حين نتحدث عن تاريخ السعودية، نواجه نقصاً في رواية التاريخ السياسي. إذ يبدو وكأنّ للمملكة تاريخاً يروى في ميادين الاقتصاد والثقافة والاجتماع، أما السياسة، فمحور تاريخها هو النظام وحده. وكأن الشعب لم يشهد حراكاً سياسياً يستحق أن يسجله التاريخ، وخصوصاً حين نتحدث عن مرحلة لم تأخذ حقها من التوثيق والتأمل، وهنا أستثني المحاولات الجزئية التي بذلها بعض معارضي الخارج أو بعض الكتاب مثل نجيب الخنيزي في جريدة (الوقت) البحرينية وعلي الدميني في كتابه (زمن للسجن .. أزمنة للحرية)
أحمد عدنان *
في زمن مضى، كان يصعب أن يروي شهود تجربتهم السياسية في السعودية. ولكن في زمن اليوم، الذي يفترض أنه زمن الشفافية ومراجعة النفس والحوار، لا يمكن أن يُقبل الصمت أو أن يجري تفهّمه.
من أجل ذلك، وجدت أنه من الضروري أن أحاول أن أروي، استناداً إلى شهود أحياء، ما غاب عن مواطن اليوم من أحداث الماضي، ليس من باب الحنين السلبي، أو لتصفية حسابات لم تعد قائمة، أو إحياءً لمنطق لم يعد حياً، بل لربط اليوم بالأمس، من أجل صناعة المستقبل ونصيحته.
القصّة التي حرصت على جمع تفاصيلها، دارت أحداثها بين 1964ــــ 1965م (1384 ــــ 1385هـ). أول ما لفت نظري إليها حوار مطوّل أجراه قبل سنوات د. عبد العزيز قاسم مع الناقد والأديب السعودي عابد خزندار نشرته صحيفة (المدينة) بتاريخ 17/1/2003 من دون أن يتطرق المحاور أو الضيف إلى تفاصيل ما جرى. يقول خزندار: «خروجي من وزارة الزراعة لم يكن باختياري. فبعد السجن، فصلونا من الوزارة ومُنعت من التعيين بعدها في أي عمل حكومي. كان ذلك في زمن الصعود الأيديولوجي المصري في شخص جمال عبد الناصر، وكانت الدولة تريد أن تفرض هيمنتها وتحفظ الأمن». ويصف خزندار تجربة السجن: «تعرضت إلى التوقيف ولكنني لم أعذب، كما أنهم لم يوجهوا لي تهمة معينة... وتعجب إذا قلت لك إنني أمضيت عامين هادئين تفرغت فيهما للقراءة بلا أدنى صخب أو ضجيج... إن فترة السجن لم تكن مؤلمة بالنسبة لي، صحيح أنني ظللت فيها بعيداً عن أهلي وعالمي الخاص، لكنني لم أعانِ، كنت أقرأ وأكيف نفسي مع المكان».
ولا يخفى على المتابع أن تلك المرحلة مثلت الفصول الأخيرة من الصراع بين الملك سعود ونائبه الأمير فيصل الذي انتصر في نهايتها، وقد واكبتها حالة من الحرية الصحافية غير المسبوقة، وأستدل على هذه الحرية بالمقالات التالية:
الأوّل للكاتب الرائد عزيز ضياء نُشر في صحيفة (الندوة) بتاريخ 26/11/1962 قدم فيه اقتراحاته إزاء المشروع المقترح لنظام الحكم (الدستور) ولجنة مشروع نظام القضاء، ومنه:
رغب الأمير فيصل آنذاك في كسب النخب إلى صفّه في معركة الحكم وفرز هذه النخب حسب اتجاهاتها الفكرية
«ومن حقنا أن نقول إن ما لكلا النظامين من الخطر للأهمية في حياة الدولة يحتم توسيع دائرة الرأي بحيث تشمل أكبر عدد من النخبة من الرجال الذين عرفوا بسابقة العمل الفكري للصالح العام... أقترح أن يُضم إلى لجنة مشروع نظام الحكم: حمزة شحاتة، د. عبد العزيز الخويطر، عبد الله عبد الجبار، د. محمد سعيد العوضي، أحمد محمد جمال، عبد الوهاب آشي، أحمد جمجوم، أحمد قنديل، محمد علي مغربي، محمد سعيد العامودي. وأن يُضم إلى لجنة مشروع نظام القضاء كل من: د. سعيد العوضي، ضياء الدين رجب، فضيلة الشيخ محمد الحركان، فضيلة الشيخ عبد الرحمن المرزوقي، فضيلة الشيخ محمد أمين كتبي». وأتبع (ضياء) هذا المقال ببحث عن الشورى وطاعة وليّ الأمر نشره بعد أشهر في الصحيفة نفسها، نصه: «ومنظور المواطنين، باختصار، هو حقهم على الحكومة أن تراهم وأن تشعر بوجودهم ليس باعتبارهم أطفالاً يتصرف في مقدراتهم الكبار دون أن يكون لهم رأي في ما يرسم لهم من مستقبل ومصير... بل باعتبارهم القاعدة التي يقوم عليها الكيان».
الثاني، كتبه محمد سعيد طيب أيضاً في الصحيفة نفسها والصفحة بتاريخ 17/2/1963 تحت عنوان «لنبدأ بالتجربة التي ستضيء الطريق» تعليقاً على تصريح رئيس الحكومة وقتها الأمير فيصل الذي وعد فيه بنظام أساسي للحكم مستمد من الكتاب والسنّة وتطوير مجلس الشورى ليكون سلطة تنظيمية للبلاد ــــ لم يتحقق هذا الوعد إلا سنة 1992 على يد الملك فهد ــــ حيث كتب (الطيب) آنذاك: «إن أي مجلس معين... سيكون، بلا شك، مجلساً حكومياً... وسيكون أعضاؤه، من وجهة نظر الشعب، أعضاءً لا يمثلون إلا أنفسهم والسلطة الحاكمة... مهما كانت نزاهتهم وإخلاصهم... وسابقتهم في العمل للصالح العام!.. إذاً، ليس أمامنا، إن كنّا جادّين في إرساء قواعد حكم ديموقراطي إسلامي رشيد... إلا أن نبدأ بالانتخابات... إن الانتخابات وفي أي مجتمع... ومهما كانت نتائجها... هي صورة صادقة للمستوى الذي وصل إليه ذلك المجتمع!... مؤكد... أن الشعب سيخدع في بعض أدعياء الوطنية وتجار المبادئ وغير الشرفاء... ولكن سيأتي، حتماً، اليوم الذي تسقط فيه كل الأقنعة»، مختتماً مقاله بـ«إن فترة الانتقال هذه... ينبغي أن تنقضي في ممارسة التجربة... بكل مفاجآتها المحتملة وغير المحتملة... فلنبدأ بها... إن كنا جادين».
وبناءً على تحليلات بعض المعاصرين، فإن هذا الانفتاح الصحافي، سببه رغبة الأمير فيصل في كسب النخب إلى صفه في معركة الحكم، من جهة. ومن جهة أخرى، فرز هذه النخب حسب اتجاهاتها الفكرية والسياسية. ويعزز هذا التحليل، على مسؤولية بعض المعاصرين، سحب هذا الانفتاح من الصحافة منذ حسم الحكم لمصلحة الملك فيصل، إضافة إلى أن عهد الملك سعود ارتبط، على وجه العموم، بحالة رفيعة من حرية التعبير والنشر بسبب الظروف الداخلية (مثل الحركات العمالية وعدم اكتمال أجهزة الدولة) والخارجية (المد الناصري) وارتباطه ببعض الأسماء التنويرية مثل عبد العزيز المعمر والأمير طلال بن عبد العزيز.
نعود الآن إلى ما بين الشهر الثاني والشهر السابع من عام 1964 (الموافق للشهر الثالث من عام 1384هـ) حين اعتقلت السلطات السعودية قرابة السبعين مواطناً من المدن الرئيسية الثلاث (جدة ـــ الرياض ــــ الدمام) يمثلون مختلف التيارات السياسية، ووزعت الاعتقالات بين الرياض والدمام، سُجن في الرياض أصحاب الانتماءات القومية والناصرية مثل: محمد سعيد طيب، عبد الله الجفري (الأديب المعروف)، فهد العريفي (المثقف والإعلامي المعروف)، صالح العذل، عبد الرحمن أبو عطي، عبد العزيز عطية أبو خيال (مؤلف كتاب مذكرات زوج مغفل)، حامد دردير، فيصل سجيني، وعبد العزيز الناهض (وكيل إمارة الرياض سابقاً ووالد د. منيرة الناهض التي قادت السيارة في التظاهرة الشهيرة أثناء حرب الخليج)، بينما سُجن في الدمام أصحاب الميول الشيوعية والماركسية، مثل: عابد خزندار، عبد الكريم الجهيمان، السيد علي العوامي، الشاعر عبد الرحمن المنصور (ووالد المخرجة السعودية هيفاء المنصور)، صالح الزيد، وباقر الشماسي.
ماذا جرى؟ هنا أنتقل إلى شهادات سجلتها مع الناشط السياسي السعودي محمد سعيد طيب والكاتب السعودي باقر الشماسي وآخرين، في ذلك الوقت كان (الطيب) يبلغ من العمر 25 سنة ويدرس في الجامعة، وفي الوقت نفسه، يعمل سكرتيراً في مدرسة الثغر بجدة، انتمى (الطيب) لتنظيم سياسي مقره القاهرة هو (الجبهة العربية لتحرير الجزيرة العربية) الذي يرأسه أحمد الفاسي، وهو شاعر لامع يعد من طلائع المذيعين في الإذاعة السعودية التي تأسست 1949م في مكة، لم يكن يخلو من كاريزما خاصة بالنسبة للشباب العديمي الخبرة السياسية، يتصف بالشجاعة إلى حد التهور، وينتمي إلى أسرة معروفة، كان له ولأشقائه نشاط سياسي (شمس الدين وطاهر وأجواد)، وقتها كان يبلغ من العمر 40 سنة تقريباً، أسس تنظيمه في سياق ثوري ناصري، فقد كان العالم العربي من محيطه إلى خليجه يموج بفكرة القومية العربية ووهج جمال عبد الناصر، وكانت أدبيات التنظيم تتحدّث عن العدالة الاجتماعية والوحدة العربية والتحرر من الاستعمار والرجعية والملكية، وانتقى (الفاسي) أفراد تنظيمه بحكم اطلاعه على ما يكتب في الصحف ومن خلال علاقاته ومعارف أسرته، ولكن السلطات السعودية اكتشفت نشاطه فهرب إلى مصر سنة 1961م، ووفق مصادر مقربة منه، أكدت أن هروبه جاء نتيجة لزيارة وزير الداخلية الأمير عبد المحسن بن عبد العزيز له في منزله، وكانت تربطهما علاقة ما، حيث نصحه بضرورة مغادرة البلاد فوراً في لفتة إنسانية تسجل له، ولم يعد (الفاسي) إلى المملكة حتى عام 1975 حين أصدر الملك خالد ــــ رحمه الله ــــ عفوه الشامل عن الناشطين السياسيين والمعارضين في الداخل والخارج.
التفت النظام لبقية عناصر التنظيم سنة 1964 بعد إلقاء القبض على طالب كلية الهندسة بجامعة القاهرة (لطفي جوانا) في المطار حيث ضبطت في حقيبته كمية كبيرة من المنشورات طبعت في القاهرة لتسلم إلى التنظيم في جدة (حُكم على جوانا في العام نفسه بالسجن 5 سنوات ونفذ الحكم على كامل المدة!)، بعد انكشاف التنظيم، قُبض على أغلب عناصره تزامناً مع حملة الاعتقالات، ومن أبرز هؤلاء الأعضاء: محمد سعيد طيب، عبد الله الجفري، فيصل سجيني، وفهد العريفي مسؤول الجبهة في الرياض. فيصل سجيني لم يمكث كثيراً في السجن نظراً لإصابته بمرض السرطان، فأطلق سراحه وانتقل، بعدها، إلى رحمة الله.
بالنسبة لمحمد سعيد طيب، فقد سُجن لأيام وخرج بحيلة لم تكن تخلو من موقف إنساني ينبغي أن يسجل لصاحبه. فقد كان (الطيب) يعمل في مدرسة الثغر التي يديرها المربي المعروف محمد فدا، وهو ابن عم المراقب العام لوزارة الداخلية (الرجل الثالث في الوزارة) عبد الغني فدا الذي ضغط على مدير المباحث في المنطقة الغربية الزعيم إبراهيم برزنجي من أجل إطلاق سراح (الطيب).
قابل الزعيم البرزنجي وزير الداخلية، آنذاك، الأمير فهد بن عبد العزيز في مطار جدة أثناء توجهه إلى الرياض وقال له: «فتشنا بيت الطيب ومكتبه وحققنا معه ولم نجد ما يدينه، وأقترح إطلاق سراحه بكفالة لحين استكمال التحريات اللازمة». لم يرد وزير الداخلية سوى بهز رأسه، فسّرها البرزنجي على أنها موافقة فأطلق سراح الطيب ونقل مع الآخرين، في ما بعد، إلى الرياض.
بقي (الطيب) مطلق السراح حتى 12/12/1964 حين أعيد اعتقاله. بعدها، قابل المربي محمد فدا الأمير فهد للتوسط من أجل إطلاق سراح الطيب متعلّلاً بعدم وجود ما يدينه. رفض وزير الداخلية الوساطة، وقال منفعلاً ومحتجّاً: «ألقوا القبض على الجفري وتركوا الطيب أكثر من 5 أشهر... كلامك صحيح يا أستاذ... من الطبيعي ألا يجدوا ما يدين الطيب».
هل فعلاً لم يجدوا ما يدين محمد سعيد طيب؟! يقول الطيب: «فتش عبد العزيز بن مسعود (وهو اسم سيتكرر كثيراً وبصورة قاتمة في سنوات التوتر بالمملكة) نائب البرزنجي منزلي وجمع الأوراق والكتب، وكلف ضابطاً نبيلاً من عائلة (الحربي) للتدقيق فيها، لن أنسى هذا الضابط، كلما وجد منشوراً أو قصيدة ثورية كان يمزقها وهو يقول لا حول ولا قوة إلا بالله ثم يلقيها في سلة المهملات، منها قصيدتان ناريتان لأحمد الفاسي مطلع الأولى يقول: الشعب نحن الشعب لا نرضى بأحكام الطغاة، والثانية عنوانها (مكة) من ضمنها بيت: كانت تظن بهم خيراً لحاضرها... فما راعها إلا أن أضاعوا مجد ماضيها». كان (الطيب) محظوظاً بلا شك، فالمحقق كان متعاطفاً معه، وكذلك الشفيع... المربي محمد فدا.
بعد اعتقاله مرة أخرى، سُجن (الطيب) انفرادياً لفترة بسيطة في جدة، ثم نقلوه إلى الرياض مع فيصل سجيني والمهندس محمد علي حمزة والمهندس رشاد شاولي. بعدها بأشهر نُقلوا إلى قصر الأميرة دليل بنت عبد العزيز الذي تحول إلى سجن، وانضم إليهم في الغرفة نفسها عبد الله الجفري، وفي الغرف المجاورة (العريفي) و(العذل) و(الناهض)، وكان يسمح لهم بالاختلاط معظم الوقت، ولم يتعرضوا لأي تعذيب وفق شهادة (الطيب) و(خزندار) إذا استثنينا التعذيب النفسي والضغوطات النفسية وفق رواية (الطيب). ولكن الذين ثبت انتماؤهم لجبهة التحرر الوطني (التي تحول اسمها في 1975 إلى حزب الشيوعي السعودي) بحكم التخوف من المد الشيوعي في تلك المرحلة تعرضوا لضغوطات كثيرة أثناء التحقيق، ومنهم باقر الشماسي الذي وضع ذات مرة في دولاب ضيق لا يزيد طوله عن متر ونصف خلال فصل الصيف حتى فقد الوعي بسبب الحرارة ونقص الهواء.
اعتقلت السلطات السعودية قرابة السبعين مواطناً من المدن الرئيسية الثلاث يمثلون مختلف التيارات السياسية
دامت فترة السجن بالنسبة للمعتقلين سنة وأشهراً، كان يزور (الطيب) ورفاقه في الرياض يومياً زملاءهم: سليمان توفيق (أستاذ العلوم السياسية لاحقاً) ومحمد مفتي (وكيل وزارة التخطيط لاحقاً)، والمرحوم حسني إكرام (من مسؤولي وزارة الزراعة)، كانوا يحضرون معهم الغداء والصحف... إضافة إلى تهريب بعض المطبوعات المصرية الممنوعة وبعض الكتب، وينقلون لأصدقائهم ما يجري في الخارج، كما أن الراديو كان مسموحاً به في السجن، فكانت تجري نقاشات يومية بين المعتقلين حول قراءاتهم أو أخبار الأصدقاء والراديو، (الطيب) قرأ في تلك الفترة كتابات الثائر القومي مطاع الصفدي، وتابع كتابات هيكل، النشاشيبي، إحسان عبد القدوس، أحمد بهاء الدين، وغسان كنفاني، ومن جهته استفاد (الخزندار) كما قال في حواره من مناقشاته اليومية مع الأديب المفكر عبد الكريم الجهيمان.
لاحقاً، آن أوان المحاكمة، فأحيل جميع المعتقلين إلى محكمة خاصة برئاسة القاضي محمد بن جبير (الذي أصبح لاحقاً رئيس مجلس الشورى)، وصلوا إلى ديوان المظالم مكبلين بالسلاسل ومدججين بفرقة عسكرية، ومن ضجيج الحديد وأحذية الجنود اصطف موظفو الديوان للفرجة عليهم وكأنهم كائنات غريبة من كوكب بعيد.
تلا الزعيم علي صيرفي المدير العام للمباحث في المملكة، وقتها، لائحة الاتهام في قاعة المحكمة متهماً المعتقلين بالتخريب والانتماء لجمعيات هدامة، مستدلاً على ذلك بأنه وجد عندهم كتباً ممنوعة. يقول (الطيب): «بكل خوف ووجل طلبت الكلام، وحين أذن لي ابن جبير، قلت: يا فضيلة الشيخ... لو وجدوا عندك نسخة من التوراة أو الإنجيل هل هذا يعني أنك يهودي أو نصراني، رد الشيخ: أبداً... من حقك يا أخ محمد سعيد أن تقرأ ما تريد (وكانت كلمة يا أخ نسمعها لأول مرة منذ الاعتقال من أي مسؤول). حينها وقف الزعيم الصيرفي يريد المقاطعة، لينهره ابن جبير بحزم: اجلس يا علي. وجلس ولم ينطق حتى انتهت المحاكمة»، وكان الحكم «عدم ثبوت ما يدين المتهمين».
هذا الحكم شمل (الخزندار) وعبد الكريم الجهيمان ومحمد حسن الجشي وزكي الخنيزي من معتقلي الشرقية، يقول (الخزندار): «الشيخ ابن جبير الذي كانت المحكمة برئاسته هو الذي حاكمني، وكان المدعي العام وأظن اسمه عبد الحليم حمزة وجه إلي تهمة قال فيها إن لي ميولاً فكرية ممنوعة، فقلت له الميول محلها القلب والسلطان لا ولاية له على القلب. وكان الشيخ ابن جبير يقول لي: هذا صحيح لكنه لن ينفعك، فلماذا لا تقول ليس لدي ميول وتريح نفسك. والشيخ ابن جبير قال ذلك ليتخلص من الحرج، فالإنسان لا يسجن لمجرد ميوله... كانت المحاكمة بالنسبة لي عادلة».
بعد المحاكمة، أصدر الملك فيصل بن عبد العزيز عفواً شاملاً عن المعتقلين (والذي يعني أن هناك جرماً قد حصل ولكنه عفا عنه) وفصل الموظفين المدنيين منهم والعسكريين من أعمالهم، ومنعهم من السفر، وأصدر بياناً رسمياً بذلك في التلفاز والصحف والإذاعة في رمضان 1385 هـ (الموافق لديسمبر 1965).
هذا الحكم وهذا العفو، استثني منه قسم كبير من معتقلي المنطقة الشرقية لانتمائهم لجبهة التحرر الوطني، حيث قسموا إلى 3 فئات: الأولى... حكم عليها بالسجن 3 سنوات من ضمنهم عبد الله الغانم وعبد الرحمن المنصور والشاعر عبد الله الجشي وعبد الله الحقيل... ونفذوا الحكم على كامل المدة وخرجوا. الثانية، حكم عليهم بالسجن 10 سنوات ومنهم: باقر الشماسي، عبد الله الشماسي، موسى آل حسان، منصور إخوان، الشاعر والمؤرخ محمد سعيد المسلم، وعبد الرؤوف الخنيزي (الذي توفي في السجن قبل انقضاء محكوميته). الثالثة، حكم عليهم بالسجن لـ15 سنة ومنهم: حسين الشماسي، علي العوامي، يوسف الشيخ يعقوب، عبد الحميد الزاير، ومواطن بحريني اسمه خلف خلفان، والطريف وفق رواية باقر الشماسي أن وفوداً كثيرة من الوجهاء والأهالي زارت الملك فيصل للعفو عن الفئة الثانية والثالثة ولكن محاولاتهم باءت بالفشل، حتى زار وفد نسائي من زوجات المعتقلين وأمهاتهم الأمير نواف بن عبد العزيز مستشار الملك فيصل، وقتها، للشفاعة في محكومي الفئة الثالثة وتكللت المحاولة بالنجاح والعفو، فسار على دربهن وفد نسائي آخر زار نائب وزير الداخلية في ذلك الحين الأمير نايف بن عبد العزيز وكان النجاح حليفهن أيضاً في العفو عن ذويهن من الفئة الثانية. يقول (الشماسي): «خرجت قبل انتهاء مدة الحكم بشهر وعشرين يوماً، وزارني قبلها بعض ممن حكم عليهم بـ15 سنة وأعفي عنهم! ولقد استفدت كثيراً من تلك التجربة في حياتي الخاصة وزادت مداركي وثقافتي نتيجة الحوارات التي جرت مع رفاق الزنزانة، وخصوصاً عبد الرزاق الريس (مدير مكتب العمل والعمال في المنطقة الشرقية سابقاً) وعبد الله الهاشم ويوسف الشيخ يعقوب».
ختاماً، لا أستطيع ادعاء أنني رويت القصة كاملة لسببين: الأول .. أن القصة تنقصها رواية النظام، ولا يستطيع أحد أن ينقل هذه الرواية دون وثائق رسمية، لذا فالمطلوب أن تقدم السلطات على إتاحة الوثائق المرتبطة بهذه المرحلة للباحثين والمهتمين من منطق إتاحة الفرصة لقراءة التاريخ قراءة جديدة وشاملة حتى نفهم ما جرى وما سيجري. الثاني، هو أن هذه القصة المشرقة، لا تكتمل إلا برواية ما جرى في المملكة سنة 1969م، وبقدر إشراق القصة الأولى، سنفاجأ بسوداوية القصة الثانية ومأساويتها... وبين الإشراق والسواد نرتجي المحصلة النهائية التي لا أشك في إيجابيتها، فهل سيتحمل الشهود رواية أحداث 1969 وهل سيتحمل المتلقي سماعها؟! وكما قلت سلفاً، إن رواية التاريخ، التي حاولتها هنا من زاوية الصحافي لا المؤرخ، ليست محاولة من أجل استنساخ عبثي أو نواح ممجوج، بل للاستفادة والتعلم، ولا أجد لشرح هذا المعنى أجمل من مقولة فيلسوف قديم: أقف على أكتاف الماضي... حتى أرى أوضح... وحتى أرى أبعد.
* صحافي سعودي