يبدو الحراك الراهن وكأنه استنفذ وسائل توسّعه. مع أن المستقبل قد لا يخلو من المفاجآت في ظل تأزّم البلاد. وفي وجه الحراك، تبدو الطبقة السياسية اليوم واثقة، ثابتة، لا تحتاج إلى الإكثار من الكلام أو لتغيير خططها، ما عدا ربما في موضوع النفايات. وقد احسن القيّمون على الحراك بإعلانهم عن خطّتهم الخاصة للنفايات، والدعوة الى التظاهر في الثامن من تشرين الجاري ستقدّم بعض المؤشرات عن مدى نجاح الخطوات المتّبعة راهناً. لكن الامور، اذا استمرّت ببطئها الراهن وتوقّف الحراك عن جذب جمهور أكبر، فالأحرى بمكوّناته المُهتمة باستكمال الصراع مع السلطة أن تستفيد من سمعته او «تاريخه» أو دعايته الراهنة للمضي الى مرحلة ثانية من العمل التنظيمي، إلى ساحات أخرى.
الحراكات السياسية إذ تواجه الصمت

إن الصمت من السياسة. هذا ما يجب ان يستوعبه القيّمون على حراكات أو أحزاب مطلبية ناشئة. وتجربة حراك «هيئة التنسيق النقابية» في سنوات 2012 الى 2014 خير دليل على ذلك: فقد كان الصمت او السكوت من الوسائل الرئيسة المعتمدة من قبل الطبقة السياسية في مواجهة الحراك. طبعاً، تذخر تفاصيل معركة الهيئة بأمثلة لوسائل مواجهة متعددة اعتمدتها السلطة، من التهديد الشخصي، الى تهديد جماعات كاملة بأرزاقها و«بالازمة الاقتصادية»، وزرع القسمة بين الموظفين، وحتى «النقاش المهذّب» (كانت هناك مرحلة أُخذ فيها وزير التربية الياس بوصعب على انه صاحب مصداقية). لكن مراقبة مرحلة الصراع كاملة ومع مرور الزمن لا يمكن إلا أن تؤكد أن السكوت المُطوّل ومراحل الانتظار الطويلة بذرائع متعددة، كانت من العوامل الموضوعية الاساسية في نسج واقع الصراع، ان لم تكن أيضاً نتيجة خطّة مُحكمة وواعية للطبقة السياسية بالتنسيق بين اركانها مجتمعة. وقد أدّت دورها في القضاء على الحراك في نهاية المطاف، عندما جاء موعد انتخابات الروابط، في مرحلة كانت تتسم «بالانتظار والسكوت» بين قيادة الهيئة والسياسيين، وبالتالي في مرحلة كانت امكانية التعبئة فيها، والتعبئة الانتخابية ضمنها، مستعصية على قيادة الهيئة في وجه تعبئة الاحزاب السياسية لقواعدها في جسم الاساتذة. لو حصلت انتخابات رابطة «اساتذة الثانوي» في اليوم التالي لتظاهرة 14 أيار 2014 مثلاً، كانت كتلة النقابيين المستقلّين على الارجح لتنال نسبة اكبر من الاصوات وتطيح بتحالف احزاب الجمهورية المُجتمعة ضدها او تحرج بعضها على الاقل. وهذا درس للتنظيمات النقابية المستقلّة كافة، ان وجدت، ان لا تنظّم انتخابات لا يمكنها الفوز بها عندما يكون الخصم مخترقاً لجسمها الانتخابي، وهو ما تفعله الاحزاب السياسية المهيمنة بالنسبة إلى الانتخابات النيابية.
ارساءً للسكوت، قامت الحكومة ثم المجلس النيابي بتأليف «لجان»، كما هو حاصل اليوم في موضوع النفايات، وقالت بأن على اللجان المُؤلفة أن تدرس وتبدي رأيها وأن تُعطى الوقت الكافي لتقوم بمهامها، وكانت الامور تستمر على هذا النحو لأشهر عدة بمعزل عن المهل الدستورية التي تقيّد اعمال مجلسي الوزراء والنواب في المقابل. ولم يُعطَ للإعلام وجمهور المُهتمين، بالمحصلة، سوى مواعيد لاجتماعات اللجنة المؤلّفة. وهي كل ما أمكن لحراك «هيئة التنسيق» في حينه التقاطه للدعوة للتظاهر والاعتصام. وكانت الاعتصامات في حينه دائماً باهتة وصغيرة، اذا ما قورنت بتلك التي نُظّمت بالعلاقة مع مواعيد اجتماعات مجلسي الوزراء والنواب. لم تشكل هذه المناسبات أبداً وزناً رمزياً كافياً لجر الجمهور المتعاطف الى التظاهر والتعبئة. في أذهان الناس، تقول التجربة، على الاسباب المستفزّة للتحرّك ان تكون بمستوى اكبر من مجرّد الرد على ظهور اكرم شهّيب متبسّماً وحاملاً محفظة ملفّات تحت ابطه، في طريقه من سيارته الى مبنى مجلس النواب او الى حيث تَعقد اللجنة اجتماعها. لهذا السبب تؤلّف اللجان، لتبخير وزن الصراع في وجوهٍ خفيفة. وهي وسيلة السلطات للدعوة للسكوت. «لماذا تصرخون؟» تردّ اللجنة على من قرر إبداء انتقاداته. والسؤال فيه صواب، في المنطق الاجتماعي، ليس لأن «على اللجنة ان تأخذ وقتها للبحث»، بل لأن اللجنة بحدّ ذاتها بالكاد تشكّل خصماً يرتضيه المرء لنفسه. انظروا الى وجه اكرم شهيّب وقولوا لي: من يستطيع ان يقول لأولاده واصدقائه «لقد تظاهرنا في وجه هذا الرجل»؟ وهنا طبعاً، يشكل تأليف منظمي الحراك للجنتهم، وطرحهم لخطتهم، خير ردٍّ على مناورة السلطة هذه، ولو ان هذا الرد لا يحلّ كل المعضلات في وجه سكوت اعلى هرم السلطة وفي نجاح تأليف «اللجنة» بسط السكوت عند الجمهور الذي حُرم من مواجهة «المشنوقين».
ولسوء حظّ الحراكات السياسية، ان علاقتها بالسلطة القائمة ومنطق استقطابها للناس مرتبط بشكل وثيق بشكل تخاطبها مع السلطة. اذا سكتت السلطة، وتوقّفت عن تقديم مناسبات لمنظمي الحراك للتكلّم، للانتقاد المباشر، للسخرية والشتم، سيتوقف الحراك نفسه عن الكلام، وسيخف ثقله على المستوى الاعلامي، ومدى تعبئته للناس.

بعض خصائص الساحة الجامعية

لهذه الأسباب يجدر بالحراكات السياسية والاحزاب ان تَنقل المواجهة من نقاط التماس المباشر مع اعلى هرم السلطة (اي مع «كلّن» ورؤساء مجلسي الوزراء والنواب) الى نقاط تماس مباشر اخرى، مع سلطات أصغر حجماً وأدنى هرمية، فيما ان اعلى الهرم السياسي قد التزم بالسكوت إزاء الحراك وقضيته، ولم يعد يقدّم التصريحات الفضائحية. والمعركة ضد مراكز سلطةٍ اصغر حجماً، ضمن شعار استكمال المعركة التي بدأها الحراك، اي ضمن شعار «وطني»، قد يكون كسب النقاط من خلالها اسهل، وكذلك استكمال التوسّع التعبوي، ولو بوتيرة أبطأ من وتيرة التظاهرات المركزية. والجامعات، ضمن هذا الاطار، هي انسب الساحات للانتقال الى هذه المرحلة من العمل لأسباب عدة.
ان النظرة وحدها الى اهتمام الاحزاب السياسية المهيمنة كافة بالجامعات، كفيل بالدلالة الى مدى اهميتها بالنسبة إلى أي قضية سياسية ومطلبية. واهمية الجامعات هذه، ودليل تشكيلها اطار صراع سياسي له منطقه الخاص، لا يخضع للمستوى الاعلى للخطاب السياسي الوطني، ولا يعطّله سكوت اعلى الهرم السياسي، بل يفتح السكوت الباب لتطوّراته. وهو ما يمكن ملاحظته اثناء الانتخابات الطلابية، فيما يتصارع احياناً في الجامعة من هم حلفاء سياسيون في مجلس النواب ومجلس الوزراء، ضمن ديناميكيات وخطابات خاصة بالتكوين الاجتماعي للطلاب.
والساحة الجامعية مُتنوعة التكوين الاجتماعي بما فيه الكفاية لفسح المجال لتعدد التجارب التنظيمية الجديدة، حيث فَشَل التنظيم في جامعة اولى يُعوَّض عنه نجاحه في جامعة ثانية، ويَكفَل انتقال عدوى التعبئة الى جامعة ثالثة بحكم ديناميكية الحياة الطلابية، اذ ان هذه الفئة من الراشدين أكثر قابلية لتوسيع حلقة الصداقات والمعارف وبالتالي تبادل المعلومات، وبعض فئاتها على اطّلاع مُستمر على ما يحصل ويُنجز ويُقدم للطلاب في المؤسسات الجامعية الاخرى.
في الجامعات، سيكون للحراك، او للعمل السياسي والمطلبي بشكل عام اذا ما انتهى الحراك، جمهور من المشاهدين يمكنه متابعة النشاطات عن كثب من دون الاتّكال على التغطية الإعلامية. هكذا يمكن لمجرد جسمٍ مشتت من الناشطين اعلام زملائهم الدراسيين بآخر مواعيد ومستجدات وتحدّيات الحراك او التعبئة السياسية والمطلبية المرجوة. والجسم الطلّابي هو الاقرب من حيث تكوينه او مظهره الطبقي الى فئات المتظاهرين الذين امكن مشاهدتهم في التظاهرات والاعتصامات في الشهرين الماضيين (هذا ان لم يكن المتظاهرون منتمين الى الجسم الطلابي نفسه)، وبالتالي هو الاكثر احتمالاً الى التجاوب مع هؤلاء.
والجسم الطلّابي هو فئة شعبية لا يمكن الإمساك بها عبر تهديدها بقطع مصادر تمويلها، بعكس باقي فئات الراشدين مثل موظّفي القطاعين الخاص والعام بدرجة اقل، والاساتذة، والمهن «الحرة» والفئات «الهشة» التي باتت تشكّل غالبية اليد العاملة الوطنية. والطلاب، لكل هذه الأسباب، محطّ اهتمام الاحزاب السياسية المهيمنة، ومنطلق تنظيم الاحزاب المهيمنة لتظاهراتهم خارج الجامعة. وهنا لا يمكن التشديد كفايةً بأهمية ان يستند المرء الى علم (الى مراقبة للتجارب الناجحة الاخرى)، في تخطيطه للعمل «السياسي» او «المطلبي» او «الثوري» او سمّه ما شأت، فيما ترزح اعمال التنظيمات المطلبية الصغيرة التي برزت منذ انتهاء الحرب الاهلية تحت ثقافة «رفض التنظيم» و«رفض الاحزاب» وادّعائات «منهجيّة» مستوردة بائسة، فيما ان الحراكات المطلبية الناجحة في الغرب لا تختلف في اسس تنظيمها عن عمل «هيئة التنسيق النقابية» والتنظيم الحزبي التقليدي.
لكن الاهم من كل ذلك، ان الجامعات هي مجالٍ يحتاج الى ثورة اجتماعية وبرنامج سياسي لأسبابها الخاصة. والجامعات تشكّل افضل المنصّات لتغيير المُجتمع، وهي المولجة رسمياً ووظيفياً لتحقيق هذا الدور. وبينما يتخبط الطلاب الجامعيون اثناء دراستهم بالتوهّم والتوتّر في خصوص تصوّراتهم المِثالية لمهنتهم (وهو ما توجبه ضرورات العمل الاكاديمي)، يجب ان يقال لهم ان ثلثهم على الاقل لن يجد وظيفة او سبيل أجر في لبنان، ما سيرتب عليهم تضحيات كبيرة في مستوى عيشهم وربما تطلّعاتهم وفي خياراتهم المهنية على الارجح.
يجب ان يقال لطلاب «الجامعة اللبنانية» مثلاً، ممن سيبقى في لبنان، ان معظمهم لن يُعطى وظيفة في المؤسسات التجارية الكبيرة في البلاد، ما عدا في أسفل الهرم الوظيفي، بسبب عنصرية خرّيجي الجامعات الخاصة العتيقة تجاههم، فيما يشغل أسوأ ابناء هذه الجامعات ادارات الشركات الكبيرة واغلب المقاعد النيابية والوزارية، ويُهاجر ابناؤها الآخرون. وان يقال لمن اختار الجامعات الخاصة الجديدة، ذات سعر القسط الدراسي المتوسّط، ان حظوظهم لن تفوق حظوظ طلاب الجامعة اللبنانية، وان اقساطهم المدفوعة لهذه المؤسسات هي بمثابة اطلاق المرء لعيار ناري بنفسه، من وجهة نظر التعليم الوطني.
انطلاقاً من هذه النقاط وغيرها، يمكن للناشطين ان يعيدوا صياغة التجربة الجامعية ودورها بالنسبة لقسمٍ من مرتاديها، ومعها ان يعيدوا تربية الجسم الطلابي، اي تربية هذه الفئة من المواطنين المستقبليين في علاقتهم مع ادارة البلاد الخاصة والرسمية. والعمل في الجامعات، لا يتناقض مع العمل المستمر على اقامة تظاهرة مركزية في منطقة وسط بيروت، ولا مع اقامة اعتصامات امام الوزارات، ولا التنسيق مع اعتصامات المناطق امام المطامر. والدعوة للعمل في الجامعات الآن قد تخص الحراك الراهن وحده وتستثني غير اطر تنظيمية موجودة في لبنان (مثل النقابات والروابط و«الحملات»)، لان اللحظة تبدو سانحة لشيء تكّون خلال الصيف، الحراك المديني، لكي يتطّور في اتجاه تكوين بداية تنشئة سياسية مختلفة، ضمن امكانيات هذا الحراك. والهدف من العمل في الجامعات هو المحافظة على التنظيم المطلبي وديناميكيته بالشكل الاسهل بالنسبة إلى تنظيمات حراكية بات من الضروري ان تدرك حدودها من جهة، وان تخطط على اساس ادراكها من جهة اخرى، والمطلوب مجرّد محطّات انطلاق الى باقي المجتمع. اما باقي ساحات الصراع التي يمكن التوسّع فيها، فتبدو لي القرى المجاورة للمطامر المُحتملة، وجسم موظّفي الدولة والاساتذة المدرسيون اكثرها قابلية للتجاوب مع متابعة ما تكوَّن في صيف هذه السنة، إنما بأثمان أكبر.