عصام العريانإن القبض على د. أبو الفتوح وزملائه من قبله ومن بعده، ثم إخلاء سبيلهم بهذه الطريقة في أيام معدودات، جرى بقرار سياسي لا بقرار قضائي أو أمني، ولحساب أهداف سياسية، لا لمعاقبة متّهمين على جرائم ارتكبوها أو اتُّهموا بها. ووُظّفت قوات الأمن وعشرات الضباط والجنود، ثم نيابة أمن الدولة وعشرات المحققين، ومعهم جهاز إعلامي حكومي وخاص، لخلق صورة ذهنية، ولتصفية حسابات سياسية، ولتشويه أداء الإخوان المسلمين، مثلما جرى بين الحين والآخر طوال تلك السنين التي يُحاصَر فيها الإخوان حصاراً شديداً، ويُمنعون من النشاط والحركة الطبيعية، ويُعتقَل منهم الآلاف، وتصادر لهم الممتلكات والأموال، ويطارَدون فى كل انتخابات، ويُمنعون من المشاركة كمواطنين في بلادهم، رغم رفع شعار «المواطنة»، وتُنتهك كل حقوقهم القانونية والدستورية في ظل رفع شعار «حقوق الإنسان».
جاءت الاعتقالات الأخيرة في إطار معاقبة الإخوان على موقفهم من حرب غزة
لقد جاءت تلك القضية الأخيرة في إطار معاقبة الإخوان على موقفهم من حرب غزة، التي ما زالت آثار الدمار فيها بادية للعيان، وتزورها كأطلال وفود من شتى أنحاء العالم، إلّا مصر. وكان صوت الإخوان هو الأعلى، اعتراضاً على الموقف الهزيل والضعيف الذي اتخذته مصر الرسمية، حيث بثّت الرعب في قلوب الشعب والقوى والنخب السياسية لمنعهم من إدانة ذلك الموقف الشائن الذى شوّه صورة مصر التاريخية، فكانت جرأة الإخوان في التصدي للحرب المجنونة رفعاً للتشويه الذي جعل مصر صامتة أو متواطئة أو مشاركة في ذلك العدوان. وقد حاول العدو الصهيوني أن يستغل ذلك الموقف، لإظهار مصر مشاركةً في الحصار، ومشاركةً في العدوان. هنا، كان يجب على النظام أن يكرّم الإخوان أو على الأقل أن يتفهّم دواعي احتجاجهم المنحاز إلى مصالح مصر العليا، وأن يوظّف تلك الاحتجاجات لمصلحة مصر، ولمنع العدوان، ولوقف الحرب المدمّرة على أشقائنا في غزة.
لكن ما حدث كان العكس، بسبب انحراف بوصلة السياسة المصرية، أو تردّدها بين حماية المصالح الوطنية، وحماية مصالح فئة خاصة تسلّلت إلى قمة الهرم، من ساسة يطمحون إلى وراثة البلاد، ورجال أعمال لا مانع لديهم من المتاجرة بكل شيء، ولو بدماء أهل غزة.
لقد عظم على هؤلاء أن ينطق الإخوان بما يخالف رؤيتهم في السياسة الخارجية، أو يُهدد مصالحهم الخاصة ولو كان لحماية مصالح البلاد العليا، فكانت تلك القضية التى ظهرت دوافعها من بداية القصف الإعلامي في صحف رجال الأعمال، وصفحات الصحف التي سيطر عليها أتباع «لجنة السياسات»، وبدا واضحاً من البداية أن الهدف سياسي لا أمني أو وطني.
ما تغيّر خلال تلك الشهور هو أن الأطراف الآخرين استفادوا من الحرب، بينما خسرت مصر الكثير من مكانتها ودورها. نجح اليمين الصهيوني بكسب الانتخابات، وأصبحت مسيرة السلام معطّلة، أو قل عليها السلام. وانحاز محمود عباس إلى الصف الأميركي، وغرق في الوهم الصهيوني، وضاعت كل أوراق اعتماده التي وضعها في جيوب بوش وأولمرت، ولم يحصل على شيء، وانهارت مكانته بعد أزمة تقرير غولدستون، وأعلن رغبته في اعتزال موقع الرئاسة، وترك الجميع في حيرة مما إذا كان ذلك الموقف مناورة أو نية حقيقيّة، وإذا كان حقيقياً فمن هو البديل، وهل تنهار السلطة بخروج عباس، وتسلّم الأمور إلى سلام فياض، رجل البنك الدولي والمؤسسات الدولية، وهو ليس على وفاق مع مصر، ولم يزرها يوماً تقريباً...
تبخرت وعود أوباما مع الأيام، وضاع أثر كلامه الجميل في القاهرة، وتأخرت القضية الفلسطينية على جدول أعماله، وأصبح مهموماً بالأزمة الاقتصادية والمالية، ومشروع الرعاية الصحية. وظهرت تركيا فى الأفق كوكيل إقليمي حصري، يجمع شتات الملفات ويتدخّل في كل القضايا، ويظهر كالساحر الذي يقلب الموازين فى ظل تراجع العرب أجمعين، وفي مواجهة التمدّد الإيراني، الذي بات العرب في حيرة من أمره، ولا يعرفون كيف يتعاملون معه.
وانكفأت مصر على نفسها تلملم جراحها، وتداوي ما ظهر من آثار الحرب على غزة، وتحسنت علاقتها إلى حد ما بحماس، وخففت الضغوط عليها وعلى القطاع، وبدا أن الأمور ستظل مجمدة، وأن الأموال الموعود بها في مؤتمر شرم الشيخ للإعمار ستتأخر طويلاً، بعدما ضاعت جهود مصر في المصالحة بسبب تعنّت الرباعية وأميركا، لا بسبب رفض حماس كما يروّج الإعلام.
اختلطت الأوراق واختلفت الأولويات، ولم يعد من المناسب الضغط على الإخوان وعلى حماس.
وتأخّر الهمّ الداخلي لأن ضبط الانتخابات القادمة ممكن وميسور دون حاجة في هذا الوقت إلى قضية بذلك الحجم والاسم (التنظيم الدولي). وانتصر الجناح الذي لم يكن مرحّباً بمثل تلك القضايا في الشأن الخارجي، ولا بمثل تلك المعاملة، ولا بذلك التهييج الإعلامي، الذي اختلطت فيه المصالح الخاصة بالشأن العام الوطني. اما الدكتور أبو الفتوح فلعلّ له شأناً خاصاً يتعلق بدوره في رسم صورة مختلفة عن الإخوان، غير تلك النمطية التي يروّجها النظام في الداخل والخارج، بانفتاحه على كل القوى والتيارات، واتصالاته الخارجية المتينة، ومشاركته فى ندوات متعددة مع أوروبيين وأميركيين، ممّا أزعج النظام.
هنا جاء قرار الإفراج قبل عيد الأضحى المبارك، ليحتفلوا بالعيد مع أسرهم وأولادهم وإخوانهم، بعد شهور طويلة قضوها ظلماً في غياهب السجون. فمرحباً بالحرية، ونأمل أن يخرج كل المظلومين من سجون مصر وسجون العرب والمسلمين.
* قيادي في جماعة الإخوان المسلمين بمصر