وائل عبد الفتاحالسؤال بعيد وغريب على واقع مختلف تماماً. ولا أحد يسأله تقريباً. كل المؤتمرات أو الصفقات تبدو بلا نفَس عربي. حتى في القضايا المصيرية (ذات البعد العربي أو الأممي). لا أفكار ولا رؤية تخرج من هذه المنطقة، التي كانت مصنع الأفكار الثورية ومهبط أحلام الدول الضعيفة.
لم يبقَ من كل هذا سوى رابطة متشنّجين يردّدون الشتائم والاتهامات بصوت عالٍ مجروح، مصحوب بصرخات هستيرية عن المجد المخطوف، والدور المسروق، وإشارات مؤثّرة عن «المؤامرة».
هؤلاء يعيشون في جغرافيا خرافية، بينما الجغرافيا الواقعية مريضة وخارج كل المعادلات تقريباً.
السويد هي التي أربكت العالم، عندما طرحت مصير القدس بطريقة تختلف عن الرؤية الإسرائيلية. لا وجود هنا «لمجاذيب» المجد المنقرض. ولا ثقل لدول ما زالت تردد شعارات عروبة الستينات، ولكن طبعاً بدون نبل زمنها ولا قادتها.
الدول العربية خارج حسابات قضيتها المركزية. القضية شأن غربي الآن. أميركا تتقاسم الأدوار مع الاتحاد الأوروبي للخروج من مأزق القدس. والعرب يلهون بالنميمة عن مؤامرة قطر على مصر في الجزائر، أو يقعون في فخ الترف المفرط (دبي...مثلاً) أو ينتظرون العودة إلى ما قبل الحداثة (اليمن ..والسودان...و غيرهما) أو يقدّمون أنفسهم لقمة سائغة على مائدة الصراعات الإقليمية (لبنان.. وما بقي من فلسطين) أو في حرب استعراض قبلية بين حكّام (مصر وسوريا... ومصر والسعودية..)، إلى آخر كل ما يجعل أوزان الدول لا ترى ولا تحس. والشعوب إلى آخر نفس فيها مشغولة باستعراضات الدفاع عن ذات خارج الجغرافيا المؤلمة. قلق وتظاهرات ضد قرار المآذن السويسري أو في البحث عن عدو قريب (إيران.. .الجزائر بالنسبة إلى مصر أو ما شابه ذلك).
استعراضات إعلان الوجود دائماً باتجاه الخارج، فيما يبدو أنه فقدان أمل في الداخل. في هذه الاستعراضات يلبي المهووسون بالصراخ والوجع السياسي والندّابون احتياجات الشعوب العاطفية ليداروا في مشاتمهم كل أمل في الخروج من هذه المتاهة. وهؤلاء لا تحتاج إليهم الشعوب فقط ليبردوا النار المتّقدة، بل الأنظمة المحترفة في الرد على «مجاذيب الأفكار الميتة». هؤلاء يتامى أنظمة قديمة جرجرت العالم العربي كله إلى الهزيمة.
هذه الهزيمة مبرر الأنظمة في خطاياها كلها. فهي أنظمة عاقلة ابتعدت عن الحرب. والحقيقة أنها ابتعدت عن الحرب وعن كل شيء آخر يمكنه حل القضية. لكنها تبرّر برودها وجلدها السميك بالخروج من نفق الهزيمة. خروج يجعلها غائبة عن سجال العالم حول القدس (معركة المعارك في الستين سنة الأخيرة) وعن مناقشات كوبنهاغن (وقضاياه المشغولة بمستقبل الكرة الأرضية).
وإذا صدّقنا التصور بأن الأنظمة تريد استمرار إسرائيل لأنها فرصتها لامتطاء الشعوب للأبد، فلماذا تُشغل الأنظمة العربية عن مستقبل البشرية (ولا تفكر دوله عربية واحدة في الدخول على خط مواجهة الاحتباس الحراري؟) ومصير القدس وأزمة انبعاثات الترف. قضيتان ترسم كل منهما «المصير».
وهذا سر غياب الدور العربي في بروكسل أو كوبنهاغن، لأن «المصير» يتعلق فقط بالسيطرة على السلطة والثروة، أو بالركود في مستنقعات تتراكم فيها بكتيريا متحلّلة إلى جانب فرقة المتشنّجين الذين يعطون المشهد إيقاعه الساخن.
تبقى النكت هنا حارقة. في مصر مثلاً تصل تعازي إلى الرئيس مبارك في ضحايا صدام بين عبّارتين في مدينة رشيد، بينما التقارير الرسمية تؤكّد عدم وجود ضحايا. ولا أحد يملك فك السر وإزالة الغموض في حقيقة لها جسد مادي: جثث وضحايا وأسماء.
في فلسطين نكتة أخرى: أين شاليط؟ وهل سيخرج مروان البرغوثي أم لا؟ لا أحد يعرف خطة الجانب الفلسطيني في صفقة تبادل الأسرى. موقف غامض يعكس صراع عرّابَين أحدهما معلن (مصر) و الأخر يلعب سراً (سوريا). اللعب السري يحوّل قضية بسيطة إلى معضلة ومتاهة ودوّامة بلا نهاية قريبة.
النكت الأخرى من السودان (دارفور والمعارضة)، واليمن (الحوثيون وحروب المذاهب بالوكالة) ولبنان.
لا تكاد دولة عربية واحدة تخلو من نكتة أو تدور في متاهة قضية تثير الدوار، بينما تُرسم مسارات السياسة في الخفاء.
سياسة خفية وقدرات على إدارة الدول لكي لا تتحرك من مكانها ولا تفكر إلا في استمرار الدوران. هذه قدرات فريدة تدفع الأنظمة إلى تركيز قوتها في الداخل، بينما ترنو الشعوب إلى استعراضاتها الخارجية. ولا شيء يجمع بين كليهما (النظام والشعب) إلا النكتة... أو المأساة.