خالد صاغيةمنذ أشهر، افتُتح مطعم وملهى في الطبقة السفلية من المبنى. الروّاد ليسوا من الفتيان. فالأسعار، على ما يبدو، تفرض عمراً ووضعاً مادياً ميسوراً. وتماشياً مع هذا العمر، تختلف الموسيقى في هذا الملهى عمّا يمكن المرء أن يسمعه في معظم الأمكنة الأخرى. فالأغاني التي يصل صوتها بسهولة إلى الطبقة الثانية، هي بمجملها من أغاني الثمانينيّات: سامي كلارك، طوني حنّا، وآخرون ينشد أغنياتهم القديمة مغنّون شباب.
في البداية، كان الوضع مزعجاً. فأن يصلك جوّ السهر والفرح إلى بيتك رغماً عنك، لمجرّد أنّك تسكن في مبنى الملهى نفسه، ليس مسلّياً دائماً، وخصوصاً حين يكون الفرح بعيداً عنك. لكن، مع الوقت، بتّ أستعيد البعد الحنينيّ في تلك الأغاني. فالثمانينيات في لبنان، رغم الرومانسيّة البدائيّة في بعض أغانيها، كانت تحمل شيئاً ما صادقاً وحقيقياً. كانت حرب وموت ودمار، وكان الناس حين يغنّون يبحثون عن فرح حقيقي. الفنّانون أنفسهم كانوا يشقّون طريقهم بصعوبة، لكنّهم كانوا صادقين في علاقتهم مع كلمات أغانيهم، وفي الطريقة التي يصنعون بها مظهرهم: الشراويل المزركشة، الشاربان الكبيران، تسريحات الشعر... كانت محاولة جادّة لبناء شخصية فنية لبنانية، والبحث عن مستمعين لبنانيين. محاولة لاستكمال ما بدأه الأخوان رحباني على صعيد الأغنية اللبنانية، لكن بطريقة «لايت»، وأحياناً «سوبر لايت».
لم تكن عمليّات التجميل قد دخلت على الخط، ولا البحث عن لهجة هجينة إرضاءً للسوق الخليجيّة، ولا احتكارات المتعهّدين. كان المغنّي بسيطاً. والكلمات بسيطة. واللحن بسيطاً. حتّى الصوت الطاغي للأورغ آنذاك كان بسيطاً وجميلاً هو الآخر. كأنّ الجميع آتون من عالم «الدنيي هيك»، لا يحتاجون لأكثر من نصيحة من المختار كي يقنعوا بحياتهم.
جيل كامل من فنّاني تلك الحقبة دفع ثمن بساطته، وسعيه وراء أغنية محلية لم يكن يمكنها الوصول إلى بلاط الأمراء.
بالمناسبة، هل من يذكر أغنية تقول: «حبّيني شويّه شويّه، عالموضة اللبنانيّه، فنجان قهوة عبكرا، وكاس زغيّر عشيّه»؟ هل يذكرها روّاد الملهى نفسه؟ نهاية الثمانينيات لم تكن نهاية عقد. كانت نهاية لبنان نفسه. لبنان آخر بدأ بعد ذلك. لم يجد شكله الحقيقيّ بعد. وقد لا يجده أبداً.