معتصم حمادة
غياب الاستراتيجية لدى حماس وفشلها في المواءمة بين متطلبات السلطة ومتطلبات المقاومة، يبرزان عند المنعطفات الأمنية
ومن بينها، أيضاً، وهذا هو الأهم، فشل حماس المواءمة بين متطلبات السلطة، ومتطلبات المقاومة. ولقد برزت هذه المسألة بجلاء واضح، حين أصدر وزير الداخلية في حكومة هنية فتحي حماد، تصريحاً، منذ أسابيع، زعم فيه أن الأذرع العسكرية لفصائل المقاومة في القطاع (حركة حماس ــــ الجبهة الديموقراطية ــــ الجبهة الشعبية ــــ الجهاد الإسلامي) توافقت على وقف قصف الأهداف الإسرائيلية عند خطوط التماس وداخل الحدود. ردود الفعل على التصريح كانت صاخبة حين نفت هذه الأذرع، كلها بلا استثناء، علمها بما ورد على لسان الوزير حماد، وأكدت تمسكها بحقها في كل أشكال المقاومة. غياب الاستراتيجية لدى حماس، وفشلها في المواءمة بين متطلبات السلطة ومتطلبات المقاومة، يبرزان عند المنعطفات الأمنية الحادة، أي كلما سقط للفلسطينيين قتلى بنيران الاحتلال. إذ يلاحظ، في كل مرة أن الرد على العدوان يكاد أن يقتصر على عدد من الأذرع العسكرية ليس من بينها حماس. وأن حكومة هنية تبادر على الفور إلى الاتصال بهذه الأذرع تدعوها إلى وقف القصف، والعودة إلى الالتزام بالتهدئة القائمة خارج إطار الاتفاق الرسمي مع العدو. وهو الأمر الذي دعا رئيس هيئة أركان العدو الإسرائيلي غابي أشكنازي للقول إن حماس «تكبح جماح» الفصائل الفلسطينية وتمنعها من قصف الأهداف الإسرائيلية. وهو أيضاً ما لفت نظر الصحافة الإسرائيلية، التي فسرت الأمر تفسيراً مختلفاً حين قالت إن حماس التي تلقت ضربات قاسية في «الرصاص المصهور» ــــ على حد تعبير الصحف ــــ أوكلت إلى الفصائل الأخرى الرد على العمليات الإسرائيلية.
غياب استراتيجية للمقاومة لدى حماس (أو لنقل: اعتماد حماس استراتيجية غامضة) أربك فصائل المقاومة الأخرى في القطاع. كما أن حالة الانقسام الفلسطيني أوجدت وضعاً اضطرت معه الفصائل الفلسطينية إلى إسقاط عدد من التوجهات من حساباتها.
ففي النقطة الأولى (أي غياب الاستراتيجية، أو غموضها، عند حماس) نلاحظ أن الفصائل الفلسطينية ترد بحذر شديد على الأعمال العدوانية الإسرائيلية على القطاع. فتكتفي في سياق الرد على مقتل سبعة من الفلسطينيين على سبيل المثال، بإطلاق عدد محدود من القذائف لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وهي التي كانت في وقت سابق ترد على عدوان مماثل، بعشرات الصواريخ والقذائف. ويمكن أن نقرأ هذا الأمر على أن الفصائل، بخطواتها المحدودة هذه، إنما لا ترد على العدوان بما يتناسب ونتائجه الدموية، بقدر ما تحاول أن تبعث، لمن يهمه الأمر، برسالة تؤكد فيها أن المقاومة ما زالت موجودة، وأن إرادة القتال ما زالت هي الأخرى موجودة، وأن القضية تكمن أولاً وآخراً في طبيعة الوضع المرتبك الذي تعيشه حماس، كما تعيشه مجمل الحالة الفلسطينية.
وهذا ما يقودنا إلى النقطة الثانية: لنذكّر بأنه مع انسحاب قوات الاحتلال من القطاع في عام 2005 كثرت التكهنات عن مستقبل المقاومة فيه، وكانت أرقى هذه التكهنات والدراسات هي تلك التي دعت إلى الربط، استراتيجياً، بين المقاومة في الضفة الفلسطينية والمقاومة في القطاع بحيث يتحول القطاع بشكل أو بآخر، إلى القاعدة الخلفية للمقاومة في الضفة، وقرئ الأمر بتفاؤل بحيث تتفرغ المقاومة في الضفة لمواجهة المستوطنين وجنود الاحتلال، بينما يقوم القطاع بدور قاعدة الإسناد الخلفية، إذ يتحول إلى مراكز للتدريب، والتذخير، ليمد الضفة بحاجاتها المختلفة، كما يواصل حربه ضد الاحتلال بطريقتين: الأولى مواصلة عملياته القتالية ضد مواقع الاحتلال عند خطوط التماس، في إغارات مفاجئة على الحواجز ومراكز الحماية (كعملية كرم أبو سالم التي أسر فيها شاليت، أو عملية الطريق إلى فلسطين التي نجح فيها مقاتلون من الجبهة الديموقراطية من تسلق جدار الفصل والحواجز الشائكة والإغارة على موقع إسرائيلي خلف خطوط التماس مع القطاع) دون أن يسقط من الاعتبار إمكانية تسلل مجموعة قتالية، بين فترة وأخرى إلى مناطق 48 لاستهداف أحد المواقع العسكرية الإسرائيلية.
من الواضح أن معظم هذه التوجهات بقيت حبراً على ورق. فقد لعب الانقسام دوراً رئيسياً في شل هذه التوجهات وتعطيلها، وخاصة أن اهتمامات حماس انصبت، بعد الانقسام، على إجراءاتها الداخلية («ضبط» القطاع والسيطرة عليه) وتصفية تنظيم فتح وتجريده من سلاحه. كما انصبّت اهتماماتها، على «ضبط» فصائل المقاومة، وخاصة بعد حملة «الرصاص المصهور»، وحماية سلطتها. كما لعبت سياسة السلطة الفلسطينية في الضفة دوراً مكملاً لتوجهات حماس، حين نجحت في شل أعمال المقاومة ضد الاحتلال والمستوطنين، وكان مدخلها إلى ذلك حل «شهداء كتائب الأقصى» الجناح المقاتل لفتح، ما قطع الطريق على باقي الأذرع العسكرية، ووضعها في مواجهة أوضاع شديدة التعقيد، وأمام خطر الصدام المباشر مع أجهزة السلطة نفسها.
هذا الارتباك والتردد في وضع المقاومة الفلسطينية في القطاع، يدعونا للتوقف أمام إحدى محاضرات الجنرال الإسرائيلي المتقاعد، والرئيس السابق لأركان جيش العدو، حالوتس، قال فيها إن الهدوء في لبنان، (بعد عدوان تموز/ يوليو2006) وفي القطاع (بعد «عملية الرصاص المصهور») إنما سببه وصول الرسالة بوضوح إلى الطرفين اللبناني والفلسطيني بأن الرد الإسرائيلي على أي استفزاز سيعتمد استراتيجية «الضاحية»، في إشارة إلى سياسة التدمير الشامل التي اعتمدها طيران العدو في لبنان في حرب 2006 وتسوية أحياء بأكملها بالأرض. وهو الأمر الذي تكرر أيضاً في العديد من الأحياء في قطاع غزة.
وهذا الارتباك والتردد في وضع المقاومة يدعونا للتساؤل إذا كان حديث حالوتس صحيحاً أم أن فيه مبالغات؟ سيبقى السؤال مطروحاً، مع التأكيد أننا بالضرورة مع المقاومة الراشدة التي تأخذ بالاعتبار المصالح الفلسطينية بعيداً عن الغوغائية الإعلامية التي يتبعها بعض الفصائل والمسؤولين دون أي حساب واقعي لطبيعة اللحظة السياسية.
في تقديرنا، أن المقاومة تعيش وضعاً معقداً، من أهم أسبابه الانقسام، وفشل حماس في المواءمة بين متطلبات السلطة ومتطلبات المقاومة. ونعتقد أنها ليست المرة الأولى التي تعيش فيها المقاومة الفلسطينية وضعاً صعباً. ونعتقد، في  السياق نفسه، أن المخرج من هذا الوضع سيكون مصدره الضفة الفلسطينية، لا قطاع غزة. فالأوضاع في الضفة تتجه نحو الانفجار في تراكمات، ولو كانت تبدو للمراقبين بطيئة. وحين تنفجر الأوضاع في الضفة، وتخترق السقف السياسي الذي يرسمه حالياً رئيس السلطة محمود عباس ورئيس حكومته سلام فياض، فإن القطاع سوف يقف عند مفترق طرق: إما أن تبقى حماس تغلب مصلحتها في السلطة على مصلحة المقاومة، وتفقد بذلك المشروعية السياسية لوجودها كطرف مقاوم، وإما أن يتحول القطاع، بكل أذرعه العسكرية، إلى جزء من الانفجار الفلسطيني في وجه الاحتلال والاستيطان، وتتكامل الأدوار بين إقليمي الضفة والقطاع، وتشق الحالة الفلسطينية حينئذ الطريق نحو مرحلة نوعية جديدة.
* صحافي فلسطيني