ الذي يتملّك غالبيّةَ العرب. فقد تهرّب موسى من اتخاذ موقف حازم ضدّ الجدار المصريّ، زاعماً في تصريح أدلى به في 28/12/2009 أنّ الجدار المصريّ «مطروحٌ صحافيّاً وليس مطروحاً على أيّ مؤسسة». ومضى أبعدَ من ذلك في تبرير الجدار القاتل حين أكّد أنّ «سيادةَ أيِّ دولة موضوعٌ مسلّمٌ به»، وكأنّ دورَ الجامعة العربيّة هو الدفاعُ عن سيادة «الدولة» لا سيادة الأمّة أو «الدول العربيّة» (بصيغة الجمع لا المفرد) التي يُفترض بالجامعة أن تمثّلها بحكم اسمها، أو الدفاعُ عن الإنسان العربيّ المقهور والمجوَّع والمحاصَر. وعليه، فليس من المبالغة أن نطلقَ على موسى ما يستحقّه من لقب: إنه، منذ ما قبل صمته المريب مقارنةً بموقف رئيس الوزراء التركيّ رجب طيّب أردوغان أثناء مؤتمر دافوس في 29/1/2009، أهلٌ لأن يسمّى «أمينَ عامّ النظام المصريّ (أو الرسميّ) العربيّ». وهذا ما ينبغي أن يَدفع بكلّ عربيٍّ صادق إلى أن يَنفض يدَه (للمرّة المئة بعد المليون) من هذه المؤسّسة الهزيلة، وأن يواصلَ البحثَ عن صيغ وأطر جديدة لتمثيله.
4 ــــ القوى الإسلاميّة المصريّة. صحيحٌ أنّ هذه القوى عبّرتْ عن رفضها وسخطها من جدار العار المصريّ، إلا أنها أبدت استرخاءً لا يليق بحجمها ولا بقوّتها في الشارع المصريّ والعربيّ. فلقد اقتصرتْ «تحرّكاتُها» على بيان للإخوان المسلمين في 26/12/2009، وعلى بيان آخر للمراقب العامّ للإخوان د. همام سعيد عزم، وعلى مواقفَ شاجبة أخرى داخل مجلس الشعب (بلسان محمد العمدة، ومحمد سعد الكتاتني، وصبحي صالح، وعلي لبن، وتيمور عبد الغني،...). كما أنّ الكتلة البرلمانيّة للإخوان (ومنهم الدكاترة محمد البلتاجي وحمدي حسن وحازم فاروق) أقاموا دعوى قضائيّةً أمام مجلس الدولة ضدّ مبارك ووزراء الدفاع والداخليّة والريّ والموارد المائيّة والبيئة. ودشّن الإخوانُ في الإسكندرية حملةً لجمع التواقيع ضدّ الجدار. هذه التحرّكات، على قيمتها التعبويّة الكبيرة، ولا سيّما الدعوى القضائيّة، لا جدوى عمليّة لها إنْ لم تترافقْ مع تحرّكات شعبيّة عارمة تحشد الألوفَ المؤلّفة التي يستطيع «الإخوانُ» جمعَها ضدّ خطوة النظام المصريّ الإجراميّة.
5 ــــ إعلاميّي النظام الرسميّ العربيّ، وعلى رأسهم مردّدو ادّعاءاته على بعض الفضائيّات والجرائد، وخاصّةً قناة «العربيّة» السعوديّة وجريدة الشرق الأوسط السعوديّة (عبد الرحمن الراشد مثلاً بتاريخ 24/12/2009) وجريدة الجمهوريّة المصريّة (راجع افتتاحيّة الأخيرة بتاريخ 17/12/2009). هؤلاء يكرّرون كالببغاءات ذرائعَ النظام المصريّ لبناء الجدار/الجريمة، وأهمُّها:
أ) الدفاعُ عن سيادة مصر بحجّة أنها «شأنٌ داخليّ». وهذا عينُ ما يقوله رئيسُ الحكومة د. أحمد نظيف، ووزيرُ الخارجيّة أحمد أبو الغيط، والمتحدّثُ الرسميّ باسمه حسام زكي. على أنّ هذا منطقٌ متهافتٌ وغيرُ إنسانيّ فعلاً. فالقانونُ الدوليّ واتفاقيّةُ جنيف الرابعة يَمنعان تجويعَ السكّان المدنيين؛ وقد جاء في المادة 55 من الاتفاقيّة المذكورة أنّ مِن «واجب دولة الاحتلال أن تعمل، بأقصى ما تَسمح به وسائلُها، على تزويد السكّان بالمؤن الغذائيّة والإمدادات الطبيّة». وهذا يعني أنّ إخلالَ دولة الاحتلال بهذا المبدأ يَسمح للشعب الواقع تحت الاحتلال، حُكماً، بابتداع وسائل تأمين عيشه وسلامته الصحّيّة. ثم إنّ منطق الحياة (إذا جاز التعبيرُ) أسمى من أيّ منطق (أو لامنطق) آخر، بما في ذلك السيادة. بكلام آخر، فإنّ التدبير النظاميّ المصريّ تدبيرٌ عدائيّ يتخطّى «الحقّ السياديّ» لأنه يضرّ بمصالح مليون ونصف مليون فلسطينيّ. ومن حقّ المجوَّعين، الإنسانيّ والقانونيّ، أن يجترحوا كلَّ الوسائل لرفع شبح الموت عنهم. ومن ثمّ، فإنّ حفرَ الأنفاق مبرَّرٌ، ومطلوبٌ، شرعيّاً وإنسانيّاً (كي لا نضيف: ووطنيّاً وقوميّاً)، وهو يعلو على أيَّ قرار تتخذه أيٌّ من الدول.
إنّ بعضاً من قوّة نظام مبارك ناتجٌ من خفوت نبرة حركة حماس ضدّه
هذا ناهيكم بأنّ كذبة «السيادة المصريّة» لا تستقيم مع مَنْ شَرّع بلاده أمام الإسرائيليين في قلب القاهرة، وسكت عن قتلهم الأسرى المصريين بدم بارد عاميْ 1956 و1967، وسكت عن قتلهم 16 جنديّاً ومواطناً مصريّاً خلال الأعوام الأخيرة. أين كانت أبواقُ السيادة المصريّة (التي تذكّرنا بأبواق 14 آذار السياديّة اللبنانيّة) حين قتل الإسرائيليّون في 18/9/2004 عند الحدود المصريّة كلاً من محمّد عبد الفتّاح وعلي صبحي النجّار وعامر أبو بكر عامر من الأمن المركزيّ؟ وأين كانت حين استُشهد الشابّ ميلاد حميده (2001) والمواطن سليمان موسى والضابط محمّد القرشي (2008) في غير مكان من الحدود المصريّة مع الكيان الصهيونيّ؟ أمْ أنّ السيادة لا يخرقها إلا شعبُ غزّة المحاصر، وحزبُ الله... ومشجّعو الفريق الجزائريّ لكرة القدم؟
ب) الادّعاءُ أنّ الأنفاق تهرِّب المخدّرات إلى داخل مصر، وكأنّ غزّة أكثرُ امتلاءً بالحشيش من مصر (!). بل ذهب كتبة النظام المصريّ، مواربةً أو تصريحاً، إلى أنّ جدار العار ذو فائدة أخلاقيّة أخرى: إذ تتناقل مواقعُ ودوريّاتٌ، استناداً إلى أخبار مصدرُها سياسيّون مصريّون (بينهم، مثلاً، سفيرٌ مصريٌّ سابقٌ في دولة الكيان الصهيونيّ)، أنّ حركة حماس تستخدم الأنفاقَ لتهريب «العاهرات الروسيّات». وتروِّج بعضُ الصحافة والمواقع الإلكترونية المصريّة أيضاً أنّ فتيات مصريّات فقيرات يهرَّبن عبر الأنفاق إلى غزّة، بتواطؤ مع حركة حماس، ليتمّ تزويجُهنّ هناك لقاء ألف دولار، أو لاستغلالهنّ في البغاء في بيوت الأثرياء في غزّة أو داخل الكيان الغاصب. ولو صرف الواحدُ منا وقتاً غيرَ يسير في تصفّح بعض المواقع المصريّة لأيقن بضرورة بناء جدار فولاذيّ بين كلّ شارع وشارع حفاظاً على الأخلاق الحميدة التي ينتهكها الغزّاويّون وحركةُ حماس، أو لتأكّد من أنّ نظام حسني/جمال مبارك هو الحامي الأوّلُ للعرض والشرف العربييْن.
ج) القول إنّ الأنفاق مَعْبر لـ«تهريب السلاح» إلى مقاتلي حماس. «الله، ومالو» (على ما يقول المصريّون)؟ أصار مدُّ المقاومة الفلسطينيّة (بغضّ النظر إنْ كانت تتمثّل في حماس أو كتائب أبي علي مصطفى أو شهداء الأقصى...) جريمة؟ إنه في الواقع عملٌ تنبغي مساندتُه بكلّ الطرق، بل تمجيدُه وإعطاءُ «المهرِّبين» أوسمةً مكافأةً لهم على القيام به؛ وفي أسوإ الأحوال كان يمْكن التغاضي عنه لو لم يكن هدفُ النظام المصريّ الأول والأخير استرضاءَ أميركا طمعاً بفوائدَ كثيرة، أبرزُها توريثُ جمال مبارك.
■ ■ ■
على أنه ينبغي القولُ أيضاً إنّ بعضاً من قوّة نظام مبارك ناتجٌ من خفوت نبرة حركة حماس ضدّه، ومن تقهقر قدرة المثقفين المصريين والقوى الوطنيّة المصريّة على التأثير في الناس، ومن تراجع ضغط الشارع العربيّ.
1) فحركة حماس، بإيحاء من التنظيم الأمّ، أي الإخوان المسلمين في مصر، أو ربّما العكس، ما زالت «تستغرب» تصرّفَ نظام مبارك في قضيّة الجدار والأنفاق. وهي ما زالت «تدعوه» و«تناشده»، باسم «الأخوّة» و«العروبة» و«الإسلام» و«الجيرة». استمعوا مثلاً إلى ما قاله في 28/12/2009 القياديّان في حماس، السيّدان إسماعيل الأشقر ومشير المصري، في الجزائر (نعم الجزائر، حيث يُفترض أن تكون نبرةُ حماس عاليةً جدّاً بسبب العداوة التي استحكمتْ بين النظامين عقب مباريات كرة القدم نهايةَ العام الماضي). بل اقرأوا ما قاله محمد عوض، الناطقُ الإعلاميّ باسم حماس في محافظة رفح أمام المعتصمين يوم 31/12/2009، حين «ناشد الحكومة المصريّة، ممثّلةً في رئيسها حسني مبارك، تذكّرَ الواجب الأخلاقيّ والدينيّ والسياسيّ تجاه قطاع غزّة، ومراجعة القرار القاضي ببناء الجدار الفولاذيّ». وتابع: «إنّ أهل غزّة المُحاصَرين يناشدون إخوةَ العروبة في مصر وقفَ بناء جدار الموت، وتبنِّي خطوات لكسر الحصار الظالم من خلال فتح معبر رفح». وليس غريباً في هذا الصدد أنْ تروّج حماس (على الأقلّ حتى تاريخ كتابة هذا المقال في 14/1/2010) لقبَ «جدار الموت» بدلاً من جدار القتل أو جدار العار، حيث الفاعلُ في التسمية ما قبل الأخيرة أوضح، وحيث الإدانةُ الأخلاقيّةُ في التسمية الأخيرة أسطع.
من الطبيعيّ ألا نزايدَ على حماس في هذا الموضوع تحديداً؛ فهي محاصَرة، وفي موقف لا تُحسدُ عليه، وهي من ثمّ أقدرُ على تقدير الموقف، والتعامل أحياناً بدبلوماسيّة تقتضيها الظروفُ العسيرة. وربمّا كان التصعيدُ الخطابيّ والشعبيّ ضدّ خطوات النظام المصريّ الأخيرة أقربَ إلى أن يكون من مهمّات القوى الوطنيّة خارج قطاع غزّة، وفي مصر بوجه خاصّ. ولكنّ مبالغات حماس الدبلوماسيّة في التعويل على أخلاقيّة النظام وإسلاميّته وعروبته لا تفيد الحركةَ الشعبيّةَ العربيّة التي تعتبره متواطئاً مع الولايات المتحدة وإسرائيل. هذا ناهيكم عن أنّ «المناشدات» لن تنفع لأنّ النظام المصريّ أعجزُ، بنيويّاً، عن التخلّص من الإملاءات الأميركيّة التي أصبح أسيراً لها، سياسيّاً واقتصاديّاً، منذ توقيع أنور السادات اتفاقيّة كامب دايفيد، التي أخرجتْ مصر الرسميّة من دائرة المواجهة مع العدوّ الإسرائيليّ، ووضعتها في معسكر الولايات المتحدة.
2) أما المثقفون المصريّون والقوى الوطنيّة والتقدّميّة المصريّة، فكان موقفُ الغالبيّة العظمى منهم مشرِّفاً كالعادة. فلقد طالب عددٌ من أساتذة الجامعات المصريّة (بينهم الأصدقاء سيّد البحراوي وأمينة رشيد ورضوى عاشور وشيرين أبو النّجا) في بيان أصدروه في 4/1/2010 بوقف «جدار العار»، وندّدوا بتعويق عمل قوافل الإغاثة الدوليّة الذاهبة من مصر إلى غزّة. كما شبّه النائبُ الناصريّ الوطنيّ حمدين صباحي (وكيلُ مؤسّسي حزب الكرامة ــــ تحت التأسيس) الجدارَ بـ«دبلة الخطوبة ورضا العريس إسرائيل». وطالب، مع النائب محمد عبد العليم داود، بـ«محاكمة شعبيّة للحكومة» ولـ«نوّاب الريموت كونترول» (نوّاب الحزب الوطنيّ الحاكم)، عقاباً لهم على عزلة سكّان غزّة بين جدار إسرائيل وجدار النظام المصريّ. ودعا داود إلى «إعدام» رمزيٍّ للحكومة المصريّة في ميدان عامّ، ومعها نوّابُ الحزب الحاكم الذين لا دورَ لهم إلا الموافقة على قرارات «المتحكّم في لعبة البلاي ستايشن والمنفّّذ لتوصيات جمال مبارك». هذا وأدان حزبُ التجمّع (أمين عامّه د. رفعت السعيد) بناءَ الجدار (راجع، اليوم السابع، 31/12/2009). وفي دمنهور أكّد عبد الحليم قنديل، المنسّقُ العامّ لحركة «كفاية»، أنّ الجدار خدمةٌ قدّمها مبارك للبقاء في الحكم، معلناً ــــ في موقف هو الأكثرُ جرأة ــــ «أنه لا يمْكن هدمُ جدار العار من دون هدم النظام الحاكم». وبنبرة مشابهة، أو ربّما أكثرَ حدّةً، طالب د. يحيى القزاز من «حركة لا لبيع مصر» بعدم جواز نسبة النظام الحاكم إلى مصر، بل «ينبغي أن نسمّيه النظامَ الصهيونيَّ الذي يحْكم مصر»!
تلكم عيّنة سريعة جدّاً من مواقف المثقفين المصريين الشرفاء والقوى الوطنيّة المصريّة إزاء جدار العار المصريّ. وهي، كما يتبيّن، مواقفُ كلاميّة وقانونيّة واضحة، لكننا نشكّ في قدرتها على إحراج (مجرّد إحراج) نظام مبارك ووريثه، ما لم تترافقْ مع تفعيل جدّيّ للحركة الوطنيّة المصريّة. لقد ضُربتْ هذه القوى طوال عقود، حتى كاد المرءُ يفقد الأملَ في انبعاثها. ولكنْ لا أمل أيضاً في مصر وطنيّة وسيّدة وحرّة ورديفة للمقاومة الفلسطينيّة إلا برحيل هذا النظام، وارثاً ومورِّثاً. فمصر لم تُفِدْ شيئاً من التخلّي عن فلسطين والعراق والعروبة، وكلُّ ما كسبتْه كان من نصيب «القطط السمان»، أصحاب الملايين، في مقابل ازدياد فقر الشعب المصريّ، وتعزيز القدرة الإسرائيليّة على استفراد لبنان وفلسطين والعراق.
3) يبقى دورُنا خارج مصر، وهو من أهمّ الأدوار، ولكنّه ممّا تضيق به هذه المقالة، وآمل أن يكونَ موضوعَ مقالة مقبلة، حيث سيكون المجالُ أرحبَ لتقييم التحرّكات ضدّ الجدار المصريّ وضدّ الدور الرسميّ المصريّ عامّةً في دعم الحرب على غزّة ومقاومتها. فمن واجبنا، كلبنانيين أو فلسطينيين أو سوريين أو أردنيين... أن «نتدخّل»، بكلّ قوانا، في «شؤون العرب الآخرين»، لا لأنّ هؤلاء العرب ليسوا «آخرين» فحسب، بل أيضاَ لأنّ الصمتَ عن مغامرات الأنظمة المتواطئة انعكس في الماضي، وسينعكس في الحاضر والمستقبل، سلباً على كلّ قطر في ذاته. وما تقوم به هذه الأيّام في لبنان «حملةُ وقف جدار العار» قد يكون خطوةً جديدةً مبدعةً تقتفي خطى «حملة مقاطعة داعمي إسرائيل»، وذلك بفضح الشركات المساهمة في بنائه. ويبدو أنّ الهدفَ الأوّلَ لحملتنا الجديدة سيكون شركةً سبق في زمن المدّ الناصريّ أنْ بَنَتِ السّدَّ العالي. فتأمّلوا!