إيلي شلهوبالحراك الأميركي الأخير حيال أفغانستان لعلّه الأكثر تعبيراً عن نوع الإدارة التي تتحكم حالياً في مقاليد السلطة في الولايات المتحدة، ويمثّل نموذجاً عن كيفية تعاطي باراك أوباما مع بؤر التوتر ومؤشراً إلى مقاربته المستقبلية لحركات «مارقة» كحزب الله و«حماس».
من يمتلك ذاكرة قوية يستحضر، على الأرجح، الفكرة المركزية التي قاد من خلالها حملته الرئاسية تحت شعار «التغيير». مشكلة المرشح الأسود في ذلك الحين لم تكن قط أن جورج بوش رئيس حرب، بل حقيقة أنه خاض «الحرب الخطأ» ضد العراق فيما الخطر الذي يتهدّد بلاده يأتي من أفغانستان. وقتها، تعهد أوباما بملاحقة «القاعدة» و«طالبان» و«هزمهما»، وإن كان قد عارض استراتيجية بوش لمواجهة «التمرد» بإغراق العراق بالقوات.
غير أن أوباما عاد واعتمد مقاربة مشابهة حيال «الجبهة المركزية للحرب» في أفغانستان: زيادة عدد القوات لتوجيه ضربة إلى «طالبان» (التي تكسب أرضاً إضافية وتوقع مزيداً من الخسائر «الأطلسية») وشراء المزيد من الوقت لتدريب القوات المحلية. ومع ذلك، كانت هناك فوارق: في العراق كان هدف بوش القضاء على المقاومة، والرهان كان على الصحوات والعراقة العسكرية لهذا المجتمع (إعادة بناء الجيش). أما في أفغانستان، فقد بات واضحاً أن هدف أوباما ليس سوى استدراج طالبان إلى طاولة التفاوض لعقد مصالحة تعطيها حصة من كعكة السلطة (يفعل الأمر نفسه، ولكن سراً، مع البعث العراقي وباقي الحركات المعارضة للعملية السياسية). المعادلة تبدو واضحة في ذهنه: لا استقرار في أفغانستان من دون الباشتون. لا استقطاب لهذه الغالبية العرقية من دون «طالبان»، التي استعادت نفوذها في 33 من أصل محافظات البلاد الـ34، وبلغت هجماتها أبواب القصر الرئاسي في كابول. لتحقيق ذلك (هنا يتدخل العسكر)، لا بد من توجيه ضربة إلى هذه الحركة (السيطرة على قندهار وهلمند والمدن الكبرى والطرق الرئيسية) من أجل إقناعها بفوائد المحادثات. الحجة تفيد بأن «طالبان» لن تفاوض ما دامت ترى نفسها منتصرة. وبما أنها تدرك أن أوباما يبحث عن مخرج (أعلن موعداً لبدء سحب القوات)، فما عليها سوى الانتظار.
لكن هناك وجهة نظر أخرى، يبدو أنها انتصرت في مؤتمر لندن: صحيح أن طالبان قادرة على منع نظام قرضاي من الحكم، لكن القوات الأطلسية قادرة بدورها على منعها من استعادة السلطة. كذلك فإن من مصلحتها التفاوض وهي في أوج قوتها. سبق لكل من أوباما والملا عمر أن مهّدا لتوجه كهذا: الأول ميّز بين طالبان و«القاعدة». أما الثاني فتعهّد بأنّ تسلّم حركته لمقاليد الحكم لن يمثّل تهديداً لأي دولة في العالم، أي إنه لن يؤوي «القاعدة»، الذي ما عاد أصلاً بحاجة إلى أفغانستان بعدما أمّن انتشاراً في باكستان والعراق واليمن والصومال والمخيمات الفلسطينية، بل حتى في ضواحي المدن الغربية وساحات أخرى لا تزال مجهولة.
مهما يكن من أمر، فإن ما يجري في أفغانستان عبارة عن مواجهة بين الولايات المتحدة وطالبان. الأولى أدواتها القوة النارية (عديد وعتاد) والمستشارون (العسكريون والمدنيون) والاعتمادات المالية التي يستنزفها فساد المؤسسات الأفغانية. أما الثانية فنقاط قوتها تتلخص في العصبية والعقيدة والمال الموزّع نقداً. ما جرى في مؤتمر لندن (وما رافقه) ليس سوى اتفاق على طريقة أمثل من أجل استخدام نقاط القوة الأطلسية: 500 مليون دولار لشراء ذمم مقاتلي طالبان (نزع السلاح مقابل الوظائف والسكن). خبراء أجانب للتدقيق في الفساد والحؤول دون هدر الأموال ومراقبة تطبيق الوعود الإصلاحية لقرضاي. تدريب القوات الأفغانية لبدء نقل المسؤولية الأمنية إليها نهاية 2010. تعيين قائد مدني للأطلسي من أجل التنسيق بين الجهود العسكرية والمدنية. دعوة طالبان إلى «لويا جيرغا» (مؤتمر لزعماء القبائل) من أجل احتواء العصبية القبلية. طلب وساطة السعودية لتوفير الغطاء العقائدي. تسليم قرضاي قيادة جهود المصالحة لإعطائها طابعاً وطنياً. آليات كهذه تشير إلى أن مطالبة قرضاي بمصالحة زعماء طالبان، تطغى على التمسك الأميركي بجذب مقاتلي الصفوف الدنيا لتفجير الحركة من الداخل.
يبقى العامل الباكستاني، الذي يوازي في أهميته العامل الإيراني في الحالة العراقية، رغم الفوارق. حسابات إسلام آباد مختلفة في أفغانستان: ساحة صراع مع الهند التي تقف خلف نظام قرضاي. وهي لذلك لا تزال تعدّ طالبان الأفغانية ذخراً استراتيجياًَ لها (لا تزال تمانع اقتحام شمال وزيرستان)، رغم أنها ربما اقتنعت بأن طالبان الباكستانية تمثّل خطراً على نظامها (استجابت للضغوط الأميركية في مهاجمة سوات وجنوب وزيرستان). صحيح أنها تخشى أن يؤدي استمرار النزاع الأفغاني إلى مفاقمة مشكلة التطرف على أراضيها، لكنها ليست مستعدة لتسوية بأي ثمن. تدرك أن «الأطلسي» يتوق إلى المغادرة، وهي تعرض المساعدة، بشروطها.
الإدارة الأميركية وضعت جدولاًً زمنياً للانسحاب من نصف أفغانستان خلال ثلاث سنوات، ومن البلد كله خلال خمس. قرضاي يطالب بـ10 إلى 15 سنة. من المثير معرفة هوية قاطن قصر الرئاسة الأفغاني عند انتهائها. لعلّه أعور بعمامة، أو دمية يحرّكها من مخبئه في الجبال الباكستانية.