حسام كنفانيإنها الفرصة الأخيرة، هذا ما جاء جورج ميتشل ليبلغه إلى محمود عبّاس. «إما أن تقبل بما هو معروض عليك اليوم، وإما لن تتحمّل تبعات الرفض»، هذه هي فحوى الرسالة التي حملها المبعوث الأميركي. رسالة وضع وزرها على الجانب الفلسطيني وحده، الذي بات عليه اليوم أن يحدّد وجهة القضية ومسارها.
العرض الأميركي المقدّم بات معروفاً، هو نوع من المزاوجة بين ما حمله الوفد المصري وما كانت إدارة باراك أوباما قد أعدّته سلفاً، لكنه لا يحمل ضمناً فكرة «تجميد الاستيطان» التي يريدها محمود عبّاس.
الفلسطينيون يدرسون العرض، هذا ما أعلنه مسؤولو السلطة، لكن الحقيقة ليست كذلك. ليس الأمر دراسة للعرض بقدر ما هي دراسة للقرار وتداعياته. فالعرض سبق أن وصل إلى رام الله بقنوات غير رسمية، وكل ما فعله ميتشل أن وضع بين يدي أبو مازن المقترحات بصيغتها الرسمية. لم يبقَ على عبّاس إلا أن يقرّر.
على القرار أن يكون واضحاً. لم يعد هناك، بالنسبة إلى الإدارة الأميركية، مجال للمناورة بين السلب والإيجاب. إما القبول المطلق أو الرفض الصريح. عبّاس ومسؤولوه لم يعلنوا إلى اليوم جوابهم، رغم أن تلميحاتهم تشير إلى رفض ما هو معروض. لكن، هل هذا هو الرد النهائي؟ وهل سيتخلّى محمود عبّاس عن مشروعيّة وجوده على رأس السلطة
الفلسطينية؟
حسابات أبو مازن مربكة، هو وضع نفسه في مكان ليس له أساساً. رفع سقف شروطه بشكل لم يعد بإمكانه التراجع عنه، وخصوصاً في ظل حال الكباش القائم بينه وبين «حماس»، ومع تصاعد أصوات الانقسام داخل حركة «فتح»، بين مؤيد للعودة إلى طاولة المفاوضات وآخر معارض لها.
هو يعلم أنه بين خيارين، كلاهما مرّ بالنسبة إليه. لا يفترض بأبو مازن أن يحتار كثيراً، بما أن أي قرار سيأخذه سيؤدي إلى المصير نفسه. العودة إلى التفاوض بالظروف الحالية والشروط الإسرائيلية، سيؤدّي إلى لا شيء، وهو الوضع القائم حاليّاً، وبالتالي إلى الانفجار، الذي لا يريده عبّاس ويسعى إلى تأجيله.
وللمفارقة، فإن عبّاس والمسؤولين الإسرائيليين يتفقون على الخشية من تفجّر الأوضاع في الضفة الغربية. هذا ما يكشف عنه الاتصال الذي تلقاه أبو مازن من شمعون بيريز، ليحذّره من انتفاضة جديدة. من يجب أن يحذّر من؟ ألا يجدر بـ«الرئيس الفلسطيني» أن يكون المالك الحصري لمثل هذه الورقة ليرفعها في وجه الجانب الإسرائيلي؟
هذا ما كان يحصل في السابق، وحصل بالفعل بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد في عام 2000، حين اندلعت انتفاضة الأقصى. لكن أبو مازن ليس أبو عمّار. وأكثر ما يمكن أن يفعله هو تطبيق ما سبق له أن لوّح به والتنحّي عن رئاسة السلطة، ليكون الربّان أول القافزين من السفينة الغارقة.
لتكن الانتفاضة اليوم. لا مجال بعد الآن للرهان على الحراك الجدّي في مسار التسوية. لو جال أبو مازن حول الكرة الأرضية بأكملها، فلن تكون هناك عودة للمفاوضات إلا بشروط الراعي الحصري الأميركي. يكفي بيع الوهم وشراؤه، والتعويل على تحرّك في مجلس الأمن أو غيره، ولا سيما أن المصير سيكون معروفاً سلفاً.
لتكن الانتفاضة اليوم، علّها تبثّ بعض الروح في الجسد الفلسطيني المنقسم على نفسه، وتعطي الإشارة للعالم بأن جعبة الخيارات الفلسطينية لم تفرغ بعد. وحينها، لنر كيف يمكن أن يتعامل «رئيس التغيير» الأميركي مع الحراك الشعبي لتقرير المصير.
لتكن الانتفاضة اليوم. لا مجال للخوف على البنى التحتية التي يتغنى بها سلام فيّاض. لا فائدة من هذه البنى طالما أن السلطة الفلسطينية لن تكون أكثر من إدارة مدنية لأراضٍ تحت الاحتلال. لا مشروع السنتين ولا غيره سيغيّر من واقع الرفض الإسرائيلي لمنح الفلسطينيين سيادة حقيقية على البر والجو والبحر.
لتكن الانتفاضة اليوم. خيار يجب أخذه بجديّة، طالما أنه مثار خشية إسرائيلية. خشية لا بد أن تكون حافزاً فلسطينيّاً لإعادة استجماع أوراق القوّة، علّها تكون حافزاً لإطلاق عملية سياسيّة بمسار صحيح، إذا كان أبو مازن مصرّاً على ذلك.
إنها الفرصة الأخيرة. هكذا يريدها الأميركيون، الذين يسخّرون ضغطهم على الطرف الفلسطيني. ضغط لا يجب أن يتحوّل إلى عامل ضعف ورضوخ. ليكن عامل قوّة للمواجهة، وليسقط الهيكل فوق الجميع.
شمشون قالها مرّة «عليّ وعلى أعدائي»، جرّبها فقد تنفع.