علاء اللامي *أُعلن أخيراً في بغداد، في خضمّ الاستعدادات لحملة الانتخابات التشريعية القادمة، اندماج كيانين سياسيين، هما «حركة الوفاق العراقية» التي يقودها أول رئيس للوزراء عُيِّنَ في عهد الاحتلال، والقيادي البعثي السابق والمستقيل من حزبه سنة 1975، السيد إياد علاوي، و«الجبهة العراقية للحوار الوطني» التي يقودها السيد صالح المطلك، وهو قيادي بعثي آخر فُصِل من الحزب سنة 1977. وقد أُطلق على الكيان السياسي الجديد اسم «الحركة الوطنية العراقية».
يعكس هذا الاسم نوعاً من الحنين إلى «جبهة الاتحاد الوطني» بوصفها حركة التحرر الوطني التي يُسجَّل لها إنجاز ثورة 14 تموز/ يوليو 1958، وهي الثورة التي أقامت النظام الجمهوري وأخرجت العراق من دائرة التبعية للغرب، ممثلاً بحلف بغداد. إنها صبوات ونوازع المندمجين لاستعادة أمجاد المسمى القديم ودلالاته! فهل يكون هدف كهذا ممكناً؟
يمكن القول إن النسخة الأصلية من الحركة الوطنية التي عبّرت عن نفسها في «جبهة الاتحاد الوطني العراقي» قد انتهت تاريخياً عقب الانقلاب الذي قاده اليمين القومي العراقي بقيادة البعث في 8 شباط/ فبراير سنة 1963، والذي أدى إلى دوامة من القمع والاحتراب الدموي بلغت ذروتها خلال عهد الرئيس السابق صدام حسين، وانتهت بخضوع البلاد للاحتلال الأجنبي وفقدان استقلالها.
هناك نوع من الخصوصية السياسية «اللامبدئية» التي تطبع الوضع الراهن
غير أن البعض قد يجد هذه النهاية لعمر الحركة الوطنية العراقية مبكرة، أو متسرعة، فيحاول مدها إلى فترة التحالف السياسي بين حزب البعث الحاكم والحزب الشيوعي العراقي والأحزاب الكردية في بداية السبعينيات من القرن الماضي، حتى تلاشي تلك التجربة وانهيارها مع نهاية ذلك العقد إثر موجة جديدة من القمع والتصفيات الجسدية. إلا أن ما حدث وقتذاك ليس «انبعاثاً جديداً» للحركة الوطنية العراقية القديمة، لأن بعض مكوناتها كالبعث والشيوعي و«البارتي» (الحزب الديموقراطي الكردستاني)، انضمت إلى مشروع السلطة البعثية آنذاك، ولأنه في حقيقته لم يكن سوى تحالف سياسي تكتيكي لجأ إليه البعث العائد إلى السلطة بعد انقلاب عسكري نفذه في 17 تموز/ يوليو 1968، وكان وقتها منبوذاً جماهيرياً ومعزولاً سياسياً وبحاجة إلى من يساعده على تبييض صفحته الملطخة بدماء مجازر انقلاب 8 شباط/ فبراير1963، فهرع إلى بناء تحالف تكتيكي سمّاه «الجبهة الوطنية والقومية التقدمية»، وهي في الواقع ليست إلا هيئة حكومية، بدأت وانتهت ككيان كارتوني هامشي لا سلطة حقيقية له.
بين «الحركة الوطنية العراقية» القديمة، التي لفظت أنفاسها إثر سلسلة الانقلابات العسكرية والأنظمة الدكتاتورية التي أنجبتها تلك الانقلابات، وبين الوليد الجديد للسيدين المطلك وعلاوي، الكثير مما ينبغي التوقف عنده تفحصاً واستنتاجاً:
إن هذه الحركة الاندماجية تعني، ضمن ما تعنيه، أن قياداتها حسمت أمرها، وقررت الكفّ عن ملاحقة التحالفات الكبيرة، وخصوصاً تحالفي السيدين الحكيم والمالكي، اللذين خاضت معهما نقاشات ومفاوضات مطوّلة ومضنية طوال الأشهر الماضية. فقررت أخيراً أن تجرب حظها في أن تكون نواة لمجموعة من القوى التي تجمعها أمور عديدة من بينها:
ـــــ الخلفية البعثية للمؤسسين والقياديين فيها.
ـــــ المشاركة في العملية السياسية الاحتلالية القائمة على أساس المحاصصة الطائفية وقيادتها في مراحلها الأولى.
ـــــ الرفض اللفظي للطائفية السياسية، التي يُقصَد بها عملياً هيمنة الأحزاب الإسلامية الشيعية الصديقة للنظام الإيراني، والحرص على حصاد أكثر ما يمكن من أصوات مناطق نفوذها، وخصوصاً في مناطق العرب السُّنة، مضافاً إليه ما يستجلبه وجود قيادي «شيعي» ذي خلفية بعثية كعلاوي من مناطق العرب الشيعة.
ـــــ رفضها سياسات اجتثاث البعث وبرامجه، ومطالبتها الخجولة للبعثيين بالاعتذار للشعب العراقي عمّا فعلوه خلال سني حكمهم، كما ورد في بيان إعلان الاندماج.
ـــــ مناوأة إيران وحلفائها في العراق وخارجه، والدفاع عن مناوئيها كمنظمة «فدائيي خلق».
ـــــ دفاعها عن الدول العربية وأنظمتها الحاكمة من دون تحفظات أو استثناءات.
ـــــ سكوتها، إلا ما ندر، عن جرائم التنظيمات التكفيرية وخصوصاً «القاعدة»، ومحاولتها تبرئة هذه الجهات عملياً باتهام «فئات حاكمة متحالفة مع إيران» من دون أدنى تحفظ أو احتمالات أخرى.
ـــــ مناوأتها للأحزاب الكردية ومشاريعها الهيمنية من منطلقات قومية قد لا تقل تطرفاً في بعض الحالات عن تطرف القوميين الأكراد الانفصاليين. ويمكن إخراج إياد علاوي من هذا المشترك بفعل سياساته التي يحب تسميتها «البراغماتية»، والتي أوجبت عليه عقد العديد من الاتفاقيات والصفقات مع القيادات الكردية.
لقد استقبلت الكتل الأخرى هذا الوليد بمواقف ومشاعر مختلفة: فالجماعات الإسلامية السُّنية كقائمة الهاشمي، والقومية العروبية كجماعة الأخوين النجيفي، وجماعة النائب عزة الشاهبندر، وممثلي «البيروقراطية الشيعية الجديدة» ممثلة بحزب وزير الداخلية جواد البولاني، رحبت به بحرارة، وقالت إنها تناقش إمكان الانخراط فيه قريباً. أما تحالف السيد المالكي، فقد استقبل هذا الحدث بمناشدة حادة ومتوترة وجهها المالكي شخصياً في اليوم التالي لإعلان هذا التحالف الاندماجي إلى «الشعب العراقي وعوائل الشهداء والسجناء إلى أن يقولوا كلمتهم حتى لا يتسلل البعث إلى مجلس النواب». وأضاف في المهرجان الذي نظمته مؤسسة الشهداء أن «على أعضاء مجلس النواب ألّا يسمحوا للبعثيين أو من يتعامل معهم بالعمل تحت قبة البرلمان».
لا يمكن بالطبع اختزال موقف المالكي بتحسسه وتخوفه من بروز منافس انتخابي مؤثر. فالتحالف الجديد لا يعتدّ كثيراً بوزنه الحالي، ونتائجه الانتخابية المتوقعة بعد ما حدث لأطرافه من انشقاقات وانسحابات، ولا حتى بالعقلية الثأرية التي يتهم البعض المالكي بتبنيها إزاء البعث ورموزه وتجربته. لكن يمكن أن يعكس كل ذلك الكثير من التناقضات التي يجيش بها الوضع العراقي عموماً، والقوى التي يحويها تحالفه هو ـــــ المالكي ـــــ خصوصاً.
بناءً على هذا، يمكن أن نفسّر ابتعاد المطلك عن التحالف الذي توقعه كثيرون مع المالكي أو بالمثل ابتعاد علاوي عن تحالف الحكيم الذي اقترب منه كثيراً كما أشيع، بأنه نوع من محاولة قياس الوزن الذاتي قبل اتخاذ قرار أكثر أهمية في ما بعد. والواقع، أنّ نوعاً من الخصوصية السياسية «اللامبدئية» التي تطبع الوضع السياسي الراهن في العراق هي التي تزيل أو تبهت الفروق والفواصل بين مختلف القوى السياسية والقيادات التي برزت في عهد الاحتلال، وتجعل الوضع السياسي العام أكثر سيولة وفوضى. هذه الخصوصية، التي قد يصفها البعض بالانتهازية أو البراغماتية المبالغ بها، هي التي تجعل الجميع يتفاوضون مع الجميع ويلومونه ويوجهون له الاتهامات بالطائفية أو غيرها في الوقت نفسه. ولهذا السبب، فإن فروقاً جدية وعميقة بين هذا التحالف أو ذاك، بين هذا الحزب أو ذاك، بين هذا الزعيم أو ذاك، لا وجود لها، وإنْ وجدت، فهي في أحسن الأحوال لا تتعدى شعارات انتخابية لها جاذبية معينة أملتها المرحلة التي شهدت فشل المشروع الطائفي الذي جاء به الاحتلال.
ويمكن بالتالي أن تتمخض الانتخابات المقبلة عن تحالفات لا تثير استغراب أحد، ليس لأن الجميع من الطينة السياسية ذاتها وحسب، بل لأن بديلاً حقيقياً يناهض حكم المحاصصة الطائفية والاحتلال الأجنبي واحتمالات عودة الدكتاتورية لا وجود له على أرض الواقع.
يمكننا أن نرى في قيام التحالفات الفرعية، ومن بينها التحالف الاندماجي لعلاوي والمطلك ومن سيلتحق بهما، مسعىً للفوز بدور «بيضة القبان» مستقبلاً، ما دام ليس بوسع أحد الحصول على أغلبية مهما بدت متواضعة.
* كاتب عراقي