أوروبا: النموذج الاسرائيلي؟ (2)

  • 0
  • ض
  • ض

عامر محسن في ردّه على منتقديه الكثر بعد مواقف إشكالية أطلقها بشأن اللاجئين ومأساتهم في الأشهر الماضية، قال سلافوي جيجك ان اليسار الأوروبي يحتاج الى تحطيم مجموعة من "التابوهات" حتى يتمكن من التعامل بواقعية مع أزمة اللاجئين في اوروبا، خاصة في ضوء هجمات باريس. هذه "المحرّمات" تتراوح بين أن يتخلى اليسار عن فكرته "الرومانسية" بفتح الأبواب أمام كل من يحتاج الى اللجوء، وأن لا يتورع عن نقد الإسلام خوفاً من الاتهام بـ"الاسلاموفوبيا"، وأن يقبل "حقيقة أن أغلب اللاجئين يأتون من ثقافة لا تتوافق مع المفاهيم الأوروبية الغربية عن حقوق الانسان" ويتصرف وفقاً لذلك... ولكن في العمق، فإن أهمّ ما أراد الفيلسوف السلوفيني قوله هو أن المثقفين الأوروبيين لا يجب أن يخجلوا من الدفاع عن الحضارة الأوروبية (من اللاجئين وغيرهم) وأن لا ينظروا الى قيمها كأداة تاريخية للإستعمار والامبريالية، أو كخطاب مهيمن فرض نفسه على مجتمعات العالم مع انتشار الرأسمالية وتوسعها. يكتب جيجك بأنه، على عكس النبوءة الشهيرة لفرانسيس فوكوياما، غزت الرأسمالية الكوكب من دون أن تغزوه الليبرالية الديمقراطية بشكلٍ مصاحب، بل أن الرأسمالية لم تعد "اوروبية ــــ مركزية" وليست في حاجة الى الايديولوجيا الأوروبية لبقائها واستمرارها: أنجح اللاعبين في السباق الرأسمالي اليوم وأكثرهم اندماجاً في السوق الدولية هي بلدان ذات "قيم آسيوية"، يلفت جيجك، ليست ديمقراطية أو ليبرالية، وقد تكون هي مستقبل الكوكب المعولم، وليس "الامبريالية الغربية" ونظامها الايديولوجي. العالم مكوّن من جزرٍ ثقافية متنافرة، اذاً، بحسب جيجك، و"التراث التحرري الأوروبي" ــــ كما يسميه ــــ هو خاصٌّ بالقارّة ولن ينتشر ويهيمن بل يتعرّض الى مخاطر شتى، من العولمة الرأسمالية التي تضغط على دولة الرعاية وتغيّر الاقتصادات الأوروبية، الى اللاجئين المسلمين الذين يتسرّبون من المحيط المباشر وحروبه، حاملين معهم ثقافتهم "المعادية للتنوير" و"مخاطرهم الأمنية". ولأنّ جيجك يرى "المسلمين" والحضارة الأوروبية "المهددة" ضمن اطارٍ يشبه ذاك الذي اعتمدته الأحزاب اليمينية المتطرفة، في بداية هجومها على المهاجرين، فقد خرج باقتراحات عملية تشبه تلك التي كان تطالب بها هذه الأحزاب في التسعينيات، والتي كانت تُستفظع من قبل الجمهور والمثقفين آنذاك (كأن تُفرض حزمة من "القواعد الإجبارية" التي تمثّل "القيم الأوروبية"، كاحترام التنوع الديني وحقوق المرأة، للجم النزعات "المعادية للحريات" في ثقافات المهاجرين)، وأخرى لا تختلف عن السياسات المتبعة اليوم من قبل الحكومات والـ "ناتو"، مع المطالبة بتشديدها، كتقنين دخول اللاجئين ومنعهم من التسلل الى القارة ــــ عبر الجيوش ان لزم الأمر ــــ و"التدخل الانساني" (عسكرياً) في الدول المجاورة للتحكم بمصيرها ومنعها من التحول الى مصدر ازعاج لأوروبا ومجتمعاتها. فكرة "التنوير في دولة (أو قارة) واحدة" التي يطرحها جيجك تختزل التناقض الرئيسي في تعامل النخب الأوروبية مع مسألة المهاجرين: تريد أن تستفيد من موقعها في النظام الرأسمالي (وهو الذي يؤمن لها دخلها المتفوق ورفاهها التاريخي) وأن تحمي نفسها منه، تدّعي الدفاع عن قيم انسانوية تحررية، ولكن من أجل مواطنيها فحسب. اللاجئون، أصلاً، لم يأتوا الى اوروبا بالتسلل أو بالغزو، بل ضمن سياسات أوروبية محسوبة عمرها عقود، تهدف الى صيانة مستوى التنافسية والانتاجية في مجتمعات القارة ــــ بالمقاييس العالمية ــــ والاستفادة من العمالة الرخيصة والكفاءات المهاجرة بسبب فوارق الدخل في العالم. هذا قد يكون من عوارض القوى الامبراطورية حين تنحدر، ولكن النظرة المعادية للمهاجرين تتناقض، لأسباب عملية، مع أسباب الرفاه الأوروبي ومصادره. قامت المؤرخة البريطانية ماري بيرد، وهي اشتهرت شعبياً عبر برامجها التلفزيونية عن الحقبة الرومانية، بالدفاع عن المهاجرين في بريطانيا من منطقٍ براغماتيّ أساساً في بعدٍ من أبعاده (هي تحاجج في كتابها الأخير عن روما بأن من أهم اسباب النجاح الامبراطوري كان اعتماد هوية "رومانية" تتوسع باستمرار، وتضم الحلفاء والأتباع والمهزومين بلا عقد، وتجعل اغريقاً وسوريين وافارقة مواطنين "رومانيين")، فجاءها هجومٌ قاسٍ من الجمهور، وإهانات وتهديدات. جيجك يريد شيئاً يشبه النموذج الاسرائيلي، حيث التنوير والديمقراطية والتحرر حقوقٌ للمواطنين (ذوي الثقافة الأوروبية)، وأسلاكٌ شائكة تفصل هذه القارّة عن العالم الذي يحيط بها وعن مآسيه ــــ وان كانت سبباً رئيسياً لها. أن تحافظ أوروبا على الرفاه الذي يؤمنه اندماجها في السوق الدولية، ولكن من دون تحمّل تبعات الحروب والفقر والتهجير الذي يمثّل الوجه الآخر للرفاه الأوروبي وامتيازات المواطنين هناك. قد تبدو هذه المعادلة منطقية بالنسبة الى جيجك، بل و"اخلاقية" (طالما أنها تحافظ على قيم الديمقراطية والتسامح داخل اوروبا)، ولكن المشكلة هي: لماذا سيقبل مئات ملايين الجائعين المحيطين بأوروبا الثرية بشروط اللعبة هذه، طالما انها ليست في صالحهم؟ ولماذا يستنكف "الخاسرون"، قليلو الحظ في هذه المعادلة، والذين يتزايدون كلّ سنة، عن التسلّل الى اوروبا بأي سبيل متاح، أو خرق قوانينها أو قرصنة سفنها؟ وهل تستطيع اوروبا، بجيوشها الهزيلة اليوم وبناها الليبرالية، أن تضبط هذا الطوفان؟ ان خطة جيجك لاحتواء الهجرة واللاجئين وحراسة معابر القارة تحتاج اصلاً، في غياب أنظمةٍ "متعاونة" في الدول المجاورة تقوم هي بقمع المهاجرين وضبطهم، الى ما يشبه الفاشية العسكرية لتطبيقها ــــ فأين تصير قيم الديمقراطية والتحرر حينذاك؟

0 تعليق

التعليقات