وائل عبد الفتاحليفني هربت من لندن. لم تفعلها في دولة عربية من الـ ١٤ دولة الموقّعة اتفاقية جنيف (١٩٤٩). القضاء البريطاني استجاب لحركة المجتمع المدني في ملاحقة مجرمة حرب. الاتفاقية تمنح «الاختصاص الجنائي العالمي» لقضاء الدول الموقّعة الاتفاقيات. الحق لا يفعل إلا بحركة مجتمع مدني، وفي دولة متّسعة الصدر يمكنها تقبّل مواقف متعددة. دولة تدير ولا تحكم. وتقبل من مجتمعها المدني الاختلاف عن توجهات سياستها المؤيدة لإسرائيل. لا كبير هنا على قانون «التعدد» والخروج عن مسار الدولة، القضاء لا يدار بالهواتف. ولا القوانين توضع في مخازن مثلجة لحين استخدام الدولة في قمع المجتمع.
المواقف المفضوحة للحكومة البريطانية مع إسرائيل لا يجري تقديسها أو تجميلها أو اعتبارها الرأي الواحد المنفرد لعموم بريطانيا. لا يفلت المجرم بجريمته إلّا في دولة تعتبر المجتمع من ممتلكاتها. هكذا تصرّفت الدولة في مصر أخيراً مع النقابات (آخرها نقابة الصحافيين). نفّذت عملية استرداد ممتلكاتها. المرحلة الأولى قضت على جماعات الإرهاب المسلح. ثم وضعت الأحزاب في جيبها السفليّ. وأتبعتها بنقابات العمال. ثم تفرغت للجمعيات الأهلية، وتسرّبت في مجالها لتحتكر وحدها قبل أيام الاحتفال باليوم العالمي لحقوق الإنسان. ومنذ أيام حسمت احتلالها مثلث الحرية الشهير (نقابتا المحامين والصحافيين ونادي القضاة).
لم تعد هناك أرض محررة تقريباً للمجتمع المدني. انكمشت قوته بعدما ضاق صدر الدولة في لحظتها الانتقالية. الدولة تصرّ على الحكم والإدارة معاً، وعلى الإحساس بها في كل شارع، وبقبضتها خلف كل قرار، ويدها المتسلّلة تحت أي حكم قضائي.
لهذا لم تلاحق ليفني في القاهرة، رغم أن مصر موقّعة الاتفاقية نفسها التي أعطت الحق للقضاء البريطاني بمحاكمتها، وفق واحدة من أربع اتفاقيات وقّعت في جنيف تحت إيقاع الرعب من الحروب المتوحشة.
الحق لا يتحرك من دون مطالب. ومساحة الحركة الحرة هذه لا تسمح بها الدولة في مصر، حتى وإن كانت مع مزاجها السياسي، أو من أجل دعم موقفها في ترتيب العلاقة مع العدو بعد اتفاقيات الصلح.
لم تسمح الدولة في مصر بإقامة دعوات ضد مجرمي الحرب، وحاربت من يحرج مواقفها الرسمية. أبوّة مستمرة رغم تخلي الدولة عن دور الأب. لكنها الرغبة في صنع هرموني إجباري لكي لا تتحول الآلات الشاردة الخارجة عن لحن الدولة إلى مجري (قطار) جديد يفقد الدولة ممتلكاتها أو سيطرتها.
والمشاهد عبثية غالباً. مصر هي الدولة القائدة في الحرب والسلم (ضد) إسرائيل (ومعها). لكنها لا تقدر على توقيف مجرمي الحرب الجوّالين في سمواتها وأراضيها. بينما أجهزة القضاء في بريطانيا وقبلها في جنيف تلاحق المجرمين من أرييل شارون إلى تسيبي ليفني.
والمسألة ليست في الخيانة بمعناها السياسي (أو القبلي أو الذكوري). ولكن بمعنى خيانتها لمبادئ الدولة المدنية الحديثة، التي لا تخضع المجتمع كله لهواها، وتلعب بالقانون على مزاجها وتعطّل استقلال مؤسساتها القضائية والتشريعية، وتصادر مؤسساتها الفاعلة.
هذه خيانة لا يلتفت إليها معارضو الدولة المشغولون بمواقفها لا بقوة مجتمعاتهم. دولة الاستبداد لا تنتصر إلّا على شعبها. لا ترى عدوها طرفاً في معركة. إنه مبرّر الاستمرار رغم خطره. لكن خطر العدو أهون ألف مرة من خطر المجتمع العارف طريق قوّته.
يُشغل المعارض بالهجاء عن السير في رحلة إعادة القوة إلى المجتمع؛ والدرس البريطاني أن جماعات حقوق الإنسان في دول تخالف الهوى الفلسطيني استطاعت ما لم تستطعه هنا في بلاد تسجّل المعدلات القياسية في استخدام الحناجر، وتذبل فيها العقول بسرعات خرافية.
هروب ليفني، ومن قبلها شارون في ٢٠٠١(من جنيف)، في عواصم غربية إشارة إلى انتقال الصراع مع إسرائيل إلى ملعب لا يعرف العرب عنه شيئاً. ملعب القوة فيه ليست مسلحة فقط. ولا السطوة فيه لدموع الضحايا، ولكن للانتماء إلى عالم يرفض الحرب، ويعتبر مجرميها عاراً على البشرية. يحتاج هذا إلى إعادة توازن داخلي تخرج فيه قوة المجتمع من مدافنها الباردة. ويحتاج أيضاً إلى إنهاء دور الندابات والضحية الباكية.. هذا حلم يضعه مشهد هروب ليفني من مطار لندن في قلب أسئلة وجود أقرب إلى العدم.