وسيم نابلسي * شاع في الأيام الأخيرة تفسير لوثيقة الوفاق الوطني اللبناني (الطائف) يفترض أن الوثيقة نصت على إلغاء الطائفية السياسية مع الإبقاء على المناصفة بين الطائفتين الإسلامية والمسيحية. ورغم أن هذا التفسير يجمع بين متناقضين، فقد انتشرت تنظيرات وشروح لهذا التأويل توجب التوقف عندها. إذ وبغضّ النظر عن مسألة الحفاظ على الوجه المسيحي للبنان، فإن القاسم المشترك بين هذه الآراء يكمن في النظر إلى النصوص (اتفاق الطائف هنا) بوصفها نصوصاً جامدة أو غبية تطبّق دفعة واحدة بطريقة سكونية غير متحركة، ويمكن أن تتضمن في ثناياها أحكاماً تناقض أخرى.
وللإجابة عن التساؤل عمّا إذا كان إلغاء الطائفية السياسية يعني أو لا يعني إلغاء المناصفة، فإن من الواجب الفهم بأن اتفاق الطائف بوصفه وثيقة إصلاحات دستورية ليس نصاًَ جامداً يطبّق مرة واحدة، بل هو مركّب من مجموعة من الإصلاحات المرحلية التي يلي بعضها بعضاً. إذ إن الغايات النهائية من الاتفاق (ومنها إلغاء الطائفية السياسية) لا يمكن أن تتحقّق دون مرور زمن كاف لاستيفاء الشروط الموضوعية لتحقيقها، ولذلك كان من الواجب إقرار تعديلات وإصلاحات دستورية مرحلية تؤمّن خروج البلاد من حالة الاحتقان والتشظّي السائدة أثناء الحرب الأهلية وقبلها. ولعل هذه السمة المرحلية للطائف تتجلى أكثر ما تتجلى في موضوع إلغاء الطائفية السياسية. فنجد مثلاً النص: «إلى أن يضع مجلس النواب قانون انتخاب خارج القيد الطائفي توزّع المقاعد النيابية وفقاً للقواعد الآتية: ....» (بند 5/ فقرة أ ـــــ مجلس النواب/ 2- الإصلاحات السياسية). وأيضاً الفقرة (ز ـــــ إلغاء الطائفية السياسية): «ويتم في المرحلة الانتقالية ما يلي: ....».
النص يشترط الإبقاء على التساوي بين المسيحيين والمسلمين إلى حين إنجاز قانون انتخاب من خارج القيد الطائفي
فالطائف ينص على إصلاحات فورية جرى اعتمادها مباشرةً بعد إقراره عبر إقرار تعديلات أُدخلت على الدستور اللبناني، وتجاوزت الاتفاق بذاته، بحيث صار التراجع عنها يوجب تعديلاً للدستور اللبناني نفسه لا لاتفاق الطائف. ومن ذلك مثلاً التعديلات التي أدخلت على صلاحيات رئيس الجمهورية وصلاحيات مجلس الوزراء ورئيسه، أو ما بات يعرف لدى اللبنانيين بانتقال بعض الصلاحيات إلى مجلس الوزراء مجتمعاً. ومنها أيضاً وهو ما يهمّنا، النص في الفقرة (ي) من الطائف على أن «لا شرعية لسلطة تناقض ميثاق العيش المشترك». وهي الفقرة التي يستند إليها القائلون بأن إلغاء الطائفية السياسية لا يلغي المناصفة باعتبار ان هذا الميثاق المكرّس في الطائف قائم على أساس المناصفة ولا يمكن بالتالي تجاوزها. ولكن التسليم بهذا الفهم للفقرة (ي) واعتبارها دائمة أبدية يؤديان إلى إفراغ الاتفاق من مضمونه. فمجال تطبيق هذه الفقرة ينحصر مرحلياً في الفترة السابقة لإلغاء الطائفية السياسية ولا يمكن أن يستمر وتستمر معه المناصفة بعد إلغاء الطائفية السياسية. فكيف يمكن قراءة النص على وجوب وضع مجلس النواب لقانون انتخاب من خارج القيد الطائفي في ظل هذا الفهم؟ على العكس من ذلك نجد النص يشترط الإبقاء على التساوي بين المسيحيين والمسلمين إلى حين إنجاز قانون انتخاب من خارج القيد الطائفي، وهو ما يعني بداهةً أن إنجاز هذا القانون يفضي إلى وقف العمل بقاعدة التساوي المسلم المسيحي. كذلك فإن هذا الفهم يتعارض مع النص في الطائف: «مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي، يُستحدَث مجلس للشيوخ تتمثّل فيه جميع العائلات الروحية، وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية».
هكذا فإن الطائف بعدما أرسى الإصلاحات الأوّلية (الفورية) الحاكمة للفترة الانتقالية قبل إلغاء الطائفية السياسية، انتقل إلى مجموعة من الإصلاحات المرحلية الممهّدة لهذا الإلغاء، ومنها إنشاء المجلس الدستوري للرقابة على دستورية القوانين والهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية والمجلس الاقتصادي الاجتماعي الذي من شأنه أن يرسي روابط مصلحية ـــــ مجتمعيّة بين الفئات اللبنانية تتجاوز إشكالية الانتماء الطائفي أو المذهبي أو المناطقي، وأيضاً عبر إلغاء ذكر الطائفة والمذهب في بطاقة الهوية، وكذلك عبر التدرّج في إلغاء قاعدة التمثيل الطائفي في الوظائف العامة والقضاء... إلخ، دون إلغاء هذه القاعدة في وظائف الفئة الأولى (مرحلياً). وهو النص الآخر الذي يستند إليه القائلون بالإبقاء على المناصفة أيضاً ظنّاً بأن استثناء وظائف الفئة الأولى دائم ومؤبد رغم وضوح العبارة السابقة للنص: «ويتم في المرحلة الانتقالية ما يلي». وهو ما يعني أن الإبقاء على المناصفة في وظائف الفئة الأولى هو حتماً مرحليّ لا مؤبّد.
وبعد إجراء كل هذه الإصلاحات، يفترض الطائف أن إلغاء الطائفية السياسية يصبح أقرب إلى الواقع مما هو عليه اليوم أو ممّا كان يوم إقراره، وهو الإلغاء الذي يفرض حكماً إلغاء المناصفة ولا يحتمل بأيّ شكل أو تأويل الإبقاء عليها. هذه المقاربة التي، للأسف، قد لا تناسب أيّاً من الأطراف السياسيين الرئيسيين في البلاد، والتي قد يُشكّ في جدواها في ظل التساؤل عن جدية طرح إلغاء الطائفية السياسية، الذي كان من الأفضل عدم التطرّق إليه مراعاةً لحساسية مسألة الوجه المسيحي للبنان، ما زالت تجد سبباً وجيهاً لطرحها. فكم بدا النائب أنطوان زهرا صادقاً (حدّ السذاجة) في تصريحه عن وجوب الإصرار على الطائفية السياسية حتى لا يهاجر المسيحيون. فمن يستمع إلى هذا التصريح يتساءل ما إذا كان في لبنان ثمة من يرغب في استعادة صلاحيات رئيس الجمهورية، أو ما زال يحلم بزمن المارونية السياسية الجميل!
* محامٍ