فواز طرابلسي*ورد في التقرير الذي نشرته «الأخبار» (١٦ كانون الثاني الجاري) عن محاضرتي باللغة الإنكليزية «هل توجد طبقات اجتماعية في لبنان؟» في «سوسيولوجي كافيه» في مقهى «تاء مربوطة» عدد من الأخطاء والالتباسات في الفهم قلبت المعاني، ما يستدعي التوضيحات الآتية:
لم أقل في محاضرتي إنه كانت هناك طبقات اجتماعية قبل الحرب وتقلّصت الهوة بين الطبقات بعد الحرب. من قبيل السخرية والتدليل على مدى ترسّخ تطلّب الفرادة اللبنانية، قرأتُ مقطعاً من دليل سياحي عن لبنان منشور على الإنترنت ينفي وجود الطبقات الاجتماعية في لبنان بحجة أن الملكية الفردية للأرض موزعة بالتساوي بين اللبنانيين (كذا!). وقد عارضه أحد المعلّقين بالقول إنه كانت في لبنان طبقات اجتماعية قبل الحرب لكنها اختفت بعد الحرب وحلّت محلّها الطوائف.
ولا أذكر أنه ورد على لساني القول إن «دراسة الطائفية أساسية في البحث عن وجود طبقات اجتماعية»، كما ورد في التعليق على الصورة. بل قلت إن الوظيفة المخفية للطوائف هي دورها في التوزيع الاجتماعي للعمل وخدمات الدولة والثروات.
ولم أسعَ لمفاجأة أحد بقولي إن «السياسيين ليسوا بالضرورة الأغنياء». تحدثت عن أن طلاب صف أدرّسه في الجامعة الأميركية عن الطبقات الاجتماعية، عندما سألتهم من هم الأغنياء، أجاب معظمهم «الأغنياء هم السياسيون». أي إنه صعب على الطلاب تعيين الطبقة البرجوازية، المتوارية خلف «الطبقة السياسية»، وتقدير مبالغ ثرواتها، علماً بأنها هي الممسكة بزمام الاقتصاد. وبين رواية هذه النادرة والقول إن «السياسيين ليسوا بالضرورة الأغنياء» فارق كبير.
ولا أنا فاجأتُ الحضور أيضاً بالقول إنه لا يوجد أحزاب في لبنان. ورد ذلك في نقدي لعادة سائدة تنفي الشيء إذا كان لا يعجبنا كالقول إنه لا يوجد دولة إذا كانت الدولة القائمة لا تلبي تصورنا عن «الدولة» أو لا ترقى إلى مستوى طموحاتنا. كهذا يجري نفي وجود الأحزاب لأن الأحزاب القائمة محصور أكثرها بمذهب أو طائفة. بهذا المعنى ورد ذكر عدم وجود أحزاب وليس بأي مورد آخر.
أخيراً، لم يرد في حديثي قول «يزيد عدم وجود الدولة في قوة الطائفة». بل ركزّت على أن الدولة هي المجال حيث يعاد فيه إنتاج البنية الطبقية (مثلما هي المجال حيث يعاد إنتاج نظام الطائفية السياسية).
ولا ورد في حديثي إني لن أحاول إقناع الحضور بوجود طبقات لأنها غير موجودة. على العكس من ذلك، قلت إن من يعتقد بأني سوف أحاول إقناع المستمعين بوجود الطبقات سوف يخيب أمله لأني أتعاطى مع الأمر بمنطق أن المتّهم بريء إلى أن تثبت إدانته. عنيت أن الطبقات موجودة في لبنان، كما في أي بلد آخر، وعلى من ينكر وجودها أن يبرهن هو نفسه عن عدم وجودها.
كذلك انتقدت شبه الغياب لدراسة الطبقات وللتحليل الطبقي عن الإنتاج الفكري والسوسيولوجي وذكّرت بأن آخر كتاب عن الطبقات الاجتماعية في لبنان هو كتاب الراحل سليم نصر وكلود دوبار الذي صدر عام ١٩٧٥. وأخذت على معظم علماء الاجتماع الاستسلام للنظريات «الثقافوية» و«الرمزية» و«التمثلية» بديلاً من إنتاج معارف عينية عن مجتمعاتنا.
ولما كان معظم حديثي مركّزاً على كشف آليات حجب الطبقات في لبنان، ولمّا كان تقرير «الأخبار» لم يأت على ذكر أي منها أو يكاد، أودّ في ما يلي تثبيت تلك الآليات الثلاث:
الأولى، التعريف الحصري للّبنانيين على أنهم أبناء طوائف ومذاهب وتعريف حقوقهم القانونية والسياسية والاجتماعية على أنها حقوق طائفية ومذهبية حصراً.

الطوائف بنى تخترق كل مناحي الحياة الاجتماعية وتتدخل في توزيع العمل

ثانياً، الفصل بين النطاق السياسي والنطاق الاقتصادي وحصر الطوائف في النطاق السياسي، علماً بأن الطوائف بنى تخترق كل مناحي الحياة الاجتماعية وتتدخل في توزيع العمل (حصص الطوائف في الوظيفة العامة) وخدمات الدولة والموارد وتوزيع الثروة بين المناطق والفئات الاجتماعية. والطوائف بما هي شبكات محسوبية وتعبئة اجتماعية تولّد الامتيازات الصغيرة والحرمانات الصغيرة والتفاوت في الفرص وفي حظوظ الترقّي الاجتماعي من خلال الدولة (كما من خلال أدوارها المجتمعية في حقول التعليم والصحة والإحسان وسواها). لكن هذه الامتيازات والحرمانات تتم جميعها داخل الانقسامات والفوارق الطبقية الكبرى. لا بمعزل عنها. ولا هي تتم قطعاً بالنيابة عنها. وهكذا تلعب الفروقات الطائفية ــــ الاجتماعية الصغيرة دورها في تمويه الانقسامات الطبقية الكبرى.
ثالثاً، الخطاب السائد في الحياة العامة ومحطّ الإجماع بين شرائح السلطتين الاقتصادية السياسية هو شعار «بناء الدولة»، ما يوحي كأن الدولة غير موجودة أو أنها مدمّرة بحاجة إلى ترميم. مهما يكن من أمر وضع الدولة، فالمؤكد أن الدولة، في ظل في ظل سيطرة حزب المصرفيين والمستوردين والمقاولين على مقدراتها، هي المجال حيث تجري إعادة إنتاج الانقسامات والفوارق الطبقية. يتم ذلك بواسطة القوانين والمؤسسات والأنظمة الضريبية والسياسات الاقتصادية والاجتماعية التي تؤمّن التوزيع المتفاوت للعمل وفرص الارتقاء الاجتماعي وخدمات الدولة والموارد والثروة بين اللبنانيين. أي إن الوظيفة الرئيسية للدولة، كائناً ما كان حجمها أو طبيعتها، هي المحافظة على التراتب الطبقي القائم في المجتمع اللبناني. ومن يعرف شيئاً عن كتاباتي فلا بد أنه لاحظ أن ما ورد أعلاه هو أفكار ومفاهيم وتحليلات ترد بشكل أو بآخر في غير كتاب ونص وحديث ومقال ومقابلة.
* كاتب وأستاذ جامعي