سعد الله مزرعاني *تستحقّ الزيارة الثانية، أوّل من أمس، للعماد ميشال عون، رئيس «التيار الوطني الحر»، لدمشق، أكثر من وقفة. إنّها تكرّس مساراً يثابر عليه عون منذ عودته إلى لبنان في أوائل أيار عام 2005، بل من قبل أن يعود، حين جالت وفود من قبله، في أواخر عام 2004، على القوى السياسية اللبنانية، من أجل بحث مرحلة ما بعد الانسحاب السوري من لبنان. يومها طرح ممثلو العماد عون (كنت ممّن استقبلوا أحد هذه الوفود في مكتب الحزب الشيوعي) أن يكون الانسحاب السوري أمراً متفاهماً عليه بين اللبنانيين، وكذلك مع القيادة السورية. بدا هذا الطرح، آنذاك، سوريالياً لجهة الحديث بمثل هذه البساطة والثقة، عن الانسحاب السوري، وبدا أيضاً شديد التفاؤل لجهة أن يحصل ذلك بالتفاهم بين الأطراف اللبنانية عموماً ومع الطرف الرسمي السوري خصوصاً!
يتبيّن الآن، من خلال مسار متواصل، أنّ العماد عون يغذّي منذ ذلك التاريخ، تصوّراً بشأن توجّهاته ومنها العلاقة مع سوريا، ليست الزيارتان طارئتين عليه، بل هما، في الواقع تكريس له بكلّ ما في الكلمة من معنى.
ويقتضي الاستدراك أوّلاً، والموضوعية ثانياً، أن نلاحظ بأنّ حلفاء العماد عون من اللبنانيين ومن المسيحيين خصوصاً، قد ساهموا في دفعه نحو مواصلة ما كان قد بدأه قبيل مجيئه إلى لبنان. فهم أقاموا علاقاتهم وترتيباتهم من دون أن يكون شريكاً فيها أساساً، ومن دون أن يحتلّ الموقع الذي ينسجم مع دوره ومساهماته وحجمه التمثيلي، ثانياً.
يجب أيضاً ملاحظة أنّ التطوّرات المتلاحقة على الساحة الإقليمية والعربية واللبنانية قد دفعت بالسوريين وحلفائهم إلى الانفتاح على العماد عون في منفاه الباريسي أوّلاً، ثمّ فور عودته إلى لبنان ثانياً.
لكنّ الموضوعية تقتضي أيضاً الإقرار بأنّ حلفاء عون وخصومه آنذاك لم يكونوا هم من صاغوا الأساسي من سياساته وتوجّهاته التي تتبلور اليوم وتتطوّر إلى خيار شبه متكامل لجزء أساسي من الرأي العام المسيحي في لبنان. ولعلّ هذا هو بيت القصيد في الصراع الضاري والمثابر الذي تشهده الساحة «المسيحية» حول الخيارات والعلاقات والتحالفات والتحوّلات ... على نحو ما نشهده ونلمسه ونعيشه ويعيشه كلّ اللبنانيين.
وتقودنا هذه المقدّمة إلى محاولة تلمّس بعض مفاتيح الصراع في الوسط المسيحي، وكذلك على الصعيد اللبناني ككل. ففي الحقل الأوّل (المسيحي) ينطلق خصوم العماد عون، في المؤسّسة الدينية وفي المواقع المدنية، من أنّ للمسيحيين «ثوابت» لا ينبغي أن يتحوّلوا عنها، فإذا تحوّلوا، كفّوا عن كونهم مسيحيين، أو فقدوا ميزة النطق باسم المسيحيين أو القدرة على تمثيلهم، في أحسن الأحوال. ومن تلك «الثوابت» المعروفة (المعلنة أو المضمرة) الحذر حيال العروبة والمسلمين من جهة، والنزوع نحو التعاون مع الغرب، من جهة ثانية. من ذلك أيضاً، رفض انخراط لبنان في الصراع العربي الإسرائيلي، واعتماد نظرية «الحياد» إزاء ذلك الصراع. بموجب ذلك باتت إسرائيل صديقة صديق، وبات من الممكن في ظروف مؤاتية أو مفروضة، الانفتاح عليها، بل حتى مدّ يد التعاون معها في غير عنوان ومجال!
وتتكامل هذه «الثوابت» طبعاً، مع ترتيبات على المستوى الداخلي اللبناني لضمان السيطرة على الحيّز الأكبر من القرار في مؤسسات السلطة السياسية والإدارية والأمنية والقضائية...
لقد بدأ العماد عون بالانفصال عن «المعادلة المسيحية» التقليدية و«ثوابتها» تدريجاً كما ذكرنا. وكانت تجربته الأولى المريرة مع الولايات المتحدة نفسها. فهذه الأخيرة دعمت في لبنان، كلّ المرحلة الممتدّة ما بين عامي 1989 (اتفاق الطائف) و2004. وهي قد دعمت فعلاً، أيضاً، عملية إطاحة سلطة العماد عون وقصفه في القصر الجمهوري. ثمّ ساهمت في إبعاده، والإمعان في ذلك، حتى برزت مرحلة الغزو الأميركي للعراق وتبدّل الموقف الأميركي إزاء الوضع في لبنان عموماً، وإزاء النفوذ السوري فيه خصوصاً.
خيبة عون من واشنطن لم تحلْ دون محاولاته لتبديل مواقف إدارتها حيال الوضع في لبنان. لكنّ ذلك لم يتمّ إلا بعد الغزو الأميركي للعراق، وبعد الاعتراض السوري على هذا الغزو وأهدافه العراقية والشرق أوسطية على حدّ سواء.
الترتيبات التي اعتمدتها واشنطن في لبنان، ومنها دعم تحالف 14 آذار، عزّزت السمة المصلحية للسياسات الأميركية في نظر الجنرال عون. وقد تكرّس هذا الأمر تباعاً، حين انخرطت الولايات المتحدة عبر ممثليها الرسميين المقيمين والوافدين، في متابعة تفاصيل الحياة السياسية اللبنانية وتوازناتها، ممارسة وصاية كاملة عليها، مهملة أيّ دور للعماد عون فيها!
في مواجهة ذلك، خاض العماد عون معركة مصيرية ولا يزال. لقد كشفت انتخابات عام 2005 ما يملكه من رصيد وعطف مسيحيين فاقا كلّ تصوّر (أطلق عليه وليد جنبلاط وصف تسونامي). وهو بسبب ذلك بات هدفاً يجب توجيه كلّ السهام نحوه لإفقاده، خصوصاً، ما توفّر له من الدعم والعطف الشعبيين. ضراوة المعركة بلورت هي نفسها علاقات وتحالفات وتحوّلات جديدة. والأهمّ في ذلك أنّ ما بدأ به عون كمحاولة لبناء سلطة شخصية وموقع مسيحي تقليدي، قد تحوّل إلى مسألة خيارات جديدة مطروحة على الوضع المسيحي، ومتحوّلة بحكم تمحورها حول شخصية العماد عون، إلى خيار سياسي يتبنّاه على الأقل نصف المسيحيين، وخصوصاً الموارنة منهم.
في مجرى هذه المعركة، لم يشأ العماد عون أن يساوم على قناعاته. لقد مضى في العملية من دون تردّد، مقدّماً سياساته وتحالفاته للرأي العام المسيحي، بوصفها خياراً يشكّل أيضاً ضمانة للمسيحيين في ظروف المنطقة المتحوّلة. في هذا المجال كان عون جريئاً. وما حافظ عليه من أرجحية التمثيل في الأقضية ذات الغالبية المارونية، أعطى لسياساته وتحالفاته وتحوّلاته مشروعية شعبية جديدة. لقد تراجعت نسبة التأييد له (ليس بالحجم الذي تمنّاه الخصوم وخشية الأصدقاء)، لكنّه بقي الأقوى ليس بالمقارنة مع طرف بعينه من الأطراف المسيحية المنافسة (بما فيها الكنسية)، لكن بالمقارنة مع منافسيه وخصومه الدينيين والزمنيين مجتمعين. الدليل على ذلك الأرقام نفسها وخصوصاً نجاح لوائحه في كسروان وجبيل والمتن وبعبدا.
من هذا المنظار، يمكن القول إنّ عون قد ساعد في إحداث تحوّل تاريخي في الوسط المسيحي التقليدي في لبنان. حدث ذلك رغم الشروط والظروف غير المؤاتية (الغزو الأميركي للمنطقة، بعض مرارات التجربة السورية في لبنان، تواضع أداء حلفائه في الثامن من آذار...).
ينظر البعض اليوم، إلى زيارة عون لدمشق من زاوية تنافسية محدودة ومحدّدة مع موقعيْ رئاسة الجمهورية والحكومة، أو ربّما حتى مع النائب سليمان فرنجية كما يعتقد البعض. هذا تحجيم للزيارة التي يقع سياقها في ما عرضناه من التوجهات والخيارات التي تبنّاها عون وتبنّاها تياره، ومعهما نصف المسيحيين في لبنان على الأقل (وحتى إشعار آخر)، لأنّ هذه الخيارات لم تترسّخ رغم ثباتها النسبي، بما فيه الكفاية، حتى الآن.
من هذا المنطلق يمكن فهم إلحاح العماد عون على إضفاء الطابع «المسيحي» على سياساته وتوجهاته. ومن هذا المنطلق أيضاً يمكن فهم تراجع ما كان يذكره في بداية عودته إلى لبنان من حديث عن الدولة المدنية غير الطائفية. إنّ تثبيت نفوذ العماد عون المسيحي وإرساء هذا النفوذ على قاعدة توجّه جديد في العلاقات العربية والخارجية، هو أمر ذو أولوية كرّرها العماد عون مراراً، ومنها في المقابلة الشهيرة التي جمعته مع السيّد حسن نصر الله في العام الماضي.
يجب عدم التقليل من حجم هذا الإنجاز، ولا يجوز التقليل من آثاره السابقة واللاحقة.
لقد أسهم العماد عون في صنع التاريخ. لبنان يحتاج إلى حلقات إضافية تراكم نحو تحوّل هذا البلد إلى وضع طبيعي يزول معه التشوّه المخيف الذي تركه في جسده النظام الطائفي وتداعيات هذا النظام في العلاقات بين اللبنانيين وبينهم وبين الخارج.
* كاتب وسياسي لبناني