حسان الزينأخلاقياً، قبل السياسة، النظام الإيراني، اليوم ومنذ الانتخابات الرئاسية، في أزمة. سياسياً، يمكنه حسم موضوع المعارضة باستخدامه «فائضَ القوّة الثوريّة»، لكن أخلاقياً، الأزمة لا تُحلّ بعملية جراحية، بل ربما للجراحة آثار لا تبقى جانبية، حتّى في السياسة.
ماذا يريد النظام الإيراني من قمعه المعارضة؟ وماذا تريد المعارضة من حراكها؟
سؤال واحد بوجهين لا يمكن التغاضي عن واحد منهما.
على الرغم من أن لا إجابات محدّدة وناضجة وواضحة، إلا أنّه لا القمع السلطوي ولا تحرّك المعارضة مجّانيّان. ولا يقدّم أو يؤخر في هذا المجال اتهام النظام المعارضة بأنها صهيونية ـــــ أميركية. هذا كلام مجّاني يُستخدم في عدّة القمع سعياً إلى حرق المعارضة و«تتفيهها» ونزع أية صفة محلية عنها، وكأنه لا مبرّر داخلياً لها، ولا انتماء وطنيّاً لديها. وهي، أي المعارضة، في المقابل، لا تبذل الجهد اللازم لصوغ خطابها، ربما لكونها تحت الضغط ولكون مكوّناتها متعدّدة وذات مصالح متعددة ولا تلتقي على نقاط محددة، ظاهرة في الأقل.
لقد تجاوزت المعارضة الإيرانيّة لحظة الاعتراض على نتائج الانتخابات الرئاسيّة، ولعلّها باتت اليوم في لحظة تذكّر بحركة ليش فاليسّا في بولونيا ودول المنظومة الاشتراكية السابقة، أي إنها باتت في لحظة إثبات وجودها، الذي هو إثبات حاجة النظام الإيراني إلى التغيير. وهذا، ربما، مصدر انزعاج النظام منها ومبادرته إلى قمعها، الذي هو، في الوقت نفسه، ولادتها وتوسّعها. فالقمع بحد ذاته اعتراف، كما هو تعبير عن أزمة النظام المُستخدِم للعنف لقمع المولود. وهو، أي العنف، أيضاً، صائغُ مطالب المعارضة وعناوينها. فالعنف دليلُ أزمة ودليلُ تناقض مع المقموع، مهما تُفِّهَتْ المعارضة واتُّهمت. ومعه يخسر النظام أكثر، إذ يظهر ما لا يريد إظهاره، ألا وهو رفضه الاختلاف والتنوّع، ورفضه إعلان الاختلاف، وطبعاً عدم قدرته على استيعاب التنوّع. لكن، يبدو أن من يمسك بالنظام يريد من القمع، إضافة إلى ممارسة القوّة والشعور بالوحدة والصفاء، حشر المعارضة ودفعها إلى مواقف متطرّفة تجاه النظام ككل: المرشد والثورة. وهذا هدف في ذاته تهون معه جروح الصورة، سواء أكان في الخارج أم في الداخل.
القصّة تجاوزت مَن فاز في الانتخابات الرئاسية. القصّة باتت في حق المعارضة بالوجود والتعبير والاستمرار. فالمعارضة ليست مظهراً اقتراعياً موعده الانتخابات ويختفي بعد النتائج. هذا وهم وادّعاء توتاليتاريان. والواقع في إيران، الذي بدأ ينتصر على الأيديولوجي، يثبت ذلك. وعلى المعارضة أن تؤكده وتبرزه، من خلال تظهير نفسها قوّةً ديموقراطيّة أصيلة اجتماعيّاً، ولديها مشروع واضح. أهي جديرة بذلك؟ سؤال آخر للأيام.
كما لا يمكن اختزال المعارضة بأنها تابعة للغرب وتنفّذ أجندة صهيونية ـــــ أميركية، لا يمكن المعارضة أبداً أن تعيش على شعار واحد، هو أنها تطالب بحقها في الرئاسة. هذا مطلب ضعيف ويدلّ على ضحالة خطاب المعارضة، ويسهّل على النظام القول إنها تخفي مطالب أخرى. وإذا ما اقتصرت المعارضة على تكرار هذا الشعار تكون قد وقعت في فخ لا يمكنها القيام منه. فخٌّ تكون معه المعارضة قد أطلقت على نفسها رصاصة الرحمة، إن لم تكن رصاصة الإعدام الذاتي.
بالتأكيد، لدى المعارضة عناوين مطلبيّة غير حقها في الرئاسة واتهام النظام بتزوير نتائج الانتخابات، لكنها عناوين غير مبلورة بعد، وإن كان القمع يسهم في رفع الصوت المُطالب بها. فتلك العناوين كلام تظاهرات واحتجاج أكثر من أي شيء آخر.
تواجه المعارضة الإيرانية، إضافة إلى القمع، لحظة مصيرية. فهي والنظام معاً في مساحة الصراع القومي، ولدى النظام هنا أسلحة عديدة، منها إبقاؤه الصراعَ في تلك المساحة ومنعه من الخروج إلى العناوين الاجتماعية والاقتصادية والسياسيّة. ومن أسلحة النظام أيضاً إظهار الصراع كأنه على النظام وعلى رأسه المرشد. المعارضة ليست في وضع تُحسد عليه، وهي تُدفَع إلى زاوية رفض النظام بمجمله ورفض سياسته الخارجية، من المشروع النووي إلى «وجوده» في العراق ودعمه حزب الله وحماس والحوثيين في اليمن... إلخ. والمعارضة تعرف أنها في هذه المصيدة، التي يمكن النظام إزاءها رفع مستوى خطابه الأيديولوجي والشعبوي.
فكما هو النظام الإيراني في أزمة أخلاقية، كذلك هي المعارضة في أزمة وجودية، والسبب هو تحكّم النظام في اللعبة واستدراجه المعارضة إلى المساحة التي رسمها. فمع نظام مثل الإيراني، قومي أيديولوجي، كأنه، لا تكفي المطالبة بالحريّة. أي حريّة؟ وإلى أين تأخذ البلاد؟ وقبل السؤال عن ثمن الحريّة، يبادر النظام إلى إحراج المعارضة بالسؤال عمّن يقف خلفها، ولا سيما أن حروب النظام عديدة وأكثر منها الأعداء، وللحروب تلك غايات وأهداف داخليّة وخارجية.
النظام الإيراني والمعارضة، الآن، مكشوفان. ومَن يخرج قبل الآخر إلى العناوين الاجتماعية والاقتصادية يفُز، بمعزل عمَّن يربح في معركة القمع. علماً بأنّ النظام قادر، في هذا الإطار، على مخاطبة فئات وطبقات أوسع، بل مؤثّرة في التركيبة الإيرانيّة، الأيديولوجيّة والاجتماعيّة والسياسيّة (الفقراء والمهمّشون والقوميون).
منذ صعود نجم الرئيس الإصلاحي السابق، محمد خاتمي، وشبح الاتحاد السوفياتي يخيّم فوق إيران الجمهورية الإسلامية، إذ شُبّه خاتمي بآخر رؤساء الاتحاد السوفياتي، ميخائيل غورباتشيف. لكن هذه الأيام يخيّم شبح ساحة تيان آن مين في بكين على المعارضة الإيرانية. فهل تنتهي كما اختفت مظاهر الاحتجاج الصيني، تحت القمع السلطوي الأيديولوجي والمادّي وبسبب فيروس ذاتي هو ضحالة الخطاب وتعدد المصالح؟