معن حمية *عندما قرأت مقالة الأستاذ حسان الزين المعنونة: «لا سياسية القومي السوري" المنشورة في جريدة «الأخبار» 30/10/2009، أخذتها على محمل التوسّع في معنى الاحتفاء بالذكرى الـ77 لتأسيس الحزب في 16/11/2009، إذ كنا على مسافة قريبة من هذه الذكرى، إلا أن الكاتب لم يكلّف نفسه عناء توضيح التوقيت والمناسبة، علماً أنها جاءت متزامنة مع مصالحة صوفر، بين الحزب القومي والحزب الاشتراكي، التي مثّلت منصة لإطلاق مواقف تستحضر محطات النضال، وتعبّد الممر إلى العمق القومي في
دمشق.
لكن، بأي حال، الرأي الآخر بغضّ النظر عن سلامة أحكامه واستنتاجاته، يصنع فرصة قد يكون المحتفَى به، مفتقداً إيّاها أو مهملاً لها عن غير قصد، وهي مساعدة الآخرين (النقديّين تجاه تجربتنا) على إعادة فحص أحكامهم، والقواعد التي قامت عليها، وفي ذلك تتوزّع الفائدة على الطرفين.
لقد أجرى الأستاذ الزين في مقالته محاكمة للحزب السوري القومي الاجتماعي لا ندري دوافعها، ونحن على قناعة بأن أحكامها لن تنال من تاريخ تجربتنا الحزبية، ومسيرتنا النضالية (التي لا نتحرّج من أن يتناولها الآخرون)، بقدر ما تنال سلباً من تكوين وعي القرّاء الذين يثقون بآراء الأستاذ الزين، علماً أننا لا نستقللهم.
أعرف ضيق المساحة التي تخصّص للردود، لذا سأكتفي بإيراد عيوب قواعد هذه المحاكمة بإيجاز، لعلّها على الأقل تساعد الزين على إعادة النظر في أحكامه السابقة، وتعيد إجراءات المحاكمة من جديد، ليس وفقاً لإرادة الناقد وحده، بل لمقتضى الموضوعية والنزاهة.
أيُعقل تصديق أنّ الوصاية السورية المزعومة هي ما عطّل إلغاء الطائفية؟
انطلقت محاكمة «الحزب القومي» لدى الزين، من رؤيته لتجربتَي اليسار واليمين في لبنان، قافزاً فوق إشكالية جعلت الكثيرين من وزنه الثقافي يتحفّظون، أو يضعون قيوداً عند استخدامهم مفهومَي اليسار واليمين أدوات للفرز السياسي في لبنان، والخلاصة من هذه التحفظات والقيود هي أن ليس اليسار يساراً ولا اليمين يميناً عندنا، ما لم تكن هناك إضافات وتوضيحات، معظمها يؤدي إلى عدم جدوى استخدامهما، أو الاستناد إليهما للحكم على الحزب القومي و«كرهه العذري» للشيوعي (الذي يدخل في تكوين هويته اليسارية رفعه مطلب المشاركة إبان الحرب) أو «غرامه وانتقامه» للكتائب (الذي لم تمنعه هويته اليمينية من محاربة شركائه في هذه الهوية في الجانب الإسلامي)، وكان من الأجدى للكاتب الإطلالة على «عواطف القومي» من نوافذ أخرى تقيم الاعتبار للتوصيف السياسي. إذ إن ما يجمع «القومي» و«الشيوعي» منذ 3 عقود مسيرة نضال مشترك في جبهة المقاومة الوطنية ضد العدو الصهيوني، وكذلك في رفع عناوين الإصلاح ومحاربة الطائفية. لكن ليس هناك ثمة ما يلتقي به الحزب القومي مع «الكتائب» الذي يستمر في إعادة إنتاج خطابه الانعزالي.
من طبائع القوى السياسية التي اعتادت ممارسة الديموقراطية، واحترام أنظمتها وقوانينها كالحزب السوري القومي الاجتماعي، أن يبرز فيها في الفتن الكبرى، والمحطات المفصلية تنازع الرؤى، من ضمن التنوّع الذي تتيحه العقيدة والبرامج الحزبية، ومؤسسات الحزب بحكم تمسكها بهذه الممارسة كانت تظهّر هذه التنازعات، وهذا في النهاية ليس عيباً حتى يؤاخذه الأستاذ الزين عليه، وكان من الإنصاف التنويه به.
لم أفهم كيف وجد الزين الحزب القومي بلا سياسة، وكان يمكن التوقف عند حكمه هذا، لو تكبد قليلاً من الكلمات، وأوضح لنا كيف لا تتلوث السياسة بالطائفية أو تذوب فيها، وكيف ينسحب هذا الأمر على القومي، لأنه من خلال الأمثلة التي أوردها استغلق أبواب الحوار، وأجاز لنفسه إطلاق هذا التوصيف، من دون أن يؤيده بأدلة نظرية أو عملية.
أما عن استدراكه لحكمه الآنف الذكر، ثم قوله إن السياسة عند القومي محصورة بالعصبوية والانقلاب، فلا أرى أية فائدة تُجنى من هذا التهمة، وأسال من، من الجميع هو بلا عصبوية؟ وهي بالمناسبة التهمة الأكثر استخداماً من جانب الايديولوجيا المتسيّدة، ليس لمحاربتها بل لاستدامة هذا التسيد. لكن عندما تكون العقيدة منهج حياة كالعقيدة السورية القومية الاجتماعية، فيجب التروي في إطلاق العصبوية عليها، لأن الاتساع المحمول على ظهر هذه العقيدة يستعصي على العصبوية، إلّا إذا كان الأستاذ الزين ما زال مصدقاً لكذبة فوكوياما وأخواتها عن نهاية التاريخ، وسقوط الايديولوجيات، فعندها يتبدّى له المؤمنون بعقيدتهم، والمتمسكون بها فاعلة في تصليب حزبهم وتمتينه، بأنهم عصبويون.
يريد الزين تمرير مصطلحات علينا، كان قد جرى نحتها بالأصل لتصبّ في تزييف واقع معين، أكتفي بالقول عنها، إنها تلاقي سياسات تناقض رؤيتنا السياسية لمرحلة معينة، إضافةً إلى عدم صحة توصيفها وضعف دقتها، ومنها الحديث عن وصاية سورية، ولعل ما جرى في الأعوام الأخيرة منذ القرار الدولي 1559 بات يستدعي معاودة البحث عن تعريف جديد لمسمى «الوصاية السورية»، لأنه إذا صح هذا التعريف، وكان لبنان فعلاً خاضعاً لوصاية سورية، فلا يجوز إغفال حقيقة الحضور الإقليمي والدولي في المعادلة اللبنانية، ما مثّل توازناً بين القوى، وبين المشروعين نفسَيهما، اللذين يتعنونان اليوم تحت اسمَي المقاومة والممانعة من جهة، واستجداء الحمايات الدولية من جهة أخرى، وعليه لا يعيب الحزب تحالفه اليوم مع سورية أو في تلك المرحلة، وهذا ينسجم مع توجهاته النضالية ولا حاجة إلى تبريره، فشروط نهضة أمتنا أن ننحاز إلى جانب كل القوى المناهضة لمشاريع الهيمنة والسيطرة على منطقتنا، وتحرير مواردها وخيراتها من أطماع الآخرين.
أيعقل أن يصدق الأستاذ الزين أن الوصاية السورية المزعومة هي ما عطل إلغاء الطائفية؟
المهم نحن لن نجاريه في هذا الحكم، الذي يقوم على خفّة في النظرة إلى طبيعة النظام الطائفي في لبنان، وهذا له مبحث
آخر.
أما قوله عن الحزب القومي إنّه حزب أهلي، فأني أحيله على ضيفه الرائد في زاويته «رأي» الأستاذ ناهض حتر، بتمييزه ظروف نشأة الحزب السوري القومي الإجتماعي عن سائر الأحزاب الأخرى، بقوله: «ولدت الأحزاب الشيوعية في بلادنا على نهج فكري وسياسي عالمي مدعوم بحركة عالمية كبرى. فلم يكن لمؤسسيها إلّا فضل النضال. أما الأحزاب القومية العربية، التي استوردت خطابات غربية ولم تُنجز نظرية، فهي ولدت في وسط سياسي مؤاتٍ تحفّزه نزعة متعددة المشارب، تراكمت في أجيال، وتواطأت مع الخطاب السياسي والاجتماعي والديني والثقافي المسيطر. لم يصدر حزب البعث أو الحزب الناصري أو حركة القوميين العرب عن دعوة ورؤية، بل عن حراك سياسي منح المؤسسين أدوات وكوادر وفرصاً. وحزب الكتائب، الأقدم بين أشباهه، من كل الألوان، نشأ هو الآخر في سياق تبلور مشروع سياسي لعصبية طائفية. وحده الحزب السوري القومي الاجتماعي نشأ عن دعوة غير مسبوقة، كقطيعة مع ما كان كله، في نظرية متكاملة أطلقها في حزب
سري».
هل يكفي هذا ليتبين للأستاذ الزين لماذا الْتَبست عليه الرؤية فظن حزبنا «أهلياً» طائفياً... إنها حقاً لمفارقة.
* مدير الدائرة الإعلامية في الحزب السوري القومي الاجتماعي